عظم الله لكم الأجر بهذا الامصاب غالياتي
منوراتني
أ . في عهد معاوية:
لطالما تساءل الكثيرون عن السبب الذي حدا بالحسين (عليه السّلام) لتأجيل انتفاضته إلى عهد يزيد ، ولِمَ لَم يفجّرها في عهد معاوية ما دامت مفاسده ظاهرة للعيان ؟ وما دامت الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت إلى درجة التراقي ووصل بها سيل الاضطهاد الزُبى ؟
ولكثرة ما طرح هذا التساؤل ، ولكثرة الإجابات المتشابهة في كثير من الأحيان ، والتي تبعد غالباً عن حقيقة هذا التأجيل ، وعن جوهر الهدف منه ، فإنّ تبصّراً متأنيّاً واعياً في دوافع هذا التأجيل ، التي لا تتبدّى إلاّ بربطها فيما سبقها وتلاها من نتائج ، لكفيل بجلاء أجوبة شافية على التساؤلات التي تثار في كلّ مرّة يتطرّق خلالها البحث عن أسباب عدم قيام الحسين بثورته في عهد معاوية.
ولا شكّ في أنّ التساؤل الملحّ ، والأجوبة المبتورة ناقصة النضج من شأنها أن تزيد في تفسير الأمر على نحو بعيد عن الحقيقة الجوهريّة له .
وبرأيي أنّ كلّ مَن ساهم في وضع جواب على تساؤل بهذا الصدد كان يغفل إلى حدّ بعيد دَور العناية الإلهيّة في تسيير خطى الحسين في طريقها الصحيح وفي الوقت المناسب ؛ لأنّنا لو نظرنا إلى حركة الحسين بأنّها أمر من الله سبحانه وتعالى سبق وأن تنبّأ بها الأنبياء والوصيّون ، فإنّنا لا نعدو الحقيقة لو سلّمنا جدلاً بأنّ موضوع التأجيل كان لحكمة عُلويّة أوحت للحسين بكيفيّتها وتوقيتها حتّى تؤتي ثمارها ، وتبلو مضاءها ، ولا يكون لها من الثورات التقليديّة إلاّ اسمها فحسب ، بينما يختلف مضمونها وجوهرها اختلافاً كلّياً .
لم يكن الشهيد إذاً يفكّر من عنديّاته حينما جاءته كتب أهل العراق تسأله الثورة على معاوية ، فأجابهم : (( فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً ))(1) . ومثل هذا القول أجاب به عيسى (عليه السّلام) على اُمّه حينما دعته لاجتراح اُعجوبة ، إذ أجابها : (( يا اُمّاه ، لم تأتِ ساعتي بعد ))(2) .
فلم يقول الحسين هذا القول ما دامت القتلة هي القتلة سواء ؛ أكانت على يد معاوية ، أم على يد يزيد ، وما دام غير قادر على هزيمة أيّ منهما بقوّة عسكريّة .
هنا تتجلّى الحكمة العُلويّة ، ومن هذه النقطة بالذات علينا أن نفهم سرّ عدم قيام الحسين في عهد معاوية ، والسرّ في قيامه بها على هذا الشكل الضعيف عسكرياً في عهد يزيد .
السرّ في عدم قيام الحسين في عهد معاوية يكمن في كلمة ( البيعة ) التي وصفها (عليه السّلام) بأنّه كان لها كارهاً ، وكان من نبل أخلاقه أن رضخ لتصرّف أخيه الحسن الذي قطع العهد مع معاوية ، ولم يشأ أن يعطّل رأيه واجتهاداته في هذا الصدد ، وكان يجيب مَن يسأله رأيه في عهد أخيه الحسن لمعاوية : (( بأنّ لأخيه رأياً في الموادعة ، وله هو رأي في جهاد الظلمة ، والرأيان رشد وسداد ، وأمر لكليهما من الله تعالى ورسوله )) .
ثمّ يطلب من شيعته بأن يكون كلّ امرئ منهم حلساً(3) من أحلاس بيته ما دام ابن هند حيّاً ، فإن يهلك وهم أحياء يرجو أن يخيِّر الله لهم ويأتهم رشدهم ، ولا يكلهم إلى أنفسهم .
وفي عبارة (( فإن يهلك وأنتم أحياء رجونا أن يخيّر الله لنا )) معنى مفسّراً لرأيه عدم الخروج في عهد معاوية ، يتجلّى تفسيره أكثر بربطه في الجملة التي تليه : (( ويأتنا رشدنا )) ، ممّا يستدلّ معها على أنّ الله تعالى هو الذي سيمدّه بالأمر ، ويؤتيه رشده ؛ كي يصبح قادراً على الحركة والقيادة .
ويعطي هذا التفسير ـ انتظار موت معاوية ـ تفسيراً آخر بقول الحسين (عليه السّلام) : (( والصقوا في الأرض , واخفوا الشخص , والتمسوا الهدى )) على أنّ فترة الكمون هذه ما هي إلاّ فترة تبصّر بالوحي الإلهي الذي كان الشهيد يأتمر بإمرته ، والذي كان يصوّر له وحده هذا الاُسلوب غير المألوف في الثورات ، ويمدّه بالصبر إلى حين تدقّ ساعته ، ونفس هذا الوحي الإلهي كان يحجب عن بصائر صحبه الكيفيّة والاُسلوب اللذين سيسبغهما على ثورة الحسين ، وهذا ما يفسّره إلحاحهم على الحسين(عليه السلام) للسير على خطى أخيه الحسن وأبيه في الكفاح المسلّح .
ولكنّ الحسين(عليه السلام) كان فكره في واد ، وفكر صحبه في وادٍ آخر ، فهو لو قام بحركته في عهد معاوية بتكتيك عسكري ، سبق وإن قام به أبوه وأخوه وآخرون ، فإنّه قد ينتصر على معاوية ، فيعتبره الناس ـ بمقياس تفكيرهم في ذلك الزمن ـ أنّه قائد عسكري نجح في صراع القوّة بما له من عدد وعدّة . ولو هُزم فكان اعتبر أحد الذين نكّل بهم معاوية وألحقهم بحتوف مَن سبقهم ، يثير موته الحزن في اُسرته ، ثمّ يطويه النسيان كما يطوي أيّ ثائر تقليدي .
ثمّ إنّ الحكمة العُلويّة تلعب دورها الأكيد في عدم مناجزة الحسين لمعاوية ، إذ كان معاوية من صنف اُولئك الحكّام الذين كان الشعب ينظر إليهم نظرة احترام خاصّة ممزوجة بالحقد المقيت عليهم ، وما كان مستبعداً ، وقد عرفنا ما عليه جُبِلَ معاوية من دهاء وثعلبيّة ، أن يلصق بالحسين تهماً باطلة بواسطة المرجئة وقصّاصيه النشطين ، فتؤدّي حركته إلى نتيجة عكسيّة من حيث كانت تقصد العكس .
وقد أوصى الحسين(عليه السلام) صحبه باللصوق بالأرض وإخفاء شخوصهم ، وهذا التكتّم وهذه التقيّة كانت لسرّ آخر ، فالحسين كان قد عاصر حروب الجمل وصفّين والنهروان ، وخَبُر دسائس معاوية وقدرته على اختراق ستار الكتمان ليصل إلى خصومه بكلّ الطرق ، وأشهرها السمّ الذي قتل به أخاه الحسن(4) ، والذي كان فريداً لوحده بأساليب استخدامه ، وبإطلاقه تلك التسمية العجيبة عليه بقوله : إنّ لله جنوداً منها العسل(5) ؛ لذا جاءت تقيّته لتؤدّي غرضاً آخر من أغراض صبره ، ولم تَكُ هذه التقيّة نتيجة لخوف من معاوية أو أساليبه ـ وهذا ما برهن عنه الحسين خلال مواقفه ـ بل كان نتيجة خوف الشهيد من أن يقضي عليه معاوية قبل أن يحين أجل قيامه بثورته التي ستختلف كليّاً عمّا سبقها من ثورات وحروب ، والتي ستنحو منحى جديداً أمضى بكثير من المنحى العسكري ، والتي بها سيتحقّق الوعد الإلهي بإعادة الدِّين الإسلامي إلى أشكال بدايته السليمة .
وللذين لا يقيمون أدنى دور لهذا الوعد من الأجدر لهم أن يعيدوا قراءة وتمعّن كلّ الأحداث التي مرّ بها الإسلام الوليد منذ أن اُنزل على خاتم الرسل والأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وكيف هدى هذا الوعد الرسول الكريم لتوقيع صلح الحديبيّة مع مشركي مكّة ، ومحوه من العقد كلمة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) و ( محمّد رسول الله ) ، وكيف رضي علي (عليه السّلام) بالتحكيم بعد خدعة المصاحف في صفّين ؟ وكيف صالح أخوه الحسن معاوية الذي اغتصب الخلافة وحرّف الدين ؟
وهذا السرّ الإلهي الذي لا يستطيع تفسير كوامنه إلاّ المبصرون لا يهتمّ كثيراً للظروف الوقتيّة أو الطارئة إذا كان فيها منجى للعقيدة مؤقتّاً ، أو فيها استعداد لقفزة ثانية لهذه العقيدة ؛ ولذا فإنّ اللّبس يخيّم على عقول كثيرة ، وتكون الدهشة والاستنكار هما الثمن لعدم فَهم هذه العقول لحكمة السرّ الإلهي في إظهار بعض الاُمور بمظهر عكسي .
وثمّة عامل آخر ، وإن كان أقلّ أهميّة من العامل الذي سبقه ، وهو أنّ مجتمع العراق الذي أنهكته الحروب وفتّت في عضده الخسائر والهزائم لم يكن مستعدّاً لأدنى مناجزة يشهرها في وجه معاوية بالذات .
وعامل آخر يضاف إلى جملة العوامل الثانويّة : وهو أنّ قيام الحسين في عهد معاوية قد يكون مبرّراً لمعاوية لكي يصوّره بصورة المستغلّ الناقض لعهده وميثاقه ، والحسين لا يسعى إلى هذه الصورة وإن كانت من باب التجنّي الواضح عليه ، وهو ما كان يربأ أن يعرف به ؛ لأنّه في جوهره بعيد عن الاستغلال ونقض العهود.
كان (عليه السّلام) يحسب لكلّ أمر حسابه في ميزان النتيجة ، أمّا الهدف الذي كان يرنو إليه في سكوته على زمن معاوية فهو في تعبئة نفوس أهل العراق خاصّة ، والمسلمين عامّة على مخازي اُميّة ، وبذلك يكسب مزيداً من الوقت لنجاح هذه التعبئة النفسيّة ، حتّى إذا ما قام بحركته التي هي في جوهرها ـ حرب نفسيّة وروحيّة ـ أكثر منها حرباً عسكريّة ، يكون قد وجد أرضاً ممهّدة لها ، وضَمن نتائج إيجابيّة لأهدافها(6) .
ثمّ وهو الذي خَبُر معاوية كان ينتظر موته كي يتولّى يزيد الخلافة ، فيفضح بتهوّره وعدم حرصه كلّ المخازي التي ارتكبها ويرتكبها الاُمويّون باسم الخلافة ، إذ كان معاوية اُستاذاً لا يبارى في إخفاء حقيقته ، وكان كتوماً حريصاً على الظهور بعكس خبيئته ، حتّى أنّه أفلح في خداع أكثر الناس تبصّراً وملاحظة(7) .
ورجل هذا شأنه ، سيعرف الحسين بأنّه من قبيل المغامرة القيام على عهده ، فهو لن يفلح معه عسكريّاً وليست له أساليبه في الخداع والتحايل .
ففضّل (عليه السّلام) الانتظار والصبر على مكارهه على أن يقدم على خطوة ليس لها نتائج ، أو قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة حيث كان يرغب العكس .
وإذا كان الحسين قد فضّل التريّث والانتظار حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فإنّ التزامه بالعهد الذي قطعه أخوه الحسن كان التزاماً صحيحاً لا مفتعلاً في ظاهره ؛ إذ لو كان راغباً في التنصّل من هذا الالتزام فما كان أسهله عليه لو تحجّج بأنّه لم يُسهم به ولم يكن راضياً عنه ، فيتجنّب الملامة .
ويدعم رأينا هذا بأنّ الحسين (عليه السّلام) كان ملتزماً فعلاً لا قولاً بموقفه من البيعة بعد موت أخيه ، وذَكَره للذين كتبوا له من شيعته بالعراق بأنّه ملتزم بالعقد مع معاوية ، ولا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ويموت معاوية ، وكأنّه يقول لهم : وبعد ذلك لكلّ حادث حديث .
