أحب السفر بالمركب. فالمركب في هذا الزمن، زمن السرعة وازدحام الأجواء، يعد ترفا يستغرق السفر فيه وقتا كافيا. إنه مناسبة لعدم التفكير في شيء، ولإعداد النفس لدخول إيقاع جديد. الوقت صيف وأنا كنت على المركب المسمى "مراكش"، الذي يصل بين سيت وطنجة. بالكاد أصبحت على متن المركب حتى قدم نحوي رجل قصير القامة، خمسيني، فاتحا ذراعيه. حياني وعانقني. لم أكد قد رأيت هذا الرجل قط. اضطربت قليلا ولم أقل شيئا ظاهريا، يفترض أن يكون هذا احتقارا، خطأ، أو تشوشا يعود للشبه بيني وبني أحد يعرفه. لا. طمأنني الرجل أن الموضوع ليس شيئا من ذلك.
- أدعى الحاج عبدالكريم. ولدت في مراكش في يوم حار بشكل استثنائي. متزوج من إمرأة صقلية. وأب لثلاثة أطفال يعرفونك ويحبونك. أنا للأسف لا أقرأ. زوجتي هي التي تقرأ لي. لا أقرأ، لكن لدي خبرة في الحياة، فيما هو مرئي، وما ليس كذلك. مهنتي؟ جعل الأجانب يحبون بلدي، تقديمه لهم بجماله وتعقيده. لكن ما أتى بي اليك (اللحظة التي انتظرتها طويلا)، هو الرغبة بأن أحكي لك قصة. قصة حقيقية. أنت كاتب، ألست كذلك ؟ استمع الي إذن. القصة هي قصة ابراهيم، الرجل الهاديء، الطيب، الذي يحاول أن يعول أسرته، إنها قصة مصير شخص، وجد نفسه على طريق الشر، اسمع...
كان الحاج عبدالكريم وسط صالون، وكان المسافرون قد هرعوا للاستماع اليه:
كان قد مضى وقت طويل منذ كف السياح عن الوقوف أمام ابراهيم وثعابينه. فلم تعد الثعابين، وقد تعبت وتقدمت في العمر كثيرا، وفقدت اليقين، تستجيب لموسيقى حاويها.
عبثا غير الناي، وغير اللحن. بقيت الثعابين بالكاد تخرج رأسها، إما لأنها مذعورة أو نائمة. والحل الوحيد لجعل الاستعراض جذابا من جديد، هو تغيير الحيوانات بدلا من تغيير الآلة الموسيقية. قرر ابراهيم أن يضحي ويشتري أفعى لامعة، فتية وحيوية. جلبت اليه الأفعى من قرية مشهورة بزواحفها. لاطفها، ضايقها، ثم عزف لها قطعة موسيقية من تأليفه. كانت موهوبة جدا، ترقص بشكل غير اعتيادي. كانت تتثنى وفق المراد مشبعة الايقاع بصورة دقيقة، مادة لسانها كي تضبط الترنيمة. استعاد ابراهيم ثقته بنفسه. فتنت الثعابين بالأفعى الزرقاء الجميلة.
في الليلة التالية رأى ابراهيم حلما غريبا. كانت الساحة الكبيرة مقفرة ينيرها بدر تام. كان جالسا في الوسط، مصالبا رجليه. لم يكن يستطيع الحراك، حتى ليقال إنه كان مثبتا الى الأرض بواسطة لاصق خاص. مقابله ظهرت الأفعى بملامح شابة زرقاء اللون، لم يستطع أن يعرف إن كانت ترتدي شالا أزرق، أم أن ذلك كان لون جلدها. كان لها جسد امرأة ورأس أفعى. راحت تكلمه وهي تدور حوله: "مساء هذا اليوم لعبت اللعبة، وأريتك ما أنا قادرة على فعله. لست تلك التي تظن. لن تحكم علي بالتثني في سبيل نيل إعجاب سياحك. أستحق شيئا أفضل. أنا شابة أرغب أن أعيش وأركض في الحقول وأحس بالانفعال. أرغب أن أختزن المتع والذكريات لأيام شيخوختي. إذ كان سياحك ينشدون الانفعالات القوية، فليس أمامهم سوى الذهاب الى الامازون، أو الى بلد الأحجار التي تملك ذاكرة. أنذرك إن قدمتني في استعراضك، ستندم... مع أني لست واثقة إن كنت ستجد الوقت كي تندم على أي شيء...".
