اللامبالاة بالمذبحة
ساطع نور الدين
دفن القتلى الذين بلغ عددهم 120 ضحية، وأدخل الجرحى الذين تجاوز عددهم الـ350 مصابا الى المستشفيات للمعالجة، ونظفت الشوارع من الأشلاء والدماء. ولولا بعض الحفر الحديثة هنا وهناك وبعض الجدران المهدمة والبوابات المتصدعة والسيارات والدراجات المحطمة، لما كان بالإمكان القول إن مذبحة ارتكبت بالعراقيين، ولكان بالإمكان الادعاء أنها مجرد كارثة طبيعية، هزة أرضية أو عاصفة جوية أو رملية ضربت المكان، وأزهقت أرواح هذا الرقم القياسي من الضحايا.
كأن شيئا لم يكن في العراق امس. لم يردد أحد من العراقيين تلك المزاعم اللبنانية عن إرادة الحياة وصلابة التحدي التي جعلت اللبناني بعد كل حرب، ينهض من تحت الدمار ليكمل المسيرة ويصنع المعجزة، ويثبت الادعاء بأنه متقدم على الأمم والشعوب الاخرى التي انهارت أو غرقت في اليأس بعد المعركة الأولى أو الثانية.. كانت اللغة العراقية المتداولة على المستويين الرسمي والشعبي توحي بالتسليم بالقدر وتتوقع المزيد من الدم وتطلب إما الثأر أو المغفرة، ولا تحمل المسؤولية لأحد لا في الداخل ولا في الخارج. هي ليست حروب العراقيين من أجل استدعاء الآخرين الى أرض العراق، وليست حروب الآخرين على أرض العراق.
هو مجرد يوم عادي من حياة العراق، لم يغير الكثير في نبض الشارع ولا في إيقاع السياسة ولا في مواقف أحد من الموالاة والمعارضة، ولا من أي دولة عربية أو إسلامية مجاورة، ولن يبدل في موازين القوى الداخلية أو الخارجية، ولن يعدل في الجدول الزمني للانسحاب الأميركي من العراق، ولن يؤثر على أي قضية إقليمية، سواء كانت الملف النووي الايراني أو التوتر العربي الايراني أو التفاوض الفلسطيني الاسرائيلي. هو قد يعمق الشرخ السني الشيعي الموجود أصلا في كل مكان عربي وإسلامي، والذي لم تعد الفتنة العراقية عنوانه الرئيسي.
إنه يوم عراقي عادي، يمكن أن يتكرر غدا أو بعد أسبوع أو شهر أو سنة، ويمكن أن يصبح مشهدا روتينيا جدا طوال السنوات العشر أو العشرين أو الثلاثين المقبلة، كما يمكن أن يستغرق القرن الحالي كله.. من دون أن تتوقف العملية السياسية ولا الانتخابات ولا فرز الاصوات ولا مراجعتها، ومن دون أن تتعطل الحكومات والمؤسسات، ومن دون أن تطرف عين أميركي واحد خدم في العراق أو ما زال على أرضه. وليس من المستبعد ابدا أن تتحقق المصالحة الأميركية الايرانية وأن تلحقها المصالحات العربية الايرانية، وليس من البعيد ايضا أن تشعل اسرائيل حربا كبرى في المشرق العربي، من غير أن تتوقف المذابح العراقية التي صارت نمطا وتقليدا وتراثا وأصالة، وباتت أشبه برياضة وطنية تثير اهتمام الجمهور لساعات فقط.. مثل أي حدث رياضي كبير.
المذبحة العراقية لن تتوقف ما دامت قد صارت عبثا دمويا، لا تقوى أي جهة داخلية على منعها، ولا ترغب أي قوة خارجية في إنهائها.. والى أن يتعب العراقيون أنفسهم أو يستيقظوا، فإن عدد قتلاهم وجرحاهم سيظل يرتفع وكذا اللامبالاة بتلك الرياضة المرعبة التي اختاروا مزاولتها عن سابق تصور وتصميم.