وصحّ حدس الحسين (عليه السّلام) ، فها هو معاوية يلجأ أكثر من مرّة لاستباق الزمن ، واستغلال حرمة العهد في نفوس المسلمين ونفسه بالذات ، فيلوّح بها في أحد كتبه له ، مشيراً إلى نشاطه في تعبئة المجتمع الإسلامي على الحكم الاُموي ، وكأنّه يخشى من قيامه بنقض هذا العهد وفضحه .
وقد كتب إليه قائلاً : أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ اُمور عنك ، إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، ولعمر الله إنّ مَن أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ! وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَن كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، ونفسك فاذكر ، وبعهد الله أوف ، فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّق شقّ عصا هذه الاُمّة(8) .
ولنلاحظ في كتاب معاوية الرغبة في استباق الزمن ، والاحتراس مسبقاً من نقض العهد من قِبَل الحسين ؛ لذا فقد أسرع بالكتابة إليه ، حتّى إذا ما نقض العهد كان كتابه وثيقة تبرّر بطشه به أمام المسلمين ، الذين تثيرهم قضيّة العهد والثبات على الميثاق ، فيكون بذلك قد أسقط في يده سلفاً ، وأسقط الكرة في مرماه .
وفي كتاب آخر أرسله إليه يقول بلهجة مهدّدة : وقد اُنبئت أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق ممَّن قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله ، واذكر الميثاق(9) . في هذَين الكتابَين نلمح نقرأ مكثّفاً على وتر الميثاق ، ( إنّ مَن أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ) و ( اتّق الله واذكر الميثاق ) و ( ونفسك فاذكر وبعهد الله أوف ) .
وعلى الرغم من هذا التكتيك المقصود به تسجيل سابقة على الحسين(عليه السلام) فيما لو فكّر بنقض العهد ، فإنّ الحسين(عليه السلام) كان قد بدأ بردّ هذه الحرب النفسيّة في سلسلة كتب لمعاوية ضمّنها كلّ الشكوك والريبة التي كانت تعتمل في نفوس المسلمين وضمائرهم حيال ممارساته للسلطة ، وكانت هذه الكتب ( الردود ) إيذاناً ببدء التمهيد للثورة باُسلوب نفساني .
كان يقصد منها الحسين تعبئة النفوس بشكل نهائي ، وتفجير الخلاف بينه وبين معاوية ؛ كي لا يلام على أمرين , اُولاهما : على نقضه للميثاق ، وثانيهما : على السكوت أمام المباذل والانتهاكات التي كان يأتيها الخليفة المزعوم دون أن يرفع إصبع أمامه بالنقد .
بدأ الحسين(عليه السلام) بهذه الحرب بعد أن نمي إليه عزم معاوية على التمهيد للبيعة ليزيد ، وبعد أن ورده كتابه بشأن الميثاق وذكره لِما نمي إليه في الشام بشأن قوم الكوفة الذين أنبؤوه بتحرّك شيعته في العراق ، وما كان من أمره معهم حينما دعاهم للتريّث والالتصاق بالأرض .
ولعلّ كتاب ( الردّ ) الذي بعث به الحسين(عليه السلام) لمعاوية يعتبر وثيقة تاريخيّة دامغة على عهد معاوية ، ومن الإغماط لها أن نختصرها أو نتحدّث عنها بصيغة الغائب في كتابنا هذا ، إذ إنّها صورة وافية موضّحة لشخصيّة معاوية وحُكمه كما رآهما وعاصرهما الحسين (عليه السّلام) .
فمهما جهد المحلّلون والمؤرّخون في البحث عن مثالب معاوية فإنّهم لن يجمعوا معشار ما ثبّته الحسين(عليه السلام) في كتابه هذا .
ومن جهة اُخرى فإنّ الكتاب يوضّح تماماً موقف مرسله من قضايا الحكم والانتهاكات التي يمارسها معاوية ، ويكشف في الوقت ذاته عن مدى نسبة تعاظم الخلاف بينهما في اُخريات أيّام معاوية ، قبل البيعة ليزيد بقليل ، وكيف كان موقف الحسين(عليه السلام) من هذه المسألة .
وفي الكتاب تفسير بيّن لسياسة التكتّم والصبر والانتظار التي كان يمارسها الحسين غير هيّاب ولا وجل ، والتي كان على استعداد لتحويلها في أيّة لحظة إلى نقيضتها في الجهر والإقدام على النقد ، والإشارة بالاتّهام المباشر ، البعيد عن التقيّة التي دعا إليها . وفي هذا مَثَل واضح على أصالة موقف الحسين ، وعلى عمق مبادئه القادرة على احتواء كافّة الأبعاد ، وهضم كافّة المتناقضات ، لتبدو أخيراً بالشكل الذي يبتغيه لها صاحبها .
كتب الحسين (عليه السّلام) لمعاوية يقول له في جرأة نادرة(10) : (( أمّا بعد , فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت عنّي اُمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى .
أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون والمشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون ؛ ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة .
ألستَ القاتل حِجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم , ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده ؟!
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلتَه بعدما أمّنته وأعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال ؟!
أولستَ بمدّعي زياد ابن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر . فتركت سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً , وتبعت هواك بغير هدىً من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك ؟!
أولستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه زياد إليك أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه : أن اقتل كلّ مَن كان على دين عليٍّ . فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ عليٍّ هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف ؟!
وقلتَ فيما قلتَ : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد ، واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة وأن تردهم إلى فتنة . وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أن اُجاهدك ؛ فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله ، وإن تركته فإنّي أستغفر الله لديني وأسأله توفيقه لإرشاد أمري .
وقلتَ فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني ، وإن أكدك تكدني . فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك , وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبتَ جهلك , وتحرّصت على نقض عهدك . ولَعمري ما وفيتَ بشرط , ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان , والعهود والمواثيق , فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا .
فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب(11) ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسِ لأخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على التّهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيّتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخَفْتَ الورع التّقي ، والسّلام )) .
والمتمعّن في هذا الكتاب لا بدّ وأن يلاحظ رغبة الإمام الحسين (عليه السّلام) في فضح معاوية وردّ سهامه إلى صدره . فمعاوية يتّهمه بشقّ عصا اُمّة الإسلام ، فيجيبه : (( إنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها ))(12) . ويهدّده بقوله : اتّق الله واذكر الميثاق ، فيجيبه (عليه السّلام) : (( لقد نقضت عهدك بقتل ذاكري فضلنا بعد الصلح والأيمان , والعهود والمواثيق )) . ويلوّح له قائلاً : ونفسك فاذكر وبعهد الله أوفِ . فيجيبه (( ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أن اُجاهدك ، فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله ))(13) .
وحيال تهديده له ، يجيبه (عليه السّلام) : (( كدني ما بدا لك ))(14) . وفي إجابته هذه تحدٍّ نهائي وواضح ، أتبعها بعبارة اُخرى أشدّ جرأة : (( فابشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب )) ، فحدّد (عليه السّلام) لخصمه نهاية مظالمه وكيده لاُمّة الإسلام ، كما ستكون عليه في مقبل الأيّام .
وكي نفهم معاوية من خلال ردّة فعله حيال كتاب الحسين فإنّنا نراه وقد ركن إلى السكوت بعد ورود هذا الكتاب عليه ، ولم يسجّل التاريخ حادثة تنمّ عن غضبه مما جاء فيه . وفي هذا إثبات أكيد على خبثه ودهائه ، فلو جاء هذا الكتاب ليزيد بدلاً منه لَما توانى عن شنّ حرب جنونيّة على الحسين(15) .
وفي عبارة الحسين (عليه السّلام) (( فكدني ما بدا لك )) إحراج لمعاوية ، كان يعني بها (عليه السّلام) وضع خصمه حيال اتّهاماته له ، فلم يقُل له كدني بما تريد ، بل بما بدا لك منّي ، أي أنّ ما بدا منه (عليه السّلام) حتّى مجيء كتاب معاوية له ، لا يعدو كونه خيالات وأوهام أو رغبة في استباق الاُمور وتسجيل مواقف سلفيّة عليه ؛ بقصد استغلالها ضدّه فيما بعد ، فلو قام يكيد له بما بدا له منه فلن يجد ممسكاً واحداً يكيد له به .
وهذه ألمعيّة نادرة من غذيّ الفصاحة الطالبيّة ، تفوّقت بصدقها وعفويّتها بمراحل خبث معاوية ودهائه ، استطاع (عليه السّلام) بها أن يردّ له الكرة التي قذفه بها ، ويكيل له أضعاف ما كال به إليه ، وبالتالي إسكاته إلى حين .
وثمّة حقيقة واضحة لمسها المسلمون في كلّ مرّة حاول معاوية فيها الكيد للحسين واتّهامه بما لا يفعله ، وهي أنّ الحسين (عليه السّلام) رغم كلّ ما اُوذي به من معاوية وما ناله من ثعلبيّته لم يستبِح لنفسه الخروج عليه ، وفاء صادقاً بعهده ، على الرغم من جواز خروجه بعد خروج معاوية على كلّ العهود والمواثيق بالشكل الذي اتّهمه فيه من خلال كتابه ( الردّ ) .
ولم تَكُ خلّة الوفاء بالعهد هي خلّة الحسين الوحيدة ، بل كانت البارزة في حيّز صراعه النفسي مع معاوية ، وليس أدلّ من تعاظم شأن هذه الخلّة المحمودة في نفس الحسين من أنّه وقد اتّهم معاوية بقتله لمَن كان على دين أبيه علي (عليه السّلام) ، والتمثيل بهم لا لشيء إلاّ لذكرهم فضل بني هاشم وتعظيمهم حقّهم ، فإنّه لم يتحرّك ليزاحمه مجلسه الذي أجلسه فيه دين علي الذي هو دين ابن عمّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، والذي لولاه ـ كما ذكر له في كتابه ـ لكان شرفه وشرف آبائه ، تجشّم الرحلتين .
ولو نادى الحسين بخلع معاوية آنذاك لتنادى له الكثيرون بنفس مناداته ، إذ كان معاوية معروفاً بنقضه للمواثيق واستخفافه بعهد الله ، وقتله للحسن وحِجر بن عدي والحضرمي وللكثيرين ممَّن يفوقون الحصر . ولكنّ الإمام الذي كانت تعدّه العناية الإلهيّة للشهادة العظمى اكتفى بأن جاهر خصمه بما ينفي عنه كلّ صفة إسلاميّة أو قوميّة بقوله : (( كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك )) .
وتكرّ الأيّام ، والحسين ومعاوية على سكوتهما إلاّ من بضعة كتب كانت تتطاير بينهما بين الفينة والاُخرى ، وقد حاول معاوية شراء أو ضمانة سكوت الحسين عن يزيد فلم يفلح ، وحاول استمالته بجسّ نبضه حينما أخذ بتولية ابنه يزيد ، ولكنّ الحسين الذي كان ينتظر موت الأب ليخرج على الابن أجابه في أحد كتبه إليه(16) : (( وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لاُمّة محمّد ، تريد أن توهم الناس في يزيد , كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص . وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي ، تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه . فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة )) .
ولمّا يئس معاوية من حمل الحسين على البيعة لابنه يزيد ، عمد إلى حرمان بني هاشم من أعطياتهم ؛ حتّى يجبره على البيعة .
ولكنّ الكِبَر والمرض فتّ في عضده ، ولم يفتّ في طموحاته ، ولم يخفّف من غلواء خبثه . فها هو على فراش النزع الأخير يلجأ إلى أحابيله ، ويعمد إلى تمثيليّاته فيأمر أُجَراءه كي يحشوا عينيه إثمداً ، ويوسعوا رأسه دهناً ، ويوسعوا له كي يجلس ، ثمّ يأمرهم بإسناده والإيذان للناس ليسلّموا عليه قياماً دون السماح لهم بالجلوس ..
وهكذا رآه الناس مكتحلاً مدهّناً ، فعجبوا من الشائعات التي تناقلت خبر مرضه ، وما كادوا يخرجون من لدنه حتّى أنشد يقول :
وتـجلّدي لـلشامتينَ iiأريـهُمُ أنّي لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ
وإذا الـمنيّةُ أنشبتْ iiأظفارَها ألـفيتَ كـلَّ تـميمةٍ لا iiتنفعُ
وأخيراً أرسل إلى مروان عامله على المدينة كتاباً قرأه على الملأ وقال فيه : إنّ أمير المؤمنين قد كبر سنّه ودقّ عظمه ، وقد خاف أن يأتيه أمر الله تعالى فيدع الناس كالغنم لا راعي لها ، وقد أحبّ أن يعلم علماً ويقيم إماماً .