كانت وهي تكلمه، تدور حوله، ملامسة يده أو وركه. حاول الاجابة، لم يستطع اخراج صوته من حنجرته. كان مخدرا. وكانت، هي الواثقة من نفسها، تتابع حديثها: "لا تحاول أن تشرح لي مشكلتك وتستدر شفقتي. تخل عني تسلم. لدي الكثير لأفعله. هذا فصل جني المحاصيل، وعلي أن أعود لأقبع تحت الأحجار. أحب طراوة أيدي الفتيات اللواتي ينحنين لجمع القمح. سياحك يسببون لي التقزز. إنهم ليسوا جميلين. وأنت تكتفي بإكراميتهم الزهيدة. ليكن عندك قليل من الكرامة. الآن بامكانك الانسحاب. الساحة ستمتليء. الشمس ستشرق. وأنت ستفكر. إذا أردت أن تحظي بالسلام، أعد لي حريتي."
استيقظ ابراهيم مذعورا، مرتجفا ومحموما. فتش في الصندوق الذي تنام فيه الثعابين. كانت الأفعى هناك، مطمئنة وغارقة في نوم عميق. توضأ بعد أن اطمأن، ثم صلى صلاة الصبح. رفع يديه وسأل الله العون والحماية: "يا الله، أنت الكبير والرحيم. احمني من السوء ومن عديمي الضمير. أنا انسان ضعيف أكسب لقمتي بفضل الحيوانات. ليس لدي ما أحارب به الشر، ولا ما يمكنني من تغيير مهنتي. الزمن صعب. نحن حواة أبا عن جد. ولدت ونشأت وسط الزواحف. لم أشعر بثقة تامة بها قط. إنه غدارة. أنا مسلم صالح، لا أؤمن بالتقمص، ولكني ألتقي بأشخاص قلوبهم وأرواحهم هي قلوب وأرواح أفاع عتيقة، غرقت في الرياء والخبث.
لم يكن من عادته أن يصلي وأن يبرر نفسه. منذ سنين طويلة وهو يمارس هذه المهنة دون أن يطرح على نفسه الأسئلة، هزه حلم الأمس فقد كان فيه شيء ما حقيقي. شعر ابراهيم بالخوف. خوف من حادث ما. خوف من العين الحاسدة.
كان عليه ذلك اليوم أن يرقص ثعابينه في فندق كبير أمام جمع من السياح الذين دفعوا مبالغ اضافية ليشهدوا ذلك العرض ذي الغرائبية المضمونة: رؤية أفعى ترقص على وقع موسيقى انسان جبلي. استذكر ابراهيم أحد الأ دعية قبل مغادرة البيت. تجنب أن يركب دراجته، وعلق حول رقبته يدا فضية. لقد تم من حيث المبدأ، طرد الخوف. وصل الى الفندق في الساعة المقررة. كان السياح قد انتهوا للتو، من تناول أكلة محلية وشربوا نبيذا أو بيرة. كانوا سينين، يخالطهم النعاس قليلا. قدم المذيع ابراهيم "سيداتي سادتي نقدم لكم الآن، ما طالما سمعتم عنه دون أن تروه قط. ستشاهدون ما يصنع الفرق بين الشمال والجنوب. ستشاهدون ما ليس من السحر بل من الشعر: أشهر حاو في الساحة. الرجل الذي يخاطر بحياته لكي يمنحكم المتعة. نقدم لكم، ابراهيم وثعابينه.."
كانت آلات التصوير مهيأة. بعض السياح لم تظهر عليهم الاثارة كانوا يشربون الشاي بالنعناع مع الكعك. ظهر ابراهيم واهيا ومترددا، حيا الجمهور بانحناءة خيل له أثناء انحنائه، أن لمح امرأة الحلم الزرقاء. رأسها رأس عصفور وترتدي جلابية زرقاء تشد جسدها، كانت بدون ثديين تقريبا. وتجلس على غصن شجرة، تؤرجح ساقيها مثل طفلة. عزف ابراهيم على الناي مؤخرا لحظة فتح صندوق الثعابين. طار النعاس من أعين السياح. ثبت الجميع انظارهم على الصندوق. دفع ابراهيم الغطاء وغار بيده في جو في الصندوق. أمسك بالأفعى. في الواقع، هي التي تشبثت بمعصمه. في اللحظة التي كاد أن يداعب رأسها فيها، لدغته. كانت ما تزال تحتفظ بسمها، رغم أنها أفرغت منه أمام عينيه حين اشتراها. سقط جثة هامدة. امتلأ فمه بالدم والزبد الأبيض. كان هذا الزبد سما. ظن السياح أنهم أمام مزاح ثقيل. احتج بعضهم، وقد شعر بالاحباط، وتقيأ آخرون غداءهم وقد هزهم هذا الموت. التقطت الصور كذكرى لموت فجائي. ذكرى للفنان الذي مات على الخشبة.
نقلت جثة ابراهيم الى المشرحة الرئيسية وضعت في الدرج رقم 31.
------------------------------
وللحديث بقيه؟؟؟