عن بهلول قال: بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع البصرة وإذا بالصبيان يلعبون بالجوز واللوز وإذا بصبي ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبي يتحسر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه، فقلت: أي بني ما يبكيك؟ اشتر لك ما تلعب به؟ فرفع بصره إلي وقال:(يا قليل العقل ما للعب خلقنا)، فقلت: فلم إذاً خلقنا؟ قال:(للعلم والعبادة)، قلت: من أين لك ذاك بارك الله فيك؟ قال:(من قول الله تعالى: ]أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون [ )، فقلت: أي بني أراك حكيماً فعظني، وأوجز فأنشأ يقول:
أرى الدنيا تجهزّ بانطلاق
فلا الدنيا بباقية لحيّ
كأنّ الموت والحدثان فيها
فيا مغرور بالدنيا رويداً
مشمّرة على قدم وساق
ولا حيّ على الدنيا بباق
إلى نفس الفتى فرساً سباق
ومنها خذ لنفسك بالوثاق
ثم رمق إلى السماء بعينه وأشار بكفه ودموعه تنحدر على خديه وأشار يقول:
(يا من إليه المبتهل، يا من عليه المتكل، يا من إذا ما آمل يرجوه لم يخط الأمل..) قال: فلما أتم كلامه خرّ مغشياً عليه، فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب عن وجهه فلما أفاق قلت: أي بني ما أنزل بك وأنت صبي صغير لم يكتب عليك ذنب؟ قال: (إليك عني يا بهلول، رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد إلاّ بالصغار وأنا أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم).
فقلت له: أي بني أراك حكيماً فعظني، فأنشأ يقول:
غفلت وحادى الموت في أثري يحدوا
انعمّ جسمي باللباس ولينه
كأني به قد مرّ في برزخ البلا
وقد ذهبت عني المحاسن وانمحت
أرى العمر قد ولى ولم أدرك المنى
وقد كنت جاهرت المهيمن عاصياً
وارخيت دون الناس سرا من الحيا
بلى خفته ولكن وثقت بحلمه
فلو لم يكن شيء سوى الموت والبلى
لكان لنا في الموت شغل وفي البلى
عسى غافر الزلاّت يغفر زلتي
أنا عبد سوء خنت مولاي عهده
فكيف إذا أحرقت النار جثتي
أما الفرد عند الموت والفرد في البلى
ولم أرح يوماً ولابدّ أن أغدو
وليس لجسمي من لباس البلى بدُّ
ومن فوقه ردم ومن تحته لحد
ولم يبق فوق العظم لحم ولا جلد
وليس معي زاد وفي سفري بعد
وأحدثت أحداثاً وليس لها ودّ
وما خفت من سرى غدا عنده يبدو
وإن ليس يعفو غيره فله الحمد
ولم يك من ربي وعيد ولا وعد
عن اللهو لكن زال عن رأينا الرشد
فقد يغفر المولى إذا أذنب العبد
كذلك عبد السوء ليس له عهد
ونارك لا يقوى لها الحجر الصلد
وابعث فرداً فارحم الفرد يا فـرد
قال بهلول: فلما فرغ من كلامه وقعت مغشياً عليّ، وانصرف الصبي فلما أفقت ونظرت إلى الصبيان فلم أره معهم فقلت لهم: من يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفته؟ قلت: لا، قالوا: ذاك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم) قال: فقلت: قد عجبت من أمره وما تكون هذه الثمرة إلاّ من تلك الشجرة