ولمّا وافقه الناس كتب بذلك إلى معاوية ، فأجابه معاوية : أن سمّ يزيد . فسمّاه لهم . فقام عبد الرحمن بن أبي بكر وقال له : كذبت والله يا مروان وكذب معاوية معك ، لا يكون ذلك ، لا تجعلوها هرقلية وتحدِثوا علينا سنّة الروم كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل(17) .
وأنكر الحسين أيضاً وتبعه عبد الله بن الزبير ، ولكنّ معاوية لم يهتمّ وكتب إلى عمّاله أن يمهّدوا البيعة ليزيد في الأمصار ، ويرسلوا الوفود إليه في الشام لإعلان بيعتهم .
ولكنّ المدينة لم تبايع كما بايعت الشام والعراق ، فقَدِم معاوية إلى المدينة ، حيث استقبله أهلها وعلى رأسهم الثلاثة الذين أنكروا على يزيد البيعة ، فسبّهم . ولمّا أقام بالمدينة وكان وقت الحجّ خرج حاجّاً ، فقَدِموا إليه ثانيةً وقد ظنّوا أنّه تغيّر .. فأكرم وفادتهم وطلب لكلّ منهم دابّة ، ثمّ طلبهم فدخلوا عليه حيث دعاهم إلى بيعة يزيد ، فقال ابن الزبير : اختر منّا خصلة من ثلاث .
قال معاوية : إن في ثلاث لمخرجاً . قال : إمّا أن تفعل كما فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . قال : ماذا فعل ؟ قال : لم يستخلف أحداً . قال : وماذا ؟ قال : أو تفعل كما فعل أبو بكر ؛ فإنّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه . أو افعل كما فعل عمر بن الخطاب ؛ إذ جعلها شورى في ستّة من قريش ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه .
قال : ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف ، هل عندك غير هذا ؟ قال : لا . قال : ألا تسمعون ، إنّي قد عوّدتكم على نفسي عادة وإنّي أكره أن أمنعكموها قبل أن أبيّن لكم ، إن كنت لا أزال أتكلّم بالكلام فتعترضون عليّ فيه وتردّون ، وإنّي قائم فقائل مقالة ، فإيّاكم أن تعترضوا حتّى أُتمّها ، فإن صدقتُ فعليّ صدقي ، وإن كذبتُ فعليّ كذبي ، والله لا ينطق أحد منكم في مقالتي إلاّ ضربت عنقه .
ثمّ وكلّ بكلّ رجل من القوم رجلين يحفظانه لئلاّ يتكلّم ، وقام خطيباً فقال : إنّ عبد الله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر قد بايَعوا ، فبايِعوا .
فانجفل الناس عليه يبايعونه ، حتّى إذا اطمأنّ إلى أخذ البيعة ركب رواحله وقفل عائداً إلى الشام . فأقبل الناس على الحسين وصاحبيه يلومونهم دهشين ! فقالوا لهم : والله ما بايعنا ، ولكن فعل بنا وفعل . فقالوا : وما منعكم أن تردّوا على الرجل برفض البيعة بعد أن زعمتم لنا بأنّكم لا تبايعون ؟ قالوا : كادنا وخفنا القتل.
وهكذا تمّت البيعة ليزيد إغفالاً وقسراً وخداعاً . ولم يطل المرض بمعاوية بعد هذه الحادثة إلاّ قليلاً ، فلمّا اشتدّ عليه وقرب به من حافة النزع الأخير ألقى لمَن حوله بآخر تلفيقاته ، التي لكثرة ما ردّدها صار يصدّقها هو نفسه كما لو أنّها وقعت حقّاً ، فقال : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كساني قميصاً فرفعته ، وقلّم أظفاري يوماً فأخذت قلامته ، فجعلتها في قارورة ، فإذا متّ فألبسوني ذلك القميص ، وقطّعوا تلك القلامة ، واسحقوها وذرُّوها في عينيَّ وفي فيَّ ، فعسى الله يرحمني ببركتها ، ثمّ تمثّل ببيتين من الشعر(18) :
إذا متُّ مات الجودُ وانقطع الندى من الناسِ إلاّ من قليلٍ مصرّدِ
وردّتْ أكفّ السائلين وأمسكوا من الدِّين والدنيا بخُلفٍ مُجدّدِ
ولمّا اعترضت إحدى بناته أكمل متمثّلاً :
وإذا المنيّةُ أنشبت أظفارَها ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
ثمّ راح بإغماءة أفاق منها للحظات ، فتفوّه بهذه العبارة : اتّقوا الله عزّ وجلّ ، فإنّ الله سبحانه يقي مَن اتّقاه ، ولا واقي لمَن لا يتّقي الله . وما لبث إلاّ قليلاً حتّى قضى . وكان ذلك في الشهر السابع من سنة 60 للهجرة .
وبموته انقضت مرحلة مشبعة بالدسائس والمؤامرات ، لوّنها بدهائه وثعلبيّته ، وأنهاها حتّى الرمق الأخير بالكذب على الله ورسوله واُمّة الإسلام ، واستعدّت الولايات الإسلاميّة لاستقبال عهد جديد ، كانت بوادره تلوح في سماء الاُمّة ، فتدفع بالغصص إلى أشدّ الحلوق تفاؤلاً ، فيزيد ليس إلاّ معاوية ناقصاً بعض خصاله زائداً بعض خصال أبشع(19) .
واستعدّ الحسين (عليه السّلام) فقد دقّت الساعة وآن الأوان .
ب . في عهد يزيد:
لئنْ جرتْ لفظةُ التوحيدِ في iiفمِهِ فـسيفهُ بسوى التوحيدِ ما iiفتكا
قد أصبح الدينُ منه يشتكي سقماً ومـا إلى أحدٍ غير الحسينِ شكا
هذا ما وصف به أحد الشعراء عهد يزيد ، الذي استقبله المسلمون بقلوبٍ واجفة وبأعصابٍ مشدودة . فلا موت معاوية أشعرهم بالحزن ، ولا تولّي يزيد أشعرهم بالفرح ، وصار حالهم كحال مَن عناهم أحد الشعراء بقوله :
الـحمدُ لله لا صبرٌ ولا iiجلبٌ ولا عزاءٌ إذا أهلُ البلا رقدوا
خليفةٌ مات لم يحزنْ له iiأحدْ وآخـرٌ قام لم يفرحْ بهِ iiأحدُ(20)
إلاّ أنّ مشاعر المسلمين بعد موت معاوية وتولّي ابنه يزيد لم تقف عند حدود عدم الحزن أو الفرح ، بل تعدّتها إلى شعور الخوف والترقّب من عهد يزيد الذي لم يعرفوا له لوناً بعد . إذ كان معاوية قد استطاع أن يقيم توازناً ذكيّاً بين ما كان عليه وما ظهر منه للاُمّة ، وكان التكتّم هو وسيلته الناجعة في إحداث هذا التوازن ، فقنع الناس بهذا الحدّ من الإرهاب والتنكيل ولم يعودوا يجرؤون على الجهر بأكثر من الصمت .
وكانت هذه الخشية التي جاشت في قلوب المسلمين من عهد جديد بدأ ولم تتحدّد أبعاده بعد ، نابعة من معرفتهم لشخصيّة يزيد كما سمعوا عنها ، ورأوا ما رأوه منها .
فيزيد كان مثالاً لابن السلطان المدلّل المنحرف ، وكان كما تروي الكتب عنه أحمق مغروراً ، زاده التهوّر سطحية في التفكير ، وبُعداً عن الحيطة والتكتّم ، وكان اُسلوبه في التصرّف ومعالجة الاُمور اُسلوب مَن يركب كلّ مركب ومطيّة دون النظر في عواقب فعلته .
وكان على النقيض من أبيه معاوية ، فكلّ التكتّم عند معاوية كان يقابله عند يزيد المجاهرة والانفلاش ، وكلّ تكتيك عند أبيه كان يقابله عنده تهوّر واضح واندفاعة هوجاء .
وهذه الشخصيّة في مقياس علم النفس تسمّى بالشخصيّة ( العصابيّة ) وخصائصها هي ذات الخصائص التي عُرف بها يزيد ، ومن مزاياها الاستجابة الفوريّة والسريعة والعنيفة لردود الفعل ، وخفّة الشخصيّة وسرعتها في الانقياد للآراء الجديدة ، سواء أكانت صائبة أم خائبة ، وصاحب هذه الشخصيّة إنسان فتّاك يغدر بأقرب المقرّبين إليه ، ولا يتورّع عن ركوب أشنع الأساليب للوصول إلى غرضه .
ويصفه ( سيجموند فرويد ) : بأنّ صاحب الشخصيّة العصابيّة إنسان ذو فائدة لعدد من الناس الأذكياء ، يدغدغون عصبيّته ويبتزّون منه الفوائد(21) .
وهذا الوصف كان ينطبق إلى حدٍّ بعيد على شخصيّة يزيد . إذ كان القرّادون والفهّادون والقيان والقوادّون وسمسارو الجواري والعاهرات يشكّلون طبقة عريضة مستفيدة من أعطياته التي كان يحجبها عن المحتاجين من اُمّته ، ويغدقها عليهم طالما هم يمتّعونه ويؤمّنون له الاستمراريّة في مباذله ومجونه .
كان موفَر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء وكلاب الصيد ، حتّى كان يُلبسها الأساور من الذهب والجلال المنسوجة فيه ويَهَب لكلّ كلب عبداً يخدمه . وساس الدولة سياسة مشتقّة من شهوات نفسه(22) .
ورجل هذه صفاته كان من غير الممكن أن يسكت عن معايبه رجل كالحسين (عليه السّلام) عُرف بالتقوى وخوف الله والبذل للمحتاجين ، والاقتطاع من فمه وإطعام أفواه الجياع . ورجل كهذا لا يمكن له من معالجة اُموره مع الحسين(عليه السلام) كما عالجها أبوه ، إذ كان الفرق شاسعاً بين الاثنين ، وكان منتظراً أن يتمّ التصادم في عهده بل في مطلع هذا العهد .
فلم يكن ثمّة ما يمنع الحسين(عليه السلام) بعد موت معاوية من إعلان ثورته على يزيد ، فالنفوس عبّئت عن آخرها ضدّ هذا الخليفة الجديد ؛ فمن جهة يزيد ساهمت الانتهاكات المكشوفة للدِّين في إيغار الصدور ضدّه ،إذ لم يكن له قدرة أبيه على الاحتفاظ بالغشاء الديني الذي كان يسبغه على أقواله وأفعاله .
ومن جهة الحسين ساهم موت معاوية في تحلّله من العهد والميثاق ، ولم يعد ملتزماً أمام أحد ليبرّر قعوده ، وها هو يزيد يقدّم له إشارة البدء بما بدأ به من رعونة وحماقات في مستهلّ عهده .
فما أن وُرِيَ معاوية التراب حتّى عجّل يزيد بأخذ البيعة لعهده من زعماء المعارضة ، مدّعياً أنّه رأى في منامه كأنّ بينه وبين أهل العراق نهراً يطرد بالدم جرياً شديداً ... وقد جهد ليجوزه ، فلم يقدر حتى جازه بين يديه عبيد الله بن زياد وهو ينظر إليه . وكانت هذه أكذوبة افتتح بها عهده كما اختتم أبوه عهده وحياته باُكذوبات مماثلة تحدّث فيها عن رؤى قدسية لم تجُل إلاّ في خياله المريض .
وما لبث أن كتب إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة يخبره فيه بموت أبيه ، ومرفقاً به صحيفة صغيرة ذكر له فيها : أمّا بعد ، فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة(23) ، ومَن أبى فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه(24) .
وما جاء في هذه الصحيفة يعطي دلالة شاملة على شخصيّة يزيد . إذ في أوّل كُتبه لأحد وُلاتِه يطلب منه أخذ الحسين وجماعته بالشدّة ، ويأمره بقطع رؤوسهم وإرسالها له إن أبَوا بيعته . وها هو بأوّل تحرّك له يخالف آخر وصيّة لأبيه على فراش الموت حينما قال له فيما قال : إن خرج الحسين من العراق وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسّة وحقّاً عظيماً وقرابةً من محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فإن قدرت عليه فاصفح عنه ، فإنّي لو أنّي صاحبه عفوتُ عنه .
