كان في حديقة منفردة بنفسجة جميلة الثنايا طيبة العرف تعيش قانعة بين أترابها و تتمايل فرحة بين قامات الأعشاب
ففي صباح و قد تكللت بقطر الندى رفعت رأسها و نظرت حواليها فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء
ورأس يتسامى متشامخا كأنه شعلة من النار فوق مسرحية من الزمرد
ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق و قالت متنهدة:
ما أقل حظي بين الرياحين و ما أوضع مقامي بين الأزهار
فقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة حقيرة أعيش ملتصقة بأديم الأرض و لا استطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء أو أحول وجهي نحو السماء مثلما تفعل الورود
و سمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة فاهتزت ضاحكة ثم قالت :
ما أغباك بين الأزهار فأنت في نعمة تجهلين قيمتها فقد وهبتك الطبيعة من الطيب و الظروف و الجمال ما لم تهبه لكثير من الريحان فخلي عنك هذه الميول العوجاء و الأماني الشريرة و كوني قنوعا بما قسم لك و أعلمي ان من خفض جناحه رفع قدره و ان من طلب المزيد و قع في النقائص
أنت تعزينني أيتها الوردة لأنك حاصلة على ما أتمناه وتغمرين حقارتي بالحكم
لأنك عظيمة و ما أمر مواعظ السعداء في قلوب التاعسين و ما أقسى القوي إذا خطيبا بين الضعفاء
و سمعت الطبيعة ما دار بين الوردة و البنفسجة فاهتزت مستغربة ثم رفعت صوتها قائلة:
ماذا جرى لك يا أبنتي البنفسجية فقد عرفتك لطيفة بتواضعك عذبة بصغرك شريفة بمسكنك فهل أستهوتك المطامع القبيحة أم سلبت عقلك العظيمة الفارغة
فأجابت البنفسجة بصوت ملؤه التوسل و الإستعطاف:
أيتها الأم العظيمة بجبروتها الهائلة بحنانها أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوسل
و ما في روحي من الرجاء ان تجيبي طلبي و تجعليني وردة و لو يوما واحدا
فقالت الطبيعة: أنت لا تدرين ما تطلبين و لا تعلمين ما وراء العظمة الظاهرة من البلايا الخفية فإذا رفعت قامتك و بدلت صورتك و جعلتك وردة تندمين حين لا ينفع الندم
حولي كياني البنفسجي الى وردة مديدة القامة مرفوعة الرأس .... و مهما يحل بي بعد ذلك يكن صنع رغباتي و مطامعي
فقالت الطبيعة: لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة و لكن إذا دهمتك المصائب و المصاعب فلتكن شكواك من نفسك
و مدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية و لمست عرق البنفسجية فتحولت بلحظة الى وردة زاهية متعالية فوق الأزهار و الرياحين
ولما جاء عصر ذلك النهار تلبد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار ثم هاجت سواكن الوجود فأبرقت و رعدت
و أخذت تحارب تلك الحدائق و البساتين بجيش من عرمرم من الأمطار و الأهوية فكسرت الأغصان و لوت الأنصاب و أقتلعت الأزهار المتشامخة و لم يبقى إلا على الرياحين الصغيرة التي تلتصق بالأرض أو تختبئ بين الصخور
أما تلك الحديقة المنفردة فقد قاست من هياج العناصر ما لم تقاسيه حديقة أخرى
فلم تمر العاصفة و تنقشع الغيوم حتى اصبحت أزهارها هباء منثورا و لم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدران الحديقة
و رفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها فرأت ما حل بأزهار الحديقة و أشجارها فأبتسمت فرحا ثم نادت رفيقاتها قائلة :
الا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة و عجبا
و قالت بنفسجة أخرى: نحن نلتصق بالتراب و لكننا نسلم من غضب العواصف و الأنواء
و قالت بنفسجة ثانية: نحن حقيرات الأجسام غير ان الزوابع لا تستطيع التغلب علينا
و نظرت ملكة طائفة البنفسج فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة و قد أقتلعتها العاصفة و بعثرت أوراقها الرياح و ألقتها على الأعشاب المبللة فبانت كقتيل أرداه العدو بسهم
فرفعت ملكة البنفسج قامتها ومدت أوراقها ونادت رفيقاتها قائلة: تأملن و أنظرن يابناتي انظرن الى البنفسجة التي غرتها المطامع فتحولت الى وردة لتتشامخ ساعة ثم هبطت الى الحضيض ليكن هذا المشهد أمثولة لكن
عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة و استجمعت قواها و بصوت متقطع قالت:
الا فاسمعن أيتها الجاهلات القانعات الخائفات من العواصف و الأعاصير لقد كنت بالأمس مثلكن أجلس بين أوراقي الخضراء مكتفية بما قسم لي و قد كان الإكتفاء حاجزا منيعا يفصلني عن زوابع الحياة و أهويتها و يجعل كياني محدودا بما فيه من السلامة متناهيا بما يساوره من الراحة و الطمأنينة و لقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن ملتصقة بالتراب حتى يغمرني الشتاء بثلوجه و أذهب كمن ذهب قبلي الى سكينة الموت و العدم قبل أن أعرف من أسرار الوجود و مخبآته غير ما أعرفته طائفة البنفسج منذ و جد البنفسج على سطح الأرض لقد كان بإمكاني الأنصراف عن المطامع و الزهد في الأمور التي تعلو بطبيعتها عن طبيعتي و لكن أصغيت في سكينة الليل فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم:
إنما القصد من الوجود الطموح الى ما وراء الوجود
فتمردت نفسي على نفسي و هام وجداني بمقام يعلو عن وجداني و ما زلت أتمرد على ذاتي و أتشوق الى ما ليس لي حتى أنقلب ترمدي الى قوة فعالة و أستحال شوقي الى إرادة مبدعة فطلبت الى الطبيعة و ما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية أن تحوليني الى وردة ففعلت وطالما غيرت الطبيعة صورتها و رسومها بأصابع الميل و التشويق
و سكتت الوردة هنيهة ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر و التفوق:
لقد عشت ساعة كملكة لقد نظرت الى الكون من وراء عيون الورود و سمعت همس الأثير بأذان الورد و لمست ثنايا النور بأوراق الورود فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي
ثم لوت عنقها و بصوت يكاد يكون لهاثا قالت:
أنا أموت الآن أموت و في نفسي ما لم تكنه نفس بنفسجة من قبلي أموت و أنا عالمة بما وراء المحيط المحدود الذي ولدت فيه و هذا هو القصد من الحياة هذا هو جوهر الكائن وراء عرضيات الأيام و الليالي
و أطبقت الوردة أوراقها و أرتعشت فليلا ثم ماتت و على وجهها إبتسامة علوية إبتسامة من حققت الحياة أمانة إبتسامة النصر و التغلب أبتسامة الله