الثورة الحسينية وأثرها في حياة المسلمين
alshirazi.net
:. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد: لعل سائلاً يسأل إن الثورة الحسينية كانت فاشلة تماماً، فهي لم تحقق نصراً سياسياً آنياً يطوّر الواقع الإسلامي الى حالٍ أحسن من الحال التي كان عليها قبل هذه الثورة، لقد بقي المسلمون بعد الثورة كما كانوا قبلها: قطيعاً يساق بالقوة الى حيث يراد لا الى حيث يريد ويساس بالتجويع والإرهاب. ولقد إزداد أعداء هذه الثورة قوة على قوتهم، فلم تنل منهم شيئاً. وأما صانعوها فقد أكلتهم نارها وشملت أعقابهم مئات السنين، فحملت عليهم الموت والذل والتشريد والحرمان فهي فاشلة على الصعيد الإجتماعي وهي فاشلة على الصعيد الفردي.
ولكن الحق غير ذلك في عين الباحث البصير، فإن علينا لكي نفهم ثورة الحسين ان نبحث في أهدافها ونتائجها في غير النصر الآني الحاسم، وفي غير الإستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان فان ما بين ايدينا من النصوص دال على ان الحسين كان عالماً بالمصير الذي ينتظره وينتظر من معه.
قال لابن الزبير حين طلب منه اعلان الثورة: «وايم والله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت».
وكان يقول: « والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة».
• إقتراحات ونصائح:
وأجمع نصحاؤه ـ حين شاع نبأ عزمه على المسير الى العراق ـ على انه فاشل حتماً في الوصول الى نتيجة سريعة من ثورته، فقد كانت قوى المال والسلاح متحدة ضده، فكيف ينتصر؟ وفزعوا إليه ينصحونه بالمكوث في مكة أو الخروج عنها الى غير العراق من بلاد الله، من هؤلاء عمر بن عبد الرحمن المخزومي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر.
ولكنه أبى عليهم ما أشاروا به فقال لعبد الرحمن بن الحرث:
« جزاك الله خيراً يا ابن عم، فقد والله علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل ومهما يقض الله من أمر يكن: أخذت برأيك أو تركته فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح».
وقال لعبد الله بن عباس:
« يا ابن عم اني والله لأعلم انك ناصح مشفق ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير».
وقال في موقف آخر: « لأن أقتل في مكان كذا أو كذا أحب إلي من أن تستحل حرمتها بي ـ يعني الحرم..».
• عبد الله بن عمر:
وقال لعبد الله بن عمر وقد نصحه بالصلح والمهادنة مع يزيد: «يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا أُهدي الى بغي من بغايا بني اسرائيل...إتق الله يا أبا عبد الله ولا تدعن نصرتي».
وأجاب الفرزدق حين قال: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية:
« صدقت لله الأمر والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته».
• كتاب من المدينة:
وورد إليه كتاب عمر بن سعيد بن العاص عامل المدينة يمنيه فيه الأمان والصلة والبر وحسن الجوار وأرسله إليه مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر فجهدا أن يرجع فلم يفعل ومضى وهو يقول:
« قد غسلت يدي من الحياة، وعزمت على تنفيذ أمر الله».
• أخبار من العراق:
وهكذا ما نزل منزلاً إلا ولقي من ينصحه بعدم الخروج الى العراق ويذكر له من أنباء أهله ما يكشف عن خذلانهم له وأنكفائهم عليه حتى أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وهو بالثعلبية فأهاب به بعض أصحابه بالرجوع فأبى، فلما كان بزبالة (وهو موضع بطريق مكة) أتاه خبر قتل أخيه بالرضاعة عبد الله ابن يقطر فخرج حين ذاك الى من صحبه من الناس وقال:
« أما بعد فإنه قد أتاني خبر فضيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه منا ذمام فتفرق عنه الناس تفرقاًَ فأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤا معه من المدينة وإنما فعل ذلك لأنه ظن إنما إتبعه الأعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت طاعة أهله فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه» وأجاب من نصحه بالرجوع الى مأمنه من منزله ذاك بعد أن تبيّن له الأمر فقال له:
« يا عبد الله انه ليس يخفى عليّ أن الرأي ما رأيت ولكن الله لا يغلب على أمره»
• استنتاج:
هذه النذر كلها تشير الى أنه كان عالماً بالمصير الذي ينتضره واذن فليس لنا أن نبحث عن أهداف ثورة الحسين ونتائجها في الإستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان، لأنه لم يستهدف من ثورته نصراً آنياً، ولأنه كان مدركاً لاستحالة الحصول على نصر آني. وقد يبدوا هذا غريباً جداً فكيف يسير إنسان الى الموت مع طائفة من أخلص أصحابه طائعاً مختاراً وكيف يحارب في سبيل قضية يعلم أنها خاسرة. وكيف يمكن لعدوه من التمكين، هذه علامات استفهام كثيرة نبحث عن أجوبتها.
والذي اعتقده هو أن وضع المجتمع الإسلامي إذ ذاك كان يتطلب القيام بعمل إنتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا المجتمع ويتضمن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ لكي يكون مناراً لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق، وتضمحل عندهم إحتمالات الفوز وترجح عندهم إمارات الفشل والخذلان.