ولكن يزيد صاحب الشخصية العصابيّة التي تفتك بأقرب الناس لها دون أن يرفّ لها جفن لم تكن لتهمّه كثيراً قرابة الحسين من محمد (صلّى الله عليه وآله) ، ولا تهزّه قرابة الرحم الماسّة ؛ إذ إنّ كل همّه الشدّة وإلاّ كان قطع الرؤوس هو البديل للإذعان لهذه الشدّة(25) .
ولكن الحسين (عليه السّلام) الذي انتظر هذه الفرصة طويلاً وصبر على معاوية حتى أيس منه أغلب صحبه ، هبّ سريعاً ، وكانت ردة فعله مدروسة ؛ إذ قال للوليد لمّا فاتحه بكتاب يزيد : (( مثلي لا يبايع سرّاً ، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً ))(26) .
فاقتنع الوليد لكن مروان قال له : لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرتَ منه على مثلها أبداً حتّى تكثّر القتلى بينكم وبينه ، فاحبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه . فوثب له الحسين قائلاً : (( ويلي عليك يابن الزرقاء ! أنت تأمر بضرب عنقي أم هو ؟! كذبت ولؤمت وأثمت ))(27) . وارتدّ إلى الوليد وقال : (( أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمور وقاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة ))(28) .
فأغلظ الوليد في كلامه وتطايرت الكلمات ، فهجم تسعة عشر رجلاً جاؤوا مع الحسين منتضين خناجرهم وأخرجوه(29) . فقال مروان للوليد : عصيتني ! فوالله لا يمكنك على مثلها . قال الوليد : وبّخ غيرك يا مروان ، اخترت لي ما فيه هلاك ديني ؛ أقتل حسيناً إن قال لا اُبايع ؟ والله لا أظن امرأً يُحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة(30) ، ولا ينظر الله إليه ولا يزكّيه ، وله عذاب أليم(31) .
وهكذا فبعبارة (( ومثلي لا يبايع مثله )) ختم الحسين (عليه السّلام) صيحة تحدّيه ليزيد ، وبدأ بالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو مصارع شهادته . وهذه العبارة فيها من الإيجاز ما لا يستوعبه مجلد بالشرح المستفيض . فقوله (عليه السّلام) ( ومثلي ) معناه أنّ مَن كان مثله على دين الحق وسلالة النبوّة لا ( يبايع مثله ) مَن كان على باطل الأباطيل ، وسليل مغتصبي حقّ آل البيت(عليهم السلام) .
وحينما ألقاها ارتفع من أمامه آخر الحواجز النفسية والزمنية ، ووضعته العناية الإلهية أمام دوره العظيم في مسيرة الدين الإسلامي ، فصار منذ هذه اللحظة بطل هذه العناية وخادمها ، ومنفّذ إيحاءاتها العُلوية التي ستقوده إلى قدره المكتوب والمحتوم . في تلك الليلة خرج الحسين(عليه السلام) زائراً قبر جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقد أثقله الدور الذي سيقوم به ، والذي شعر بأنه صار إليه منذ أعلن كلماته أمام الوليد ومروان ، فسطع له نور من القبر ، فناجى جدّه قائلاً : (( السّلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلفتني في اُمّتك ، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم خذلوني ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك ))(32) .
وفي الليلة الثانية خرج إلى القبر يصلّي ويدعو الله بحقّ القبر أن يختار له ما يرضى به عنه ولرسوله رضى ، ثمّ بكى . وما لبث أن غفا على القبر ، فإذا برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ، فضمّ سبطه بين يدَيه إلى صدره ، وقبّل عينَيه وقال :
(( حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء مع عصابة من اُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ! لا أنيلهم شفاعتي يوم القيامة . حبيبي يا حسين ، إنّ أباك واُمّك وأخاك قد قَدِموا عليَّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك لدرجات في الجنان لا تنالها إلاّ بالشهادة )) . فجعل الحسين ينظر إلى جدّه ويقول : (( يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، خذني إليك ، وأدخلني معك في قبرك )) .
وعبارة الحسين (عليه السّلام) الأخيرة تصوّر أدقّ تصوير هول ما سيصيبه ممّا جعله يطلب من جدّه إدخاله إلى قبره ، وهذا التصوير يدلّ على همجيّة الذين سيؤذونه أكثر ممّا يصوّر شعوره من هذا الإيذاء وعلى قسوة ما سيناله ، لا على خوفه منه .
ولعلّ التصوير الأشدّ بروزاً لهذه الهمجيّة ما جاء في قول جدّه (صلّى الله عليه وآله) له عند قبره من أنّه سيراه قريباً مرمّلاً بدمائه ، مذبوحاً مع عصابة من اُمّته .
فوصف ( عصابة من اُمّتي ) فيه إشارة إلى نوعية اُولئك الذين سيتولّون الذبح ، فهُم عصابة ، والعصابة تتكوّن من مجموعة أشرار غلاظ الضمائر والقلوب ، قساة الصدور والأنفس ، وقد حدّدهم (صلّى الله عليه وآله) بأنّهم ( من اُمّتي ) . أيّ تلك الطغمة الفاسدة من الاُمّة الإسلاميّة الخارجة عن العرف والقانون والأخلاق مثلُها مَثل عصابات السرقة والإجرام وانتهاك الحرمات .
ثمّ يصوّر الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) شناعة موقف هذه العصابة بقوله لسبطه : (( وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تروى )) ويبسط أمام البصائر وحشيّة العصابة التي تذبح حفيده ، والتي لا تكتفي بالذبح بل مع ذلك تتركه عطشان وظمآن لا يُسقى ولا يُروى ، وبهذا الفعل الاضطهادي لا تعطيه الحقّ البسيط الذي يعطى لأعتا المجرمين قبل إعدامه حينما يُسأل عن آخر رغباته ، والتي يكون أبسطها السّقي والإرواء .
ويعطف النبي (صلّى الله عليه وآله) هذه الفعلة على ما بعدها والتي ستكون من جانبه (صلّى الله عليه وآله) ، إذ يكمل : (( وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ! لا أنيلهم شفاعتي يوم القيامة ))(33) .
فعبارتا ( وأنت مع ذلك ) و ( هم مع ذلك ) فيهما ربط النتائج بالمسبّبات ، وردّ الفعل إلى النيّة في الفعل ، وإبراز الفَرق بين ما يجب أن يكون وبين ما لا يجب أن يكون ، أو كان فعلاً خارجاً عن المألوف وحدود الكينونة الطبيعيّة .
فالقتل في عرف القانون هو جريمة لها حدودها الماديّة والقانونيّة والشخصيّة والدينيّة ، إذا تمّ ضمن هذه الحدود اعتبر قتلاً في خانة الجريمة الصرفة ، أمّا إذا سبقه تعذيب فيعتبر في عرف القانون جريمة أخرى تسبق الجريمة الحقيقية من شأنه مضاعفة العقوبة لها ، وإذا ما تبع القتل تمثيل بالجثة فإنّ هذا الفعل يعتبر أيضاً جريمة اُخرى أشنع من القتل(34) ؛ لأنّ التمثيل هو إهانة الميّت ، وتعذيب لروحه التي لا تترك مسرح مصرعها إلاّ بعد أن توارى الجثّة التراب ( كما يرى بعض الروحانيين )(35) .
وهكذا فإنّ التعذيب والقتل والتمثيل تعتبر جرائم ثلاثاً في عرف القانون . فإذا نظرنا بهذا المنظار القانوني إلى مقتل الحسين (عليه السلام)، وكيف عذّب قبل الذبح ثمّ ذُبح ومُثّل بجسده الطاهر أشنع تمثيل وأشدّه مهانة ، لتفسّرت لنا مقولة النبي (صلّى الله عليه وآله) لسبطه بهذا الشكل من التعبير(36) .
والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يترك ولده يعاني خوف الشهادة ، وهو الذي رآه يبكي على صدره ويسأله إدخاله في قبره ، بعد زهده في العودة إلى الدنيا ، فقال (صلّى الله عليه وآله) له : (( لا بدّ أن ترزق الشهادة ؛ ليكون لك ما كتب الله فيها من الثّواب العظيم ، فإنّك وأبوك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنة )) .
إذاً فإنّ انتظار الحسين(عليه السلام) كلّ هذه المدّة وصبره على مكاره معاوية لم يكن كما فسّره الملفّقون من أنّه جبن وخوف . وخروجه إلى الشهادة بالشكل الذي خرج به لم يكن كما أوّله المخرصون من أنّه خروج عاطفي ، لا يحسب لصراع القوّة حساباً ؟
فالحسين (عليه السّلام) لم يأتِ بأمرٍ من عنديّاته ، بل كان مسيّراً ليس له خيار ، فما قول الذين قالوا بعكس ذلك بكلمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) لسبطه (( لا بدّ أنّ ترزق الشهادة ليكون لك ما كتب الله فيها )) . وهل بعد تنبّؤ الأنبياء ادّعاء ، وهل بعد تقريرهم نقض ؟
واُولئك الذين وضعوا ويضعون شهادة الحسين(عليه السلام) على مشرحة الحروب العسكريّة والصراعات البشريّة من أجل مغانم زمنيّة مؤقّتة ، أمَا علموا أنّ حركته كانت استشهاداً وفداءً من حيث كان يقصد بها ذلك قبل أن يقوم بها بزمنٍ بعيد كما حلّلنا ذلك في مطلع كتابنا ؟! أمَا لفت بصيرتهم إلى كون الشهادات العظيمة تشابهت في الشكل والوسائل والنتائج ، وإنّها دوماً كانت تبدأ من أضعف المواقف حيث تستلزم القوّة ، ومن أقوى المواقف حيث يستلزم الضعف ؟!
أمَا قرؤوا نبوءات الرسل والوصيّين عن الشهداء الذين سيأتون بعدهم لإنقاذ العقائد وبني البشر من غيّهم وضلالهم ، وانتشالهم من بؤر الظلم إلى شمس الحقّ ، فيوفّروا على أنفسهم اجتهادات تؤول مصائرها إلى الرياح تذروها بدداً حيال سطوع وتجلّي الحقيقة الإلهيّة الجوهريّة التي لن يعلو على سناها سناء ، ولا على إشعاعها إشعاع ؟! فهي كالشمس ، واجتهادات المحرّفين عُمي الأبصار والبصائر الذين يرون الحقيقة فيشيحون بوجوههم عنها ، هي كظِلالٍ باهتة لأشجارٍ عرّيت من أثمارها وورقها ، وعصفت بها أرياح الشتاء .
فما أعجب أولئك الموتورين الذين كفروا بنعمة الله تعالى الذي أعطاهم نعمة ( الكلمة ) فألصقوا بها المعايب والسوءات ، وسكبوها على الورق تحريفاً لكلام الله تعالى وكلام رسله وأوصيائه ، فمَن لهم بشفيع يوم القيامة ، ومَن لهم بمنقذ من هواتف صدورهم إذا ما استيقظت ضمائرهم وهتفت في داخلهم تطلب ماء الرحمة والإيمان لتبرّد به جحيمها ؟
يا ليت مَن يمنع المعروفَ iiيمنعهُ = حتّى يذوقَ رجالٌ غبّ ما صنعوا
ولـيت للناس خطّاً في iiوجوههمُ = تـبين أخـلاقُهمْ فيه إذا iiاجتمعوا
وليت ذا الفحش لاقى فاحشاً أبداً = ووافق الحلمَ أهلُ الحلم iiفابتدعوا(37)
المصدر / الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي / السيد محمد بحر العلوم.
احسنتِ اختي ان شاء الله نكون من المتابعين والمشاركين
وفقكِ الله
كل الذين دوّنوا قضية الحسين (عليه السلام) أخذوا سلسلتها من أوساطها، أي من حين البيعة ليزيد. في حين أنّ القضية تبتدىء من عهد أبي سفيان ومحمّد (صلى الله عليه وآله) ـ إن لم نقل من قبل ومن عهد هاشم(1) وعبد شمس ـ فإن أبا سفيان جدّ يزيد إذ رأى محمّداً جدّ الحسين قد نهض في مكة سنة 610م يدعو العرب إلى توحيد المعبود والإتحاد في طاعته، حسب أنّه سيهدم مجد عبد شمس ورئاستهم ويبني لبني هاشم(2) بيت مجد مرصوص الأساس ويعم ظله الوارف عامة الناس. فاندفع بكل قواه إلى معارضته ففعل ما فعل في مقاومة النبي (صلى الله عليه وآله) وإهانته، وتفريق أعوانه، وتحشيد الجموع لمحاربته حتى كان في أيام بدر وأُحد والأحزاب وهما مثالان للحق والباطل، وأمرُ محمّد (صلى الله عليه وآله) يقوى انتشاره ومناره حتى رمى حزب أبي سفيان آخر نبلة من كنانته ولم يفلح: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
وذلك أنّ الله سبحانه فتح لنبيه مكة فتحاً مبيناً، ونصره على قريش نصراً عزيزاً. انتهت الحركة السفانية، ولكن في الظاهر.
