عم الظلام المكان و انقطعت الحركة من الشارع و تسيد المطرُ المشهد الليلي في الحي الذي قادني القدر ان اقيم فيه بعيدا عن مسقط رأسي
و حضن والدتي الطيبة التي شملتني بعنايتها منذ اول يوم ولادتي الى ان قرر القدر ان يفرق بيننا دون سابق انذار
توجهت صوب المكتب اقلب الصور في الألبوم و الحاسوب بحثا عن تصميم و ديكور يرضي غرور ذلك الزبون المتعجرف
بينما انا غارق في توضيب امور العمل فاجأني صوت شيء ما يرتطم بزجاج النافذة اعتقدته في الوهلة الاولى الريح بما ان الليلة ممطرة بشكل غير اعتيادي عدت الى اتمام العمل لأفاجأ من جديد بذلك الصوت اكثر قوة من المرة الأولى
دفعني الأمر لان اقوم من مكاني لأتأكد من الصوت فتحت النافذة لأجده يلوح بيده لي كان هو من يضرب زجاج النافذة بالحجر كي افتحه له بعد ان تردد في ان يرفع صوته مناديا كي لا يزعج الجيران النيام في هذا الوقت المتأخر
نزلت مسرعا كي افتح له الباب وهو الواقف تحت المطر الغزير
بمجرد فتح الباب دخل مسرعا الى المنزل هل انت ميت عشرات المرات و انا اتصل بك ولا ترد اكثر من خمس مرات و انا اضرب النافذة يارجل ولم تنبته حتى اعتقدت انك نمت و تركت النور في غرفتك و هي ليست عادتك لأنك تعشق الظلام
لا ابدا يا صاح كنت اعمل قليلا انت تعرف ان علي السفر مجددا الى هناك
قاطعني اتضحك علي ايها السعيد انت تعمل في منتصف الليل قل تهرب من شيئ الى العمل
طيب مادمت تعرف لماذا تسأل و تلح
هيا نصعد اريد ان ارتاح
صعدنا للشقة و علق معطفه المبلل و جلس فوق الأريكة السوداء
هل كنت تعلم قدومي ايها السعيد؟
لا ابدا لما
اراك قد اعددت طقوس ضيافتي سيجارة حمراء و قهوة سوداء
رغما عني سرقة مني ابتسام شاحبة
لا تقل لي عدت من جديد للأمر يا سعيد
لا لم اعد قل اعادوني من جديد
لم تخبرني ما الذي قذفك علي هذا المساء
لا شيئ انت تعلم لما تغلق كل الأبواب في وجهي لا اجد غير بابك يا سعيد واعلم انه دوما مفتوح لي لذلك لا اتردد
اهلا بك دوما
كنت اعرف انه لا يأتي الى بيتي الا عندما يكون هناك شيئ في داخله يحرق وجدانه و اعرف انه لا يحتاج ان أسأله او اصر عليه كي يحكي
بقدر ما يحتاج الى قليل من الصمت و سيجارة و قهوة و تنهيدة و ينطلق في الحكي
سحب السيجارة من العلبة و اخذ فنجان القهوة
اتدري ايها الرفيق اني رجل فارغ من الداخل
منذ ان ولدت و انا ابحث عن من يملئ فراغي
فتهت في صحراء الحياة
حتى قادني القدر الى شيء اعتقدت انه الواحة التي أحط الرحال فيها و اروي عطشي
صدقا كان ذلك في البداية وجدت ما بحث عنه في المرة الأولى و بدأت اتنقل من هنا الى هناك اعرف اهل هذه العشيرة و اتعرف عليهم امكث لفترة و اغادر و اخلف انطباعا حسنا لدى الجميع
تكرر الأمر كثيرا
وبعد ان احسست اني امتلأت من الداخل و راح الفراغ الذي رافقني طوال حياتي الى الأبد قررت الإستقرار في هذه العشيرة لأن فيها ما كنت افتقده
لكن هيهات ان يحصل الإستقرار
فقد وجدت امورا تطاردني من ايام فراغي
و تسود مقامي في هذه العشيرة حاولت ان اتخلص من الماضي الأسود الذي كنت اعيشه قررت و عزمت لكن لم يتركني اصر ان يعود بي اليه مكرها
و خرب مقامي و بيتي في هذه الواحة
التي تبين لي فيما بعد انها مجرد مستنقع
وفيها من الأجناس الشيء الكثير حطوا الرحال فيها ليقيموا حفلة تنكرية كبيرة جدا
و كنت الغبي الذي شارك في الحفل و غير قناعه اكثر من مرة
لتنتهي الحفلة و اكون الوحيد الذي عرف انه كان المتنكر البليد
لأنه كشف وجهه للجميع و ظل الجميع متنكرا
اتسمعني ايها الرفيق
طأطأت رأسي
و استمر في البوح
قررت المغادرة و غادرت و انا اجر معي لعنات كثيرة ودعوات الكثير من الناس الذين اسأت اليهم بالقصد او بدون قصد
المهم أخطأت و اتحمل كامل المسؤولية
رميت كل الأقنعة
و قررت ان لا اشارك بعد اليوم في اي حفلة كانت
لانني منذ اليوم لن ارتدي اي قناع و سأكون بملامحي الحقيقية كي يعرفني الجميع ولا اريد اي شيئ اخر
سوى الهدوء
لاني تغيرت فعلا ايها السعيد تغيرت نعم تغيرت
كان يقولها بحرقة لم اعهدها فيه من قبل
في خضم الحديث لم اكن ارى سوى الدخان ولا ادقق في غير عينيه اللتان اعتلاهما بريق ناذر لا هو دمع ولا انعكاس الضوء
اكمل القهوة و معها علبة السجائر
قام من مقعده
اريد ان انام يا سعيد
اذهب اولا الى الحمام و استحم و انفض غبار تلك الواحة و العرق الذي تصبب منك اثناء الحفل و غير ملابسك ريثما احضر لك شيئ تأكله
غادر صوب الحمام و بدأت افكر فيما قاله نحن لا نختلف نحن كما قال لي يوما روح في جسدين
دوما ما كنت اسمع له حتى افهمه بينما هو لم يكن يحتاج لسماعي فقط نظرة ليعرف ما يخالجني
غريب هذا الرجل فعلا لا يكاد يقف حتى يسقط من جديد
بينما انا اكلم نفسي صاح من الحمام
اسمع ايها السعيد و تذكر جيدا ما قالته لي يوما كانت حكمة و سترافقني مدى الحياة
قالت لي يوما
لا تهرب من امرأة الى حضن اخرى لانك لن تستطيع نسيان الأولى بالثانية و لن تنسيك الثالثة الأولى و الثانية
كانت حكمة بليغة جدا
فالجري وراء النساء دوامة لا تقود الا الى العذاب و الاشمئزاز من النفس