كان الفضول يجتاح نفسي كلما تحدثتُ معها، فأردت أن أعرف تاريخها منذ ميلادها. ذات يوم هزم هذا الاجتياح نفسي، فلم تستطع صده، وتجمعت شجاعتي، وطرحت عليها السؤال الذي كان يراودني منذ رأيتها أول مرة:
- لماذا لا تتحرك عينك اليسرى؟، فأنا أراها دائمًا ثابتة، فقالت:
- عيني اليسرى ماتت منذ كنت صغيرة، فقد وقعت لي حادثة وأنا في الثالثة من عمري.. كنت ألهو في المنزل مع إخوتي، فاصطدمت بطاولة كان عليها مطفأة سجائر زجاجية، فاخترق الزجاج عيني اليسرى، ولم أبصر بها منذ ذلك الحين.
أعجبتني صراحتها وشموخها وهي تحكي لي ما حدث.. ازداد تعلقي وشغفي بها وقلقي عليها. بدأ قلبها وحنانها يتشعبان داخلي، في غفلة مني، وتساءلت: هل هذا حب أم شفقة، أم إعجاب بشموخ "إيمان"؟!
مرت الأيام، وتقابلنا كثيرًا، وتحادثنا أكثر، فظهرت لي بوضوح، فبرغم أني أرى بعينين كاملتين وهبهما الله تعالى لي، إلا أنني لم أستطع أن أراها كاملة إلا بعد فترة طويلة من الوقت. كانت ترى بعين واحدة، وتسمع بأذن واحدة، وتحكم على الناس في لحظة واحدة، دون أن تعطي فرصة لعقلها حتى يفكر برهة واحدة. سجنت نصف حواسها وعاقبتها بسبب عينها اليسرى التي فقدتها. وثار تساؤل رهيب بداخلي: ماذا لو كانت فقدت عينيها معًا؟ هل كانت ستقتل نفسها حزنًا على فقدان بصرها؟!
في أحد الأيام، عرفتني على "سارة"، وقالت إنها صديقتها المقربة إلى قلبها. رحبتُ بها، ولا أنكر أنها كانت تمتلك قدرًا من الجمال الجاذب لمن يراه. أعجبني جمالها، ولكن لم يعجبني حديثها، فهي متكلفة في كل شيء، في الحديث عن أحلامها لمستقبلها، وفي ملابسها، وفي خطوات سيرها، فكانت تسير كما تسير قطة بيضاء ضالة في زقاق يعيش فيه جائعون منذ أن رأوا كوكب الأرض. ولأنني لم أكن جائعًا، حاولت جذبي بشتى الطرق، فتارة كانت تهاتفني في وقت متأخر من الليل لتشكو لي آلام جسدها من نومها الخاطئ على فراشها، وتارة أخرى تهاتفني لتأخذ رأيي في لون عدسات العين التي ستغير بها لون عينيها. كنت أسمعها وأبتسم بيني وبين نفسي من فراغها.
أحست بداخلها أنها فشلت في صيدي، فقررت عقابي.. وأبعدت "إيمان" عني، ولا أدري كيف، كل ما لحظته أن "إيمان" تجنبتني في الجامعة، حاولت مهاتفتها أكثر من مرة، لكنها أبت أن تجيبني.
نجحت "سارة" في عقابي، وساعدتها "إيمان" لتنال مني بعد أن شيدت سجنًا بأسوار عالية، حتى تمنع المسجونين من الهرب، وهي لا تعلم أنهم ضعاف لا يقوى أحدهم على السير كباقي الأحياء. سجنت كل حواسها، وقبلهم سجنت قلبها في سجن انفرادي، فأصابه هذا بالتوقف عن تأدية دوره في حياتها، أما عقلها، فأعلنت أنه ملغى منذ ميلادها، وإلا ما كانت شيدت سجنًا وسجنت فيه الضعفاء.
مرت فترة من الوقت اختفت كل من "إيمان" و"سارة" عن الجامعة، وأثار هذا الاختفاء ريبة داخلي، أحسست أن هناك حدثًا قد وقع لكلتيهما، لكن الصمت الذي أصاب قلبي منعني من معرفة أخبارهما. نظرت إلى الدنيا بنظرة حريصة كي أطمئن على نفسي، حتى لا أقع مرة أخرى فريسة لجراح الحب في وقت ازداد فيه نزيف القلوب..
ذات يوم، بينما كنت متجهًا إلى قاعة المحاضرات، وجدت ازدحامًا من بعض الزملاء أمام ورقة معلقة على باب مكتب شئون الطلبة.. انتابني الفضول لمعرفة ما جذب انتباههم.. اتجهت إلى الوقة، وما أن وقعت عيني عليها حتى أصابني شلل مؤقت في كلتي قدمي، وعلقت على لساني كلمة واحدة، هي (لماذا؟!)
نظر إلي أحد الزملاء، وقال لي:
- إذن أنت لم تعلم أنهما ضبطتا في شقة وهما تمارسان أعمالاً مخلة بالآداب.
نظرت له وفي عيني دمعة تحجرت قبل أن تسقط على وجهي، فنظر إلي واستطرد قائلاً:
- قرار الجامعة بفصلهما عادل؛ فنحن لسنا في حاجة إلى تلوث أخلاقي يحاصرنا أثناء نمو عقولنا بالعلم.
سمعت حديثه وذاكرتي تعرض على عيني كل ما حدث.. اتجهت إلى قاعة المحاضرات والأفواه تتحدث من حولي بكلمات لم أفهمها:
- إنهما وباء وتخلصنا منه.
- "سارة" كانت جميلة.. فتاة بالألوان الطبيعية، لكن "إيمان" فتاة أبيض وأسود.
- "سارة" الصديقة المقربة لـ "إيمان".. شيء متوقع أن تسقطا معًا.
عاد السؤال الذي سألته لنفسي مرة أخرى: ماذا لو كانت "إيمان" فقدت عينيها معًا؟ هل كانت ستقتل نفسها حزنًا على فقدان بصرها؟ ليتها قتلت نفسها بطريقة أشرف من ذلك الانتحار الملوث.
في هذا اليوم، جلست مع نفسي جلسة طويلة.. كي أحقق معها، فهي مذنبة لأنها استسلمت لمشاعرها دون مقاومة.. استسلمت لفتاة صنعت منها سيفًا بيدها، وضربتها ضربات عشوائية، فأصابتها إصابات بالغة قبل أن تتعلم صناعة دروع لها لتصد عنها ضربات السيوف.
انتهت الجلسة بالحكم على نفسي بالنفي من عالم الحب لفترة من الوقت تتعلم خلاله كيفية صنع الدروع، كحق شرعي لها، لمواجهة ضربات الحياة، وألا تصنع سيوفًا حتى لا تنتحر في يوم من الأيام إذا أصابها الجنون مثلما فعلت نفس "إيمان".
بقلم :_ محمد حسن عبد العليم