أمّا الحزب الخاسر المنكسر فقد كان يعمل ليلاً ونهاراً في تلافي خسرانه وارجاع سلطانه، ولكن تحت الستار وبأخفى من دبيب النمل على الصفا، يرسم الخطة للقيام بحركة وسيعة الدائرة حتى إذا قضى النبي (صلى الله عليه وآله) نحبه تنفس وانتهز الفرصة لاستعادة مجده.
أجل! لقي محمّد (صلى الله عليه وآله) ربه وأبو سفيان حي يسمع الناعية عليه، ولكن لا يسعه إظهار شيء وكان العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) يعرف من أمره شيئاً إذ كان صديقه الحميم في الجاهليه والإسلام، فأشار على عليّ (عليه السلام) ابن أخيه أبي طالب ـ وهو يغسل جنازة النبي (صلى الله عليه وآله) ـ قائلاً له: «يا علي مد يدك لأبايعك حتى يقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان» فلم يسمع من ابن أخيه جواباً سوى كلمة: «يا عمّ أولها غيري!» وقبل أن يدفن النبي (صلى الله عليه وآله) نجم الخلاف حول خلافته بين المهاجرين والأنصار.
لكن الذي نعلمه أنّ أبا سفيان لم يكن من الأنصار ولا من المهاجرين عندما قالا: «منا أمير ومنكم امير» حتى يحسب لنفسه حساباً في التحيز الى طرف، ورأى انضمامه إلى اضعف الأحزاب ـ أي حزب علي (عليه السلام) ـ أقرب الى مقصده من إيجاد موازنة في القوى وخلق عراقيل تكاد تمنع من حسم الخلاف، فجاء علياً قائلاً له:
«لو شئت ملأتها لك خيلاً ورجالاً» وعلي (عليه السلام) يومئذ يطرق الأبواب على المهاجرين والأنصار يتمنى ناصراً لقضيته، فلو كان ممّن يضيّع رشده بالمواعيد الخلابة لاغتنم من أبي سفيان هذا العرض، ولكن الإمام عرف سوء قصده ـ وقصده الصيد في الماء العكر ـ فأجابه بالرد والاستنكار قائلاً له: «مه يا أبا سفيان أجاهلية وإسلاماً».
أي إنّك تتربص دوائر السوء بدين محمّد (صلى الله عليه وآله) في عهديك: عند الجاهليه وعهد الإسلام، وتفرّس سوء مرامه من كلامه وأنّه انتهز فرصة الخلاف من حاشية النبي (صلى الله عليه وآله) وقصد احتلال مدينة الرسول عاصمة الإسلام بحجّة نصرة الضعيف أو تسوية الخلاف، وما جيوشه سوى مردة العرب من أهل النفاق فاذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد سادت منافقة العرب، وعادت مبادىء الجاهلية ـ والناس حديثو عهد بالإسلام ـ فيكون الرجعيون أولى بالقوة والنصرة والموحدون أولى بالضعف والذلة «ويخرجن الأعز منها الأذل». قرأ هذه الشروح وأكثر منها علي (عليه السلام) من كلمة من أبي سفيان فرده رداً قارصاً، لأنّ علياً رجل الحق وبطل الإيمان لا يضحّي الدين أو المصلحة العامة في سبيل نفع ذاتي أو شهوة وانتقام.
ولما عرف أبو سفيان أنّ علياً (عليه السلام) لا ينخدع وأنّه عند تداخل الأغيار ليصافح إخوانه المسلمين ويتحد معهم لحفظ بيضة الدين ـ مهما كان ضدهم وكانوا أضداده ـ ندم أبو سفيان على لفظته، وهرع إلى الحزب الغالب، وانضم إليهم ليحفظ مركزه الاجتماعي قبل أن يخسر الطرفين وتأخرت منوياته إلى حين، حينما يخضر عود أمية بإمرة معاوية على الشام وعود سلطانهم.
وبعدما نبغ فيهم معاوية أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه ومعه يومئذ أبوه ينصب علياً (عليه السلام) ـ دون المسلمين ـ هدفاً لسهامه الفتاكة، إذ عرفه الينبوع الوحيد لسيال وحي المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وأنّه البطل المناوىء لهم بكل قواه، والعميد القائم ببيت بني هاشم، والمركز القوي لابادة الحركة السفيانية، وأنّ علياً هو وأبوه نصيرا محمّد (صلى الله عليه وآله) حين لا ناصر له حتى أنه فداه بنفسه ليلة مبيته على فراشه، وضيع على قريش هجرته، ونقض ما أبرموه عليه، وعلي القاتل صناديد قريش وأركان حزبهم في بدر وغيرها، ولولاه لقضوا على حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدر وأُحد والخندق، وعلي الفاتح قلوب أهل مكة في وجه محمّد المصطفى إذ تلا عليهم سورة البراءة في الموقف العام العصيب بكل ثبات وجسارة وإقدام ـ الأمر الذي لم يكن يقوم به أحد من المسلمين إلى غير ذلك من مواقفه المهمة التي ضيع فيها على أمية مكايدها وكانت صدور أمية تغلي كالمرجل على رجل الإيمان.
دوافع يزيد الانتقامية:
لقد تستّر ابن هند والحزب الأموي في اخفاء غرضه تحت مخابيء السياسة المطلية بدهائهم، لكنما أخلاقه ـ أمثال يزيد والوليد ـ كشفوا القناع بأفعالهم وأقوالهم عن كل ما أُجني وأُخفي على الملأ، فتجلى كالشمس أنّهم يبتغون التشفي والانتقام من محمّد وأهل بيته بكل معاني التشفي، إذ لم يسكت عن الحسين كما سكت عن ابن الزبير، وخالف في ذلك وصاية أبيه وبرنامجه ثم لم يسالم الحسين كما سالمه ولم يقنع بخروجه عن مناطق نفوذه وحدود سلطانه ـ كما اقترح عليه الحسين نفسه ـ ولم يجالدوا ابن النبي مجالدة عربي لعربي، بل ضيّقوا عليه سبل الحياة، ومنعوه من ورد الفرات، وحاصروه بنسائه وأطفاله في الفلاة، ومثَّلوا به وبصحبه بعد القتل شرّ مثلة، وجرّدوهم تاركين أشلاءهم عراة على العراء تسفي عليهم الرياح، وقطعوا رؤوسهم واداروا بها على فوق الرماح، وسبوا صبية الحسين ونساءه يطاف بهن في الآفاق وفي الأزقة والأسواق، موثقين بالحبال كالأغنام وحولهم طبول وأبواق، يضع أميرهم الرأس الشريف بين يديه وينكت برأس الخيزران ثناياه وشفتيه ويقول شامتاً:
يا حبذا لونك يا حسين كحمرة الوردة في الخدين.. الخ
ويسبّون الحسين وأباه وأخاه سراً وجهراً، وينتحلون الأحاديث القادحة في عليّ وصحابته، ويهتكون حُرَم الله و رسوله وحُرُمات الدين، ويفعل يزيدهم طغياناً في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) ما فعله فرعون، ويزيد يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فراثت خيلهم في روضه النبي (صلى الله عليه وآله) واستباح عسكره المدينة ثلاثة أيام وافتضت بها اثنى عشر ألف عذراء، ولم تسلم حُرّة في واقعة الحرّة، إلاّ من لذن ببيت السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) وهنّ ستمائة من الهاشميات وغيرهن، فقد استثنى يزيد بيته وشخصه من الاضطهاد والاستعباد إذ أمر قائده أن يجدد مبايعة اليثاربة له على أنّه عبيده إن شاء باعهم وإن شاء أعتقهم.
وروى الجاحظ: «إنّهم وسموا العباد، ووشموا الأجساد» ـ كما يفعل بالأنعام والكلاب ـ علامة انّهم خول لبني أمية، ورأوا أنس بن مالك ـ خادم رسول الله وصاحبه ـ وفي عنقه قلادة مختوم عليها بالرصاص علامة عبوديته لهم، وأحرقوا ستار الكعبة، ورموها بالمنجنيق، وقتلوا الطائفين والعاكفين، وسفكوا الدم الحرام، في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وحولوا قبلة واسط الى الشام.
المصدر / نهضة الحسين (عليه السلام) (لـ هبة الدين الحسيني الشهرستاني).
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين، ايها الاخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أعظم الله لكم ولنا الاجر بمصاب ابي عبد الله الحسين عليه السلام.
يود كل باحث ان يتتبع كل كلمة نطق بها ابو عبد الله الحسين عليه السلام منذ ولادته الميمونة الى لحظة استشهاده المباركة وذلك انه في تتبعه يكون متتبعاً للحق والحجة كيف لا وجده المصطفى يقول حسين مني وانا من حسين إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة.
لكننا سنتوقف اليوم عند كلمتين اثنتين له عليه السلام لانهما وردتا في ظرف استثنائي حافل بالدلالات والمعاني. فقد كتب على الارجح في يوم سابوعاء اي السابع من المحرم ومن ارض كربلاء كتاباً مختصراً جداً اصر رغم الحصار ان ينسل رسوله به الى المدينة المنورة ونص الكتاب كما في كامل الزيارات كالتالي: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم اما بعد فكأن الدنيا لم تكن وكأن الاخرة لم تزل والسلام. وهذه الرسالة الى اخيه محمد بن الحنفية هي آخر رسائله عليه السلام بل هي أقصر رسالة يرويها لنا التاريخ.
ويحسن بنا ان نتوقف عند امور كثيرة بمقدار ما يتسع وقتنا. اولاً ان الرسالة كانت في وقت ضيق شديد وحصار اشد وقد تهيا الجميع لما بد منه ،فلو لم يكن مضمون الرسالة عالي الشان عظيم المرتبة لما أصر ابو عبد الله عليه السلام على كتابتها وارسالها مع شخص قد تكون المعركة المقبلة بمسيس الحاجة اليه نظراً لقلة الناصر والمعين. ثانياً: ان الرسالة ذات طابع عام لانها موجهة لتقرأ علناً من قبل اخيه محمد بن الحنفية على من قبله من بني هاشم وهم كثر آنذاك ليقوموا هم بدورهم بابلاغها لمحيطهم ومن ثم للاجيال المتعاقبة ومنها نحن في زماننا هذا.
ثالثاً "قد كان بامكان الحسين عليه السلام ان يرسل تلك الرسالة من مكة او من بعض منازل الطريق فلماذا اخرها الى اليوم السابع من المحرم وبالتحديد من ارض كربلاء التي ما ان نزلها حتى قال هاهنا محط رحالنا دالاً بكثير من العبارات على انها ارض مصرعه ومصرع من كان معه، وفي هذا دلالة ايضا لابد من اخذها بعين الاعتبار.
والحقيقة ان اياً من الناس لا يستطيع ان يجزم بالعلة التامة والسبب الكامل الذي يقف خلف موقف الحسين عليه السلام هذا وكتابه الاخير ،لكننا سنحاول على قدر شأننا ان نبين ما قد يكون اسباباً ارادنا الامام عليه السلام ان نتعقلها. لقد تحدث عليه السلام عن الدنيا كأنها لم تكن وعن الآخرة كأنها لم تزل اي انه اعدم وجمد الزمان في جهة وجعله أزلياً في جهة اخرى فقد أخرج الدنيا من قالب الزمان وجعلها خارجه وجعل الاخرة فوق الزمان واكبر منه ومستوعبه له. وبعبارة بسيطة فقد ترجم الايات القرآنية التي تؤكد ان الدار الاخيرة هي الحيوان لوكانوا يعلمون.
وقد يقول قائل ان هذا المعنى لم يتفرد به الحسين عليه السلام بل كان محط مواعظ الانبياء والاولياء والصالحين وعلى رأسهم جده المصطفى صلى الله عليه واله وسلم الذي طالما كرر بالفاظ متعددة ان الدنيا كالمنام وان الاخرة هي الحياة الحقيقية نقول نعم لم يأت الحسين عليه السلام بمعنى جديد في هذا الجانب بل كان متسقاً في كلامه مع تلك الموعظة التاريخية التي لازمت الانبياء والرسل والاولياء.
