الحرافيش (مقتطفات من الرواية) - نجيب محفوظ
نجيب محفوظروائيمصري حائز على جائزة نوبل في الأدب. وُلد في 11 ديسمبر 1911، وتوفي في 30 أغسطس 2006. كتب نجيب محفوظ منذ بداية الأربعينيات واستمر حتى 2004. تدور أحداث جميع رواياته في مصر، وتظهر فيها ثيمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم. من أشهر أعماله الثلاثية وأولاد حارتنا التي مُنعت من النشر في مصر منذ صدورها وحتى وقتٍ قريب. بينما يُصنف أدب محفوظ باعتباره أدباً واقعياً، فإن مواضيع وجودية تظهر فيه. محفوظ أكثر أديبٍ عربي حولت أعماله إلى السينما والتلفزيون.
“لو أن شيئا يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول ؟”
“احذر الحب فهو مكيدة”
“أسبل جفنيه الغليظين متفكرا، شعر بأن الخلاء يلتهم الأشياء، وأنه يود أن يتسلق شعاع الشمس، أو يذوب في قطرة الندى، أو يمتطي الريح المزمجرة في القبو، ولكن صوتا صاعدا من صميم قلبه قال له أنه عندما يحل الخلاء بالأرض فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذي الجلال”
“من يحمل الماضي تتعثر خطاه”
“لما لا نشك في الماضي ليرتاح بالنا؟”
“عاشر الزمان وجها لوجه بلا شريك. بلا ملهاة ولا مخدر. واجهه في جموده وتوقفه وثقله. إنه شيء عنيد ثابت كثيف وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ مرهق متجهم. غير محتمل إذا انفرد بمعزل عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فرارا من الزمن. الشكوى من قصره ومروره أرحم من الشكوى من توقفه.”
“في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا”
“وتمر الأيام ، وتنمو الحياة وتتفرع ، وتتجمع المصائر في الأفق”
“عليه أن يرتفع، أن يرتفع دائمًا، فلا سبيل إلى النقاء إلا بالإرتفاع. وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، وهمسات الفضاء، وأماني القوة والخلود، بعيدًا عن أنات الشكوى والخور و روائح العفن. الآن تشدو ألحان التكيّة بأغنيات الخلود، ،تعرض الحقيقة العشرات من وجوهها الخفية، وينكشف الغيب عن شتى المصائر. من هذه الشرفة يستطيع أن يتابع الأجيال في تعاقبها، أن يؤدي لكل جيل دورًا، وأن ينضم بصفة نهائية إلى أسرة الأجرام السماوية.”
“الناس تراقب وتتذكر، تحصي اللفتات والنوايا، تؤول الأوهام بأوهام، تتعجل تحقيق الظنون، تتستر بالتقوى والبراءة.”
“ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. وإذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى. وإذا كان قد انتكس بعد وجوده فيمكن أن نضمن له حياة لا تعرف الانتكاسة.”
“ فعندما تستحكم القبضة ولا يوجد منفذ واحد للأمل تؤمن القلوب القانطة بالمعجزة”
“وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية ، يؤاخي الظلام ، ويذوب في الأناشيد. وتساءل مرة في حيرة:
ترى أيدعون لنا أم يصبون علينا اللعنات؟
وتساءل مرة أخرى في أسى:
منذا يحل لنا هذه الألغاز؟
وتنهد طويلا ثم استطرد:
إنهم يغلقون الأبواب لأننا غير أهل لأن تفتح في وجوهنا الأبواب!”
“يذهب الإنسان بخيره و شره و لكن تبقى الأساطير”
“الانتظار محنة، في الانتظار تتمزق اعضاء الأنفس، في الانتظار يموت الزمن و هو يعي موته. و المستقبل يرتكز على مقدمات واضحة و لكنه يحمل نهايات متناقضة. فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء.”
“- هل يرضيه الظلم ياجدتي؟
- كلا يابني.
- لم يسكت عنه؟
- من يدري يابني، ربما لسخطه على تهاون الناس مع الظالم”
“عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض على أهداب الرؤية فغاصت قبضته في أمواج الظلام الجليل. وانتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة. وهتفت الحناجر شادية:
دوش وقت سحر از غصه نجاتم دارند
واندر آن ظلمت شب آب حياتم دارند”
“- منذا الذي لا يتعظ بعد مأساة فائز؟
- نحن ، ما تاريخ أسرتنا إلا سلسلة من الانحرافات والمآسي والدروس الضائعة.”
“مَنْ يحمل الماضى تتعثر خطاه”
“شعر بأن كائنًا خرافيًا حل بجسده. إنه يملك حواس جديدة ويرى عالمًا غريبًا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة وها هي الحقيقة ذي تكشف عن وجهها. إنه ذكرى لا حقيقة. موجود وغير موجود. ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أي معرفة له. متعال متعلق بالغيب. غائص في المجهول. مستحيل غامض مندفع في السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لا نهائي، وحيد. أغلق باب الأبدية. تهدمت الأركان تماما. لسان يلعب له هازئا. ثمة عدو يتحرك وسوف ينازله. لن يتأوه. لن يذرف دمعة واحدة. لن يقل شيئا. السماء تشتعل بالنيران. كبركة الدم الأحمر. رأى وعده المجهول بإدراك كل شيء. وسمع صوت يقول "وحد الله" رباه أيوجد معه آخرون؟ أيوجد آخرون في الدنيا؟ من قال إذن أن الدنيا خالية؟ خالية من الحركة واللون و الصوت. خالية من الحقيقة. خالية من الحزن و الأسى والندم. إنه في الواقع متحرر. لا حب و لا حزن. ذهب العذاب إلى الأبد. حل السلام. ثمة صداقة مطروحة على القوى العاتية. هنيئًا لمن يروم أن تكون النجوم خلانه، والسحب أقرانه، والهواء نديمه، والليل رفيقه.”
