لم نعد نخبز في البيت.
هناك آثار في الباحة الخلفية لبيت جدّتي تشير إلى مكان الوقيد والصاج، وهناك بضعة أعواد يابسة نجت من النار وبقايا رماد.
توقّفت نساء عائلتنا عن هذا الطقس التاريخي منذ سنوات طويلة، قد تصل إلى عقدين.
منذ أنهك الزمن وأعمال الحقول والصناعات اليدوية جدّتي.
منذ وقعت عن حفّة جلّ الزيتون وعادت إلى البيت كاتمة ألمها.
لم تعد جدّتي تقدر على شقاء الخبز. أمّي وخالتي خبزتا المناقيش والفطائر فقط، لأجل الفطور أو العشاء، وفي المناسبات الخاصّة: أعياد أو عودة المسافرين في الإجازات، أو "توحيمة" إحدى الحوامل.
صار التحلّق حول الصاج أو التنّور في حديقة المنزل أو فسحة الديار مناسبة ثمينة.
فهمتُ الأمر أكثر حين كانت طاهية شهيرة تتحدّث عن أمجاد مخبزها في التلفزيون، كانت تملك فرناً وتصنع الخبز والحلويات، وكانت تقول إنّها لن تعود أبداً إلى ذلك العناء، الاستيقاظ قبل الفجر لأجل تحضير العجين، وما سيكون وجبات إفطار الزبائن. فهمتُ أنّ الأمر ليس مجرد تعب عاديّ، بل هو عملٌ مضنٍ.
لكنّني، طفلةً، كنت أصرّ على تعلّم إعداد الخبز، على مشاركة نساء العائلة هذا الطقس الرائع، الذي كنت أراه تسلية ولا أعرف شيئاً عن متاعبه، لأنّ جدّتي كانت تقوم به بشكل شبه يومي من دون شكوى، كعادتها.
التعامل مع العجين، أغواني. تقليد سواعد النسوة ورشاقتهنّ في صنع الفرح وريّ النهم، وأحاديثهن المشوّقة عن حكايات حدثت في أماكن بعيدة، أو حكايات منذ أزمنة بعيدة لم أصدّق أنّها خرافية..... كلّ هذا وأكثر كان مغرياً.
حين علّمتني جدّتي غواية الخبز، كانت تسلّمني أحد مفاتيح الحياة بزهدها ودنيويتها. فالخبز قمح وماء، ولا طعم لكليهما على حدة. الماء من دون طعم، وللقمح طعم أشبه بالتراب. لكنّه مع رشّة خميرة وبعض الماء ولحظة تنسّك ينتفخ، ويستدير، ويصير ملمسه كمداعبة القشدة. تقطّعه جدّتي إلى أقراص، وتكوّرها في يدها وترصّها في خلّية متكدّسة.
أخذَت أحد الأقراص وضغطتْ أصابعها العشرة على رأسه، وتابعت نزولاً حتّى منتصفه، ثم أدارته لتفعل بالمثل على رأسه الآخر وإلى النصف أيضاً، حتّى اتّسع القرص وصار مزخرفاً ببصماتها. كرّرت حتى استنفدت أصابعُها الحيلة، فلجأت إلى الحيلة الثانية "الشوبك". مرّرته فوق قرص العجين فصار أرقّ وأوسع. اتّسع كقمر الليالي الصافية.
بين خطوة وأخرى كانت ترشّ الطحين كي لا يلتصق القرص بخشب الطاولة. ثم الحيلة الأخيرة: رفعت الرغيف بسرعة إلى ساعدها، وجعلت الساعد يرميه للساعد الثاني، قالت: "بهلّ".
تابعت الهلّ، وفي كلّ مرّة كان الرغيف يتّسع ويرقّ، ثم راحت تسوّي "الكارة" فوق فخذها، وتضع الرغيف عليها وتجذبه من أطرافه ليصير على مقاسها، وأخيراً تلصق الكارة والرغيف على الصاج الساخن، وهكذا يصدر الصوت الحميم الذي سأبقى أُحبّه للقاء النار والعجين، وتفوح الرائحة الشهيّة التي تُحدث معجزات في المخيّلة والبصيرة والبصر واللسان.
لكنّ الرغيف الأوّل، وإن كان من صنعي، بقي محرّماً.
رمته جدّتي جانباً. ضربتني على يدي الممتدّة نحوه. وطلبت منّي أن أصبر وأنتظر الرغيف الثاني، لأنّ الأوّل "نصيب الكلبة". طالما كان الرغيف الأوّل للكلبة. كلبة مجهولة لم تأخذ نصيبها يوماً، ولم تمرّ بنا ولو مصادفة. لم تعطِني جدّتي سبباً، قالت إنّ أمّها ونساء العائلة كنّ يرمين الرغيف الأوّل ويقلن إنّه للكلبة. هذا كلّ شيء. ولكنّني تابعت البحث عن إجابة، حتّى وجدتُها عند امرأة عابرة، قالت إنّ من تأكل الرغيف الأوّل يموت بكرها.
لا شكّ في أنّ الرغيف الأوّل كان الأشهى. كثيرات تشاجرن عليه، فقرّرت الخبّازة رميه، وهدّدتهنّ بأنّ من تأكله يموت بكرها. تلك كانت أفدح خسارة لأيّ أنثى.
أما أن يموت بكر الكلبة فهذا لن يُحزن أحداً، "وبالناقص كلب بين هالكلاب"... قالت تلك المرأة العابرة.
كان ذلك حين كان للبشر قيمة تفوق قيمة الكلاب، وحين كانت رائحة شواء الخبز وحمرة حبيباته تبارك بيتنا.
بسمة الخطيب