لكن المعنى الذي انفرد به الحسين عليه السلام انه اخرج نفسه باختياره من الدنيا وهو فيها واستجلب الاخرة اليه وهو خارجها بحيث كان تحكمه من خلال نهضته المباركة تحكماً مطلقاً لان الانسان ابن ثلاثة ايام هي ايام سلامه يوم يولد ويوم يموت ويموم يبعث حياً، وهي الايام التي سلم الله فيها على انبيائه كيحي وعيسى عليهما السلام (سلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حياً) فقد كان يوم ممات الحسين ويوم شهادته عليه السلام هو اليوم الذي لم يزل باعتباره اخرويا وباعتباره يحمل سلاماً وكانما انعكست ارهاصات الآخرة بصفة الديمومة و الاستمرار على كل حياة الحسين وخاصة تجليات كربلاء لتعطي لدنياه تلك الاستمرارية والديمومة.
وبالفعل ها هو الحسين عليه السلام يعلو ويعلو كل عام مستمراً دائماً ما بقيت السماء والارض وما ذاك الا لان ختامه كان افضل ختام وموته افضل الموت فهو البر الذي ليس فوقه بر.
ترى هل اراد الحسين عليه السلام ان يقول ان دنياه وآخرته واحدة اذ كان ابن الاخرة الخالدة المبعوث الى الدنيا الزائلة ليصلح في امة جده ما افسده المفسدون وليجدد ما عفا على رسمه المنافقون. فهو من جهة متصل نسباً وسبباً باعظم مخلوق جده النبي الاكرم صلى الله عليه واله وسلم ومن جهة اخرى هو المقدم على آخرته لاحياء امة والارض التي سقط شهيداً عليها هي ارض آخرة ايضاً بلحاظ ما ذكرناه هنا تكتمل الصورة وينجلي المشهد اذ تنعكس ازلية الاخرة على الشخص الاخروي والهدف الاخروي والمكان الذي جرت فيه الواقعة.
وقد استقر هذا المعنى في نفوس اصحاب الحسين عليه السلام ايضاً فاقبلوا بنحورهم على ما يظنه الخلق موتاً وهو في الحقيقة استحلاب حياة لكنها دائمة غير زائلة بحيث سطروا ارقى ما يمكن ان يفعله بشر عاديون ولذلك قال امامهم فيهم ما رايت اصحاباً قط أوفى من اصحابي، لم يكن وفاء هؤلاء الخلص لشخص الامام عليه السلام فحسب بل وفاء لتلك الديمومة والاستمرارية التي انتجتها بل ولازمت تلك الشخصية الريادية فانتهزوا فرصتهم وتشبثوا بمعقل الخلود ونسيجه.
اما الكلمة الثانية للحسين عليه السلام فهي قبل ساعات من المذبحة حيث يروي ابن عساكر قائلاً: لما نزل عمر بن سعد بحسين وايقن انهم قاتلوه قام في اصحابه خطيباً فحمد الله واثنى عليه ثم قال: قد نزل بنا ما ترون من الامر وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حتى لم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء والا خسيس عيش كالمرعى الوبيل الا ترون الى الحق لا يُعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه واني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما.
هذه الخطبة القصيرة في اصحابه رضوان الله عليهم هي كلام اطلقه عليه السلام استكمالاً لكتابه الانف الذكر الى اخيه لكنه كان بصيغة تحمل خصوصية زائدة اذا كان المخاطبون هم خلاصة الفداء والايثار الذي تمخضت عنه الامة الاسلامية. فهو يتكلم مع رجال تأدبوا بادب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فابقوا النموذج القرآني ماثلاً وكان الكلام في نفس السياق ومفاده ان هدف وجود الانسان في هذه الدنيا الزائلة هو اقامة الحق ودحض الباطل فان اصبح الحق لايُعمل به والباطل لا يتناهى عنه فلا بد لرجال الاخرة من ان يظهرواً انفسهم من خلال مسرب واحد وهو الرغبة بلقاء ربهم لا يأساً من روحه عز وجل بل ذوباناً في اوامره ونواهيه لتنعدم شخصا نيتهم في صالح حفظ النموذج لان دين محمد صلى الله عليه واله وسلم ان لم يكن له من يعمل به يصبح تنظيراً فلسفياً لا مصداق له وتبطل بذلك حجج الله على خلقه. ولاجل ان تبقى تلك الحجة اطلقها ابو عبد الله الحسين عليه السلام اني لا ارى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما.
من محاضرات/ الشيخ القاضي محمد كنعان
يوم عاشوراء :
ذلك اليوم الرهيب، يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشهادة، طلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين(عليه السلام) وتفتك بدعاة الحق والثوار من أجل الرسالة والمبدأ.
نظر الحسين(عليه السلام) إلى الجيش الزاحف، ولم يزل(عليه السلام) كالطود الشامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه، ورفع يديه متضرعاً إلى الله تعالى قائلاً : اللهم أنت ثقتي في كل كَرْب، وأنت رَجائي في كُلِ شِدّة وأنت لي في كل أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم من همٍّ يَضْعَفُ فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك ففرّجته عني وكشفته فأنت وليّ كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة(١).
خطاب الإمام(عليه السلام) في جيش الكوفة :
أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام(عليه السلام) ولما رأى الحسين(عليه السلام) كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) وركب ناقته وأَخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم حيث يسمعون صوته وراح يقول: يا أهل العراق ـ وجُلُّهُمْ يسمعون ـ ، فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظَكم بما يحق لكم عليَّ وحتى أُعْذَرَ إليكم فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم.
ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ثم اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر الله تعالى بما هو أهله وصلّى على النبي(صلَّى الله عليه وآله) وعلى ملائكته وأنبيائه فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قط قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه ، ثم قال: أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟ ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله(صلَّى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عَمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله(صلَّى الله عليه وآله) لي ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فوالله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخِدْري و سهل بنَ سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنسَ بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ ... ثم قال لهم الإمام الحسين(عليه السلام): فإن كنتم في شك من هذا فتشكّون أني ابن بنت نبيكم فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبىّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجّار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار واْخضرّ الجَنابُ وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟ فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين(عليه السلام): (لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فِرار العبيد). ثم نادى: (يا عبادَ الله! إني عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ، أعوذ بربّي و ربّكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)(2).
لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله عَزَّ وجَلَّ عنهم في كتابه الكريم: (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاًً)(3).
الحر يخيّر نفسه بين الجنّة والنار :
وتأثر الحر بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين(عليه السلام) وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سئل عن السبب في ذلك قال: (والله إني أُخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار وبين الدنيا والآخرة ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنة شيئاً)، ثم ضرب فرسه والتحق بالحسين(عليه السلام) ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين(عليه السلام) فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصفح، فقال له الحسين(عليه السلام): (نعم ، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم). فقال له الحر: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتى أموتَ دونك. وخطب الحر في أهل الكوفة فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام(عليه السلام) ودعوتهم له وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام(عليه السلام) ثم مضى إلى الحرب فتحاماه الناس، ثم تكاثروا عليه حتى استشهد(4).
المعركة الخالدة :
حصّن الإمام(عليه السلام) مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.
نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح: ( يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم القيامة، فرد عليه أنت أولى بها صِلِيّا)(5)، وحاول صاحب الحسين(عليه السلام) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلا: (لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم)(6).
ويقول المؤرخون: إن بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الأولى، وأنّ الإمام (عليه السلام) أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله : يا قوم! إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) ثم استشهدهم عن نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي (صلَّى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله ابن زياد، فقال(عليه السلام): (تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً أحين استصرختمونا(7) والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً(8) لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ ـ لكم الويلاتُ ـ تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا(9)، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأمة وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة. وهيهات منا الذلة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر. ثم أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:
فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْما = ن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا
وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا
فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا = سَيَلْقى الشامتون كما لقينا
إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس = كلاكله أناخ بآخرينا(10)
أما والله لا تلبثون بعدها إلاكريثما يُركبُ الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ)(11) (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(12). ثم رفع يديه نحو السماء وقال: (اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير)(13).
كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين(عليه السلام)، والإمام الحسين(عليه السلام) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال لابن سعد: (أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟
والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم) فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً(14).
واستحوذَ الشيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى باتجاه معسكر الحسين(عليه السلام) وقال: (إشهدوا أني أولُ مَنْ رمى) ثم ارتمى الناس وتبارزوا(15).
فخاطب الإمام(عليه السلام) أصحابه قائلا: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم)(16).
فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جَلَّ جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحد حتى يقول: السلام عليك يا أبا عبد الله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين(عليه السلام) حتى يَقْتل العشرة والعشرين)(17).
استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسين(عليه السلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة.
فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين(عليه السلام) وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.
وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين(عليه السلام) ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.
ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل ، حتّى لم يبق مع الحسين (عليه السلام) إِلاّ أهل بيته خاصّةً . فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين (عليه السلام) ـ وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ ـ وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ على النّاس وهو يقول :
أنا علي بن الحسين = نحن وبيت الله أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدَّعي
ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله ، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال : عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم اثكل أباه ; فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل ، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصرع ، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين (عليه السلام) حتّى وقف عليه فقال : (قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول !) وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ قال: (على الدُّنيا بعدك العفا) وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي : يا أُخيّاه وابن أُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط ، وأمر فتيانه فقال: (احملوا أخاكم) فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه .
ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال له : عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم ، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله .
وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله .
وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله .
وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله .
قال حميد بن مسلم : فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدَّنَّ عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك؟ ! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم ; فقال : والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ! فجلى(18) الحسين (عليه السلام) كما يجلي الصقر ثمّ شدَّ شدّة ليث أغضب ، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين (عليه السلام) . وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات .
وانجلت الغبرة فرأيت الحسين (عليه السلام) قائماً على رأس الغلام وهو
يفحص برجله والحسين يقول : (بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك) ثمّ قال: (عزَّ ـ والله ـ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثرَ واتروه وقلَّ ناصروه) ثمّ حمله على صدره ، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) .
ثمّ جلس الحسين (عليه السلام) أمام الفسطاط فأتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين (عليه السلام) دمه ، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال : (ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين) ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله .
ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) فقتله .
فلمّا رأى العبّاس بن عليّ رحمة الله عليه كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمه ـ وهم عبد الله وجعفر وعثمان ـ يا بني اُمِّي! تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، فإنّه لا ولد لكم . فتقدّم عبد الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانيء بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانيء لعنه الله. وتقدّم بعده جعفر بن عليّ (عليه السلام) فقتله أيضاً هانيء . وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ (عليه السلام) وقد قام مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه ، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه .
وحملت الجماعة على الحسين (عليه السلام) فغلبوه على عسكره ، واشتدَّ به العطش ، فركب المسنّاة(19) يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء ، فقال الحسين (عليه السلام) : (اللّهمّ أظمئه) فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين (عليه السلام) السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم ، فرمى به ثمّ قال: (اللّهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيِّك) ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش .
استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام):
لم يبقَ مع الإمام الحسين(عليه السلام) سوى أخيه العباس الذي تقدم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه ثم أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة من قتل منهم، ولما قتل قال الحسين(عليه السلام): (الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي)(20).
وفي رواية أخرى: أن الإمام الحسين(عليه السلام) اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله) وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء، فقال الحسين(عليه السلام): اللهم أظمئه، فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه فانتزع الحسين(عليه السلام) السهم و بسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم فرمى به ثم قال: (اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك)، ثم رجع إلى مكانه
وقد اشتد به العطش وأحاط القوم بالعبّاس(عليه السلام) فاقتطعوه عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه(21).
ونظر الحسين(عليه السلام) إلى ما حوله، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.
وهكذا بقي الإمام(عليه السلام) وحده يحمل سيف رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) و بين جنبيه قلب علي (عليه السلام) وبيده راية الحق البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى.
الحسين(عليه السلام) وحيداً في الميدان :
حينما التفت أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) يميناً وشمالاً ولم ير أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟ فخرج الإمام زين العابدين(عليه السلام) من الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني ارجع. فقال: (يا عمّتاه! ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله(صلَّى الله عليه وآله)).
وإذا بالحسين(عليه السلام) ينادي: (يا أم كلثوم! خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد(صلَّى الله عليه وآله))(22).
ويقول المؤرخون: إنه لما رجع الحسين(عليه السلام) من المسنّاة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه، فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين(عليه السلام) وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل إلى رأسه فأدماه
فامتلأت القلنسوة دما، فقال له الحسين(عليه السلام): (لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين).
ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنْسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به)(23).
حمل الإمام الحسين(عليه السلام) سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة.
قال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه، أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(24).