“واستقرت الإهانة في الأعماق ، فهي لا تهضم ولا إلى الخارج تقذف”
“وعقب منتصف الليل ذهب إلى ساحة التكية لينفرد بنفسه في ضوء النجوم ورحاب الأناشيد. تربع فوق الأرض مستنيما إلى الرضى ولطافة الجو. لحظة من لحظات الحياة النادرة التي تسفر فيها عن نور صاف. لا شكوى من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان. كأن الأناشيد الغامضة تفصح عن أسرارها بألف لسان. وكأنما أدرك لم ترنموا طويلا بالأعجمية وأغلقوا الأبواب.”
“هل يفضي إليه بحلمه أيضا؟ ولكنه لم يجد فيه أي ثقة. يمكن التفاهم مع الحرافيش أما هذا الشخص الناجح المتهور فلا تفاهم معه.”
“انقلب الظلام قناة سحرية بين الأرواح. ثمل الفضاء بالهمسات السحرية. في غفلة من الرقباء تدفقت النجوى مفعمة بالحرارة. ويتساءل الرجل:
- أأنت عاشور الناجي؟
ولكن الهامس سرعان ما يذوب في الظلام مثل روح شارد.
همسة تدعو النائم أن يستيقظ. همسة تؤكد أن المخازن مليئة بالخير. همسة تلعن الجشع ، الجشع عدو الإنسان لا القحط. همسة تتساءل أليست المغامرة أفضل من الموت جوعا. وهمسة تنبه إلى أنه توجد ساعة ينام فيها رجال العصابة فتتخلى عنهم قوتهم. وهمسة تسأل ماذا يمكن أن يقف في وجه الكثرة إذا اندفعت؟ وهمسة تتحدى ، كيف تترددون ومعكم عاشور الناجي؟!
انقلب الظلام قناة سحرية بين الأرواح. ثمل الفضاء بالهمسات السحرية. شحن الغيب بالقوى المجهولة.”
“وسبح فى الظلام صرير فرنا إلى الباب الضخم بذهول. رأى هيكله وهو ينفتح بنعومة وثبات. ومنه قدم شبح درويش كقطعه متجسدة من أنفاس الليل. مال نحوه وهمس: استعدوا بالمزامير والطبول، غدا سيخرج الشيخ من خلوته، ويشق الحاره بنوره، وسيهب كل فتى نبوتا من الخيزران وثمرة من التوت، استعدوا بالمزامير والطبول.”
“عندما يحل الخلاء بالأرض فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذى الجلال.”
“وحتم عاشور على الحرافيش أمرين. أن يدربوا أبناءهم على الفتونة حتى لا تهن قوتهم يوما فيتسلط عليهم وغد أو مغامر ، وأن يتعيش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات.”
“فليعبّ كل ملهوف من قدح القلق ما شاء”
“وازداد الجو عبوسة ودمامة، وامتطت الأسعار الجنون، ندر الفول والعدس والشاي والبن، واختفى الأرز والسكر، وتدلل الرغيف، وندت عن الأعصاب المرهقة بوادر استهانة، فتعددت السرقات، وتعاقب خطف الدجاج والأرانب، وبعض السائرين ليلا نهبوا أمام بيوتهم، وانبرى رجال العصابة ينذرون ويهددون، ويدعون إلى الأخلاق والتضامن بحناجر قوية وبطون مكتنزة.”
“كلا ، لم يقنع بما لديه من هم. وكيف يقنع من أدمن التواجد كل يوم ساعة في الخلاء وساعة أو ساعتين في ساحة التكية؟! كيف يقنع من ينطوي صدره على جذوة دائمة الاشتعال؟ كيف يقنع من تؤرقه الأحلام الملونة؟ كيف يقنع من بات يعتقد بألا جد له إلا عاشور الناجي؟”
“لم لا ترجع الأيام إلى الوراء كما تتقدم إلى الأمام؟ لم نخسر ما نحب ونعاني ما نكره؟ لماذا تذعن الأشياء لأوامر صارمة؟”
“لا خجل من الضعف إذا المرء عليه انتصر و ما معنى القوة إذا لم تستو فوق خلجات الخور. فانهل من رحيق الحياة السامي النابع من علو الهمم”
“و سرعان ما عادت الفتونة إلي سابق عهدها قبل عاشور الناجي. فتونة علي الحارة لا لها، و لا خدمة تؤديها إلا خدمة الدفاع ضد الفتوات الآخرين. و حتى في هذه الناحية اضطر "عتريس" إلى مهادنة أعداء و محالفة آخرين، بل حتي الإتاوة دفعها إلي فتوة الحسينية ليتجنب معركة خاسرة. و كلما هان خارج الحارة زاد طغيانا و صلفا داخلها. و أهمل أختة فتحية و أكثر من الزواج و الطلاق. و استأثر بالإتاوات هو و عصابته علي حين أغدق علي الحرافيش الزجر و التأديب، و أنزل الوجهاء-على حد قول سعيد الفقي شيخ الحارو- حيث أنزلهم الله سبحانة و تعالى..”