لقد كان عامة المجتمع وقادة أفراده إذ ذاك يقعدون عن أي عمل أيجابي لتطوير واقعهم السيء بمجرد أن يلوح لهم ما قد يعانون في سبيل ذلك من عذاب وما قد يضطرون الى بذله من تضحيات وكانوا يقعدون عن القيام بأي عمل إيجابي بمجرد أن تحقق لهم السلطة الحاكمة بعض المنافع القريبة ولم يكن ذلك خلق السادة وحدهم، بل كان خلق عامة الناس أيضاً، لذا رأينا تخاذل مجتمع بأسره عن نصر قضيته حين أوقع ابن زياد بمسلم بن عقيل وكيف أخذت المرأة تخذل إبنها وزوجها وأخاها وكيف أخذ الرجل يخذل ابنه وأخاه وأباه لقد كان اولئك الذين قالوا للحسين: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك صادقين في تصوير ذلك المجتمع فان قلوب الناس كانت معه لأنهم يحبون أن يصيروا الى حال أحسن من حالهم، ولكنهم حين علموا أن ذلك موقوف على بذل تضحيات قد تصل الى بذل الحياة انكمشوا وسلمو سيوفهم في خدمة الذين يدفعون لهم أجر قتالهم لهذا الذي جاء بدعوة منهم ليحررهم فحين استيقن ابن زياد أن الحسين ماض فيما اعتزمه جمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ومدح يزيد وأباه وذكر حسن سيرتهما وجميل أثرهما ووعد الناس بتوفير العطاء لهم وزادهم في أعطياتهم مائة مائة وأمرهم بالإستعداد والخروج لحرب الحسين.
• موقف سلبي:
هذا هو موقف الشعب من الحركات العامة التي يتوقف نجاحها على التضحيات وأما موقف الزعماء فقد عرفته، وهذه صورة أخرى منها قدمها لنا عمر بن سعد أمير الجيش الأموي فقد دار أمره بين أن يحارب الحسين وبين أن يفقد إمرة الري فاختار الأولى على الثانية.
ولقد حاور الحسين عليه السلام في كربلاء فقال له:
« ويلك يا ابن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادك؟
أتقاتلني وأنا ابن عمك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك الى الله فقال ابن سعد: أخاف أن تهدم داري، فقال الحسين عليه السلام: أنا أبنيها لك، فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي، فقال الحسين: أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز، فقال: لي عيال وأخاف عليهم، وهنا أتضح للحسين أنه رجل ميت القلب، ميت الضمير، فانسان يقيس مصير مجتمعه بهذا اللون من القياس ليس أنساناً سوي التكوين النفسي، فقال له الحسين: ما لك؟ ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إني لأرجو ألا تأكل من بر العراق إلا يسيراً.
فقال مستهزءاً:
في الشعير كفاية.
هذا هو المجتمع الإسلامي في أيام الحسين: مجتمع مريض يشترى ويباع بقليل من المال وكثير من العذاب والإرهاب وما كان من الممكن أن ترد الى هذا المجتمع إنسانيته وكرامته وما كان من الممكن أن يبنيه الى زيف وحقارة وجوده، وما كان من الممكن أن توقض فيه الروح النضالية الهامدة إلا بعمل إنتحاري فاجع يتضمن أسمى آيات التضحية والكرامة والدفاع عن المبدأ والموت في سبيله وهكذا كان.
إن الحسين لم يكن ذا مال لينافس الأمويين وبيدهم خزائن الأموال ولم يكن ليتجافى عن روح الإسلام وتعاليمه فيجلب الناس إليه بالعنف والإرهاب، ولذا فليس من المعقول أن يطلب نصراً سياسياً آنياً في مجتمعه لا يحارب إلا في سبيل المال وبالمال أو بالقسر والإرهاب، ولكن كان في وسعه أن يقوم بعمله الذي قام به ليهز أعماق هذا المجتمع وليقدم له مثلاً أعلى طبع في ضمائر أفراده بدم ونار، وإذا نحن تقصينا أسماء من قتل الحسين في كربلاء وجدنا أصحابه ينتمون الى معظم القبائل العربية، فقل أن توجد قبيلة عربية لم يقتل مع الحسين منها واحد أو اثنان.
ومن هنا يمكن القول أن فاجعة كربلاء دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك وأنفعل بها المجتمع الإسلامي ولقد كان هذا كافيا لكي يبعث في الروح النضالية الهامدة جذور جديدة، وأن يبعث في الضمير الشلو هزة تحية وأن يبعث في النفس ما يبعثها للدفاع عن كرامتها.
• من أهداف الثورة:
وهذه الملاحظات تجعل من المتعين علينا ألا نبحث عن نتائج ثورة الحسين فيما تعودناه في سائر الثورات وإنما نلتمس نتائجها في الميادين التالية:
1ـ تحطيم الإطار الديني المزيف الذي كان الأمويون وأعوانهم يحيطون به سلطانهم وفضح الروح اللادينية الجاهلة التي كانت توجه الحكم الأموي.
2ـ بث الشعور بالإثم في نفس كل فرد وهذا الشعور الذي يتحول الى نقد ذاتي من الشخص نفسه يقوم على ضوئه موقفه من الحياة والمجتمع.
3ـ خلق مناقبية جديدة للإنسان العربي المسلم وفتح عيني هذا الإنسان على عوالم مضيئة باهرة.
4ـ بعث الورح النضالية في الإنسان المسلم من أجل إرساء المجتمع على قواعد جديدة ومن أجل رد إعتباره الإنساني إليه.