ولمّا عجزوا عن مقاتلته، لجأوا إلى أساليب الجبناء; فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة أنْ يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء، فنادت ويحكم! أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد بشيء. ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب.
فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه،
وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد فقال له شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال: إحمله إلى الأمير عمر بن سعد.
ثم أقبلوا على سلب الحسين(عليه السلام) فأخذ قميصه إسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه(25).
امتداد الحمرة في السماء :
ومادت الأرض واسودَّتْ آفاق الكون وامتدت حمرة رهيبة في السماء كانت نذيراً من الله لأولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(26).
وصبغ فرس الحسين(عليه السلام) ناصيته بدم الإمام الشهيد المظلوم وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين(عليه السلام) ليعلم العيال بمقتله واستشهاده، وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي: (فلما نظرت النساء إلى الجواد مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد العز مذَلَّلات وإلى مصرع الحسين مبادرات).
ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وهي ثكلى: وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع
بكربلاء، ليت السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!!(27)
حرق الخيام وسلب حرائر النبوة :
وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) غير حافلين بمن في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين!)(28).
وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوة وعقائل الرسالة فنهبوا ما عليهن من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.
الخيل تدوس الجثمان الطاهر :
لقد بانت خِسّة الأمويين لكل ذي عينين، وعبّرت عن مسخ في الوجدان الذي كانوا يحملونه وماتت الإنسانية فتحولت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ولا يزعها وازع من بقية ضمير إنساني.
فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوة (عليهم السلام) في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وكل ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي:
أما بعد: فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئاً، ولكن علي قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(29).
على أن ابن زياد كان من أعمدة الحكم الأموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّ(صلَّى الله عليه وآله) الذي لم يكن خافياً على أحد من الأمويين .
وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه ؟ فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسين (عليه السلام) بخيولهم حتى رضّوا ظهره(30).
عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم :
ووقفت حفيدة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وابنة أمير المؤمنين (عليه السلام) العقيلة زينب (عليها السلام) على جثمان أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: (اللهم تقبّل هذا القربان)(31). إنَّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السر الوحيد في خلود تضحية الحسين(عليه السلام) وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
موسوعة مباركة
وفقكم الله وجعلها في ميزان حسناتكم
ودي
لم يترك الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله موبقة يوم عاشوراء إلا واتاها، ويندر أن ترى موقفا من مواقف يوم عاشوراء ليس للشمر فيه أثر، فكم من غصة قد تجرعها الإمام الحسين وأصحابه وأطفاله وحرمه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على يد هذا الآثم، وكم من دمعة قد أراقها هذا الخائن، فهو من جيّش جيوش الكفر التي توافرت على قتل سبط النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي ارتقى صدره وحز نحره وأيتم عياله وحرق وسلب ونكل وسبى وضرب حتى أدمى عيال الإمام وحرمه، وجرائم هذا المسخ البشري في يوم عاشوراء وما بعده وان كانت لا تحصيها الكتب ولا تصفها الأقلام لكثرتها وبشاعتها، إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وفيما يأتي جملة من مخازي أحواله، وموبقات أفعاله، وما سنغض الطرف عنه أكثر وأكثر.
1: كان الشمر لعنه الله أول من التحق بجيش عمر بن سعد لعنه الله:
قال العلامة المجلسي قدس الله روحه: (ثم جمع ابن زياد الناس في جامع الكوفة، ثم خرج فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبون، وهذا أمير المؤمنين يزيد، قد عرفتموه حسن السيرة محمود الطريقة، محسنا إلى الرعية، يعطي العطاء في حقه، قد أمنت السبل على عهده وكذلك كان أبوه معاوية في عصره، وهذا ابنه يزيد من بعده، يكرم العباد، ويغنيهم بالأموال، ويكرمهم، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة، وأمرني أن أوفرها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوه الحسين، فاسمعوا له وأطيعوا. ثم نزل عن المنبر ووفر الناس العطاء وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين عليه السلام، ويكونوا عونا لابن سعد على حربه، فأول من خرج شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف، فصار ابن سعد في تسعة آلاف)[1].
2: كان لعنه الله على ميسرة جيش عمر بن سعد لعنه الله:
قال الشيخ المفيد قدس الله روحه: (وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وهو يوم الجمعة وقيل يوم السبت، فعبأ أصحابه وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين عليه السلام وكان على ميمنته عمرو بن الحجاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجالة شبث بن ربعي، وأعطى الراية دريدا مولاه)[2].
وقال ابن الأثير: (وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس الأحمسي وعلى الرجال شبت بن ربعي اليربوعي التميمي وأعطى الراية دريدا مولاه)[3].
3: لماذا كان الشمر يتعمد تكرار الإغارة على خيام الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه؟:
من يتابع تصرفات الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله يوم العاشر من المحرم يجده يتعمد ولعدة مرات في الإغارة والهجوم على فسطاط الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وخيامه، منها ما رواه ابن كثير بقوله: (وجاء شمر بن ذي الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه وقال: إيتوني بالنار لأحرقه على من فيه، فصاحت النسوة وخرجن منه، فقال له الحسين: أحرقك الله بالنار)[4].
وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه: (واشتد القتال بينهم ساعة، وجاءهم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه، فحمل عليهم زهير بن القين رحمه الله في عشرة رجال من أصحاب الحسين فكشفهم عن البيوت[5]، وعطف عليهم شمر بن ذي الجوشن فقتل من القوم ورد الباقين إلى مواضعهم)[6].
وهذا التعرض المستمر لخيام الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وحرمه من قبل شمر ابن ذي الجوشن قد يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة:
الأول: هو حقد هذا المسخ البشري على أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجميع من ينتمي إليهم أطفالا ونساءً، مرضاهم واصحاءهم، شيوخهم وشبابهم، وهذا الحقد والنصب هو الذي يحدو به إلى محاولة الانتقام والتشفي منهم ولو بحرق بيوتهم عليهم أو بطعن جدار الخيمة بالرمح عسى أن يقع السنان في احد أفراد أهل هذا البيت الطاهر بغض النظر عن احتمال أن يكون هذا المطعون طفلاً أو امرأة.
والسبب الثاني: يعود إلى التركيبة النفسية لهذا الموجود الجبان، لان الشمر كان جبان النفس مهزوز الجنان لا يقدر على المواجهة بمفرده، ولم يشاهد له نزال منفرد لبطل من أبطال الطف، وهذا الجبن هو الذي كان يحدو به إلى تجنب النزال والمواجهة مع الرجال واستقصاده للخيام وتعمد إرعاب الأطفال والنساء، لان الأطفال والنساء لا قدرة لهم على الدفاع عن أنفسهم، والذود عن أرواحهم، لذلك يتعمد هذا الجبان تكرار الاعتداء عليهم.
والسبب الثالث: ان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه كان في أثناء حملاته على ذلك الجيش الكافر يبدد جمعهم ويقلب صفوفهم، وقد وصف المؤرخون صولاته وحملاته بوصف يبهر العقول، قال الطبري: (إن كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب)[7].
وقال الذهبي: (يقاتل قتال الفارس الشجاع، إن كان ليشد عليهم، فينكشفون عنه انكشاف المعزى شد فيها الأسد)[8].
فلكي يوقف قادة الجيش الكافر تلك الحملات الشجاعة من قبل سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، وتلافيا منهم للخسائر الجسيمة التي كانت توقعها تلك الحملات الحسينية، كانوا لعنهم الله يتعمدون التحرش والاعتداء على حرم الإمام صلوات الله وسلامه ‘عليه وخيامه، ليجبروه على إيقاف تلك الهجمات والرجوع مرة ثانية إلى مركزه، لمعرفتهم بعظيم غيرة وحمية سيد الشهداء على نسائه وحرمه وخيامه، وبذلك تعيد تشكيلات الجيش الكافر لملمة جراحاتها وتجميع صفوفها مرة ثانية.
4: بقاء الإمام الحسين وحيدا وتحريض الشمر لعنه الله للناس على قتله:
ان من أشد وأعظم رزايا عاشوراء هي تلك اللحظات الأخيرة التي بقي فيها سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه وحيدا بين جيش كالبحر يحيط به وبعياله وحرمه وأطفاله من كل جانب، لا ناصر ينصره، ولا ذاب يذب عنه وعن حرمه، الذين هم حرم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وثقله الذي أوصى الأمة بحفظه، ورعايته وصيانته، وهو في كرب عظيم وهم شديد، ان وقف ليستريح بادروا يرمونه بالسهام تارة، وبالرماح أخرى، وبالحجارة تارة ثالثة، فإن قاتلهم وأثخن فيهم القتل والجراح حملوا على عياله وخيامه وقتلوا أطفاله، أو أضرموا النار في بعض أطناب خيامه، كي يجبروه على ترك صولاته والرجوع إلى مركزه، وان عاد إلى حرمه سمع أصوات البكاء من امرأة فقدت زوجها، أو من أم فقدت ابنها، أو طفلة وطفل تيبست شفاههم وخمدت قواهم من العطش حتى صار لا يستطيع الحراك، ولا يملك حيلة غير بقايا أنين وصرخات وتأوهات يوصلها إلى أسماع الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه الذي كان أملهم المتبقي وفرصتهم الوحيدة للنجاة، وهو صلوات الله وسلامه عليه يستعين بالله على هذه الخطوب الجسيمة والرزايا العظيمة ويكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وحينما لم يستطع القوم مواجهة البطل وجها لوجه، أمروا لعنهم برشقه بالسهام، فانهالت عليه أربعة آلاف نبلة كأنها زخات المطر، فعلقت في جسده الشريف حتى صارت السهام على جسده كشوك القنفذ، فامتلأت أعضاء بدنه الشريف بالجراحات[9]، قال الشيخ الطبرسي قدس الله روحه: (قال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه، إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتد عليها الذئب. فلما رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن أمر الرماة أن يرموه، فرشقوه بالسهام حتى صار كالقنفذ)[10].
فلما أثخنته الجراح، وفتت كبده العطش، وأخذه نزيف الدم من رأسه، ومن قلبه الذي أصيب بسهم له ثلاث شعب، أخرج جزءاً من فؤاده صلوات الله وسلامه عليه، فضعف عن القتال، و(طعنه صالح بن وهب المري على خاصرته طعنة فسقط الحسين عليه السلام عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن)[11]، حينئذ نادى شمر بأصحابه ½ أن يحملوا عليه من كل جانب، قال ابن كثير: (حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم. فحملت الرجال من كل جانب على الحسين وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع)[12]، وقال الصفدي: (وبقي الحسين رضي الله عنه فريدا وقد قتل جميع من كانوا معه من المقاتلة أهله وغيرهم فلم يجسر أحد أن يتقدم إليه حتى حرضهم شمر بن ذي الجوشن فتقدم إليه من طعنه ومن ضربه بالسيف حتى صرع عن جواده ثم حز رأسه)[13].
قال المجلسي قدس الله روحه: (وأقبل عدو الله سنان الإيادي وشمر بن ذي الجوشن العامري لعنهما الله في رجال من أهل الشام حتى وقفوا على رأس الحسين عليه السلام فقال بعضهم لبعض: ما تنتظرون ؟ أريحوا الرجل، فنزل سنان بن الأنس الإيادي وأخذ بلحية الحسين وجعل يضرب بالسيف في حلقه)[14].
5: الشمر لعنه الله يقطع رأس الإمام الشهيد صلوات الله وسلامه عليه:
قد اختلفت الروايات التاريخية في تعيين الشخص الذي باشر قطع الرأس الشريف للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فالروايات التاريخية مترددة ما بين أن يكون الفاعل لهذه الجريمة الشنعاء والمصيبة النكراء هو سنان بن انس النخعي أو الإيادي لعنه الله، أو الشمر بن ذي الجوشن الضبابي لعنه الله، وان كان الصحيح كما يقول الصفدي ان الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله هو الذي تولى هذه المصيبة العظيمة، قال الصفدي: (شمر بن ذي الجوشن أبو السابغة العامري ثم الضبابي حي من بني كلاب...وهو الذي احتز رأس الحسين على الصحيح... قال خليفة العصفري الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن)[15].
ونقل السيد المقرم عن مقتل الخوارزمي: (ثم صاح ابن سعد بالناس: انزلوا إليه وأريحوه، فبدر إليه شمر فرفسه برجله وجلس على صدره وقبض على شيبته المقدسة وضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة واحتز رأسه المقدس)[16].
ولعل الاختلاف فيمن احتز الرأس الشريف، جاء نتيجة اشتراك أكثر من شخص في هذا الفعل الفظيع، فكل واحد من هؤلاء الأرجاس أدى جزءاً من المهمة، لذلك جمع ابن شهر آشوب في كتابه مناقب آل أبي طالب بين كل من سنان بن انس وشمر بن ذي الجوشن لعنه الله في مسألة قطع الرأس الشريف: (واحتز رأسه سنان بن أنس النخعي، وشمر بن ذي الجوشن. وسلب جميع ما كان عليه إسحاق بن حياة الحضرمي...)[17] وان كنا نعتقد بان المهمة الأخيرة قام بها الشمر لعنه الله.
وفي رواية ان الشمر لعنه الله: (جعل يحتز مذبح الحسين «عليه السلام» بسيفه، فلم يقطع شيئا. فقال الحسين «عليه السلام»: يا ويلك أتظن أن سيفك يقطع موضعا طالما قبله رسول الله «صلى الله عليه وآله» فكبه على وجهه، وجعل يقطع أوداجه، وكان كلما قطع منه عضوا، أو عرقا، أو مفصلا نادى: وا جداه، وا أبا القاسماه، وا علياه، وا حمزتاه، وا جعفراه، وا عقيلاه، وا غربتاه، وا قلة ناصراه)[18] ونحن وان لم نعثر على الرواية في غير هذا المصدر المنوه إليه في الهامش إلا ان ذلك ليس ببعيد، ولعل هذا الشيء هو الذي حدا باللعين إلى أن يضرب رقبة الإمام صلوات الله وسلامه عليه اثنتي عشرة ضربة، كما مر قبل قليل.
وفر إلى نحو الخيام جواده *** ففرت بنات الوحي ينظرن ما جرى
فأبصرن شمرا جالسا فوق صدره *** وقد كان للتوحيد لوحا ومصدرا
ويفري بحد السيف أوداج نحره *** فشلت يداه أي نحر به فرى
وشال على رأس السنان كريمه *** كمثل هلال فيه قد لاح نيرا
فزلزلت الأرضون واحمرت السما *** عليه ولون الشمس حزنا تغيرا
وأعظم ما رج العوالم والهدى *** وزلزل قلب الدين حتى تفطرا
وقوف بنات الوحي في مجلس حوى *** لكل دعي راح يبدي التجبرا
6: الشمر لعنه الله يأمر بقتل النساء ويباشر قتل الأسرى
كلمة المسلمين تكاد تكون مجمعة على عدم جواز قتل المرأة الكافرة حين نشوب الحرب حتى لو قاتلت إلا للضرورة القصوى، كما قال القاضي ابن البراج في المهذب: (ولا يجوز قتل النساء وإن قاتلن مع أهلهن)[19]، او كما نقل محيي الدين النووي في المجموع: (ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان، ولا يوجب القتال على الصبي والأعمى والأعرج ولا على من لا يجد القوة عليه مالا أو جسدا)[20] ولهذا الحكم أدلة شرعية، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه عليه انه سئل: (عن نساء اليهود والنصارى والمجوس، كيف سقطت عنهن الجزية ورفعت؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء والولدان في الحرب إلا أن تقاتل، ثم قال: وإن قاتلت فأمسك عنها ما أمكنك)[21]، كذلك أخرج البخاري: (ان امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان)[22].
فإذا كانت هذه معاملة الإسلام مع نساء الكفار من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، فمن أين استحل الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله وغيره من الممسوخين لعنهم السله قتل النساء والأطفال والمرضى في يوم عاشوراء الرهيب، وجواب هذا التساؤل بسيط للغاية فالشمر بن ذي الجوشن وأمثاله لعنهم الله لم يكونوا من أهل الإسلام أصلا، كما سيأتي في جواب نافع بن هلال له بعد أسره وقبل قتله.
قال الطبري: (وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول هنيئا لك الجنة فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها)[23].
وقال الطبري وغيره من المؤرخين وبألفاظ متقاربة: (وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله فجعل يرمي بها مسمومة وهو يقول أنا الجملي أنا على دين علي فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح قال فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيرا قال فأخذه شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحاب له يسوقون نافعا حتى أوتي به عمر بن سعد فقال له عمر بن سعد ويحك يا نافع ما حملك على ما صنعت بنفسك قال إن ربي يعلم ما أردت قال والدماء تسيل على لحيته وهو يقول والله لقد قتلت منكم اثني عشر سوى من جرحت وما ألوم نفسي على الجهد ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني فقال له شمر اقتله أصلحك الله قال أنت جئت به فإن شئت فاقتله قال فانتضى شمر سيفه فقال له نافع أما والله ان لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه فقتله)[24].
7: الشمر لعنه الله يأمر بقتل الإمام السجاد ويسوق رؤوس الشهداء إلى الكوفة ثم الشام:
قال محمد بن سعد في الطبقات: (وكان علي بن حسين مع أبيه وهو بن ثلاث وعشرين سنة وكان مريضا نائما على فراشه فلما قتل الحسين عليه السلام قال شمر ابن ذي الجوشن اقتلوا هذا فقال له رجل من أصحابه سبحان الله أنقتل فتى حدثا مريضا لم يقاتل)[25].
وقال ابن عبد البر في التمهيد: (وإنما لم يقاتل علي بن حسين هذا يومئذ مع أبيه لأنه كان مريضا على فراش لا أنه كان صغيرا قال أبو عمر روى أهل العلم بالأخبار والسير أنه كان يومئذ مريضا مضطجعا على فراش فلما قتل الحسين قال شمر بن ذي الجوشن اقتلوا هذا فقال له رجل من أصحابه سبحان الله أنقتل حدثا مريضا لم يقاتل)[26].
ومع ان الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه قد سلم من القتل بفضل الله سبحانه وتعالى وحكمته، إلا انه صلوات الله وسلامه عليه لم يسلم هو وإخوته وأخواته وعماته من الأسر والضرب المبرح والسبي وغل اليدين والرجلين بالحديد، وهم يشاهدون بأعينهم كيف ان رؤوس أهليهم وأنصارهم تقطع واحدا بعد الآخر وتوضع على رؤوس الرماح وتحمل وإياهم إلى الكوفة حيث ينتظر الدعي عبيد الله بن مرجانة لعنه الله، ثم إلى الشام حيث كان يزيد يعد العدة للتحضير إلى اكبر وأضخم احتفال عرفته آل أمية والشام.
قال الشيخ المفيد قدس الله روحه: (وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك ــ وهو يوم عاشوراء ــ برأس الحسين عليه السلام مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظفت[27]، وكانت اثنين وسبعين رأسا، وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج، فأقبلوا حتى قدموا بها على ابن زياد)[28].
ثم أرسل يزيد بن معاوية عليه لعنة الله إلى ابن مرجانة لعنه الله أمره بان يرسل إليه السبايا والرؤوس ليحتفل ويستعرض انتصاراته في الشام، قال ابن الأثير: (ثم جاء البريد بأمر يزيد بإرسالهم إليه، فدعا ابن زياد محفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن وسيرهما بالثقل والرأس)[29].
واخذ ثقل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهدى من دعي إلى عتل زنيم، ومن ظالم إلى اظلم، وهم على اشد حالات الجهد، وأعظم مراتب العناء، قال الطبري: (ثم إن عبيد الله أمر بنساء الحسين وصبيانه فجهزن وأمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفز بن ثعلبة صوته فقال هذا محفز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة قال فأجابه يزيد بن معاوية ما ولدت أم محفز شر وألأم)[30] وفي روايات علماء المذهب الحق إن من أجاب على محفز بن ثعلبة هو الإمام السجاد عليه السلام وليس يزيد بن معاوية عليه لعنة الله[31].
فلما قدم الشمر لعنه الله بالسبايا إلى الشام ودخل إلى أميره يزيد عليه لعنة الله رمى رأس سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه بين يديه، وصار يحكي ليزيد عليه لعنة الله قصة خيالية عن أحداث يوم عاشوراء، فصار يكذب فيها ويطيل الكذب، ويزيد عليه لعنة الله يستمع وملؤه الفخر بما فعل بسيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال الدينوري في الأخبار الطوال: (ثم إن ابن زياد جهز علي بن الحسين ومن كان معه من الحرم، ووجه بهم إلى يزيد بن معاوية مع زحر بن قيس ومحقن بن ثعلبة، وشمر بن ذي الجوشن. فساروا حتى قدموا الشام، ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأدخل معهم رأس الحسين، فرمي بين يديه. ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن، فقال: يا أمير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلا من أهل بيته، وستين رجلا من شيعته، فصرنا إليهم، فسألناهم النزول على حكم أميرنا عبيد الله بن زياد، أو القتال، فغدونا عليهم عند شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل جانب، فلما أخذت السيوف منهم مأخذها جعلوا يلوذون إلى غير وزر، لوذان الحمام من الصقور، فما كان إلا مقدار جزر جزور، أو نوم قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تسفي عليهم الرياح، زوارهم العقبان، ووفودهم الرخم)[32].
8: الشمر لعنه الله يسرق إبلاً للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وذهبا كان لنسائه:
عن الشيخ الطوسي قدس الله روحه في كتابه الأمالي قال: (واشتد أمر المختار بعد قتل ابن زياد وأخاف الوجوه وقال: لا يسوغ لي طعام ولا شراب حتى أقتل قاتلة الحسين بن علي «عليه السلام» وأهل بيته، وما من ديني أترك أحدا منهم حيا. وقال: أعلموني من شرك في دم الحسين وأهل بيته، فلم يكن يؤتونه برجل فيقولون هذا من قتلة الحسين أو من أعان عليه إلا قتله، وبلغه أن شمر بن ذي الجوشن «لعنه الله» أصاب مع الحسين[33] إبلا فأخذها، فلما قدم الكوفة نحرها وقسم لحومها. فقال المختار: احصوا لي كل دار دخل فيها شيء من ذلك اللحم، فأحصوها فأرسل إلى من كان أخذ منها شيئا فقتلهم وهدم دورا بالكوفة)[34].
وعن ابن أبي الفتح الأربلي في كشف الغمة عن زكريا بن يحيى بن عمر الطائني: (قال سمعت غير واحد من مشيخة طي يقول وجد شمر بن ذي الجوشن في ثقل الحسين ذهبا فدفع بعضه إلى ابنته ودفعته إلى صائغ يصوغ لها منه حليا فلما أدخله النار صار هباءا قال وسمعت غير زكريا يقول صار نحاسا فأخبرت شمرا بذلك فدعا بالصائغ فدفع إليه باقي الذهب وقال أدخله النار بحضرتي ففعل الصائغ فعاد الذهب هباءا وقال غيره عاد نحاسا)[35].
كان هذا غيضا من فيض وقطرة من بحر وما ارتكبه هذا المسخ لعنه الله بحق الإسلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعظم وأكبر من أن تحصيه هذه الوريقات.
9: نهاية الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله على يد المختار الثقفي:
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد متحدثا عن ثورة المختار بن عبيد الثقفي وانتقامه من قتلة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه: (ولم تنقض سنوات أربع على يوم كربلاء حتى كان يزيد قد قضى نحبه، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكل من مد يدا إلى الحسين وذويه...فسلط الله على قاتلي الحسين كفؤا لهم في النقمة والنكال يفل حديدهم بحديده ويكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه. وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي داعية التوابين من طلاب ثأر الحسين. فأهاب بأهل الكوفة أن يكفروا عن تقصيرهم في نصرته، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، وهو دفين مذال القبر في العراء.. فلم ينج عبيد الله بن زياد، ولا عمر بن سعد، ولا شمر بن ذي الجوشن، ولا الحصين بن نمير، ولا خولي بن يزيد، ولا أحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء.. وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزق وهدم الدور وتعقب الهاربين، وجوزي كل قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله.. فقتل عبيد الله وأحرق، وقتل شمر بن ذي الجوشن وألقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة.. فكان بلاؤهم بالمختار عدلا رحمة فيه، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار)[36].
وقال الشيخ الطوسي قدس الله روحه: (وطلب المختار شمر بن ذي الجوشن فهرب إلى البادية، فسعي به إلى أبي عمرة، فخرج إليه مع نفر من أصحابه فقاتلهم قتالا شديدا فأثخنته الجراحة، فأخذه أبو عمرة أسيرا، وبعث به إلى المختار فضرب عنقه، وأغلى له دهنا في قدر وقذفه فيها فتفسخ)[37] فلعنه الله ولعن من رضي بفعله إلى يوم القيامة آمين.
بقلم: الشيخ وسام البلداوي.