ننظر إلى بعضنا بريب��ة. اآلن ال رغبة لي في القتل.
اآلن ال رغب��ة له في الهروب. أنا أس��تعد للخروج بعد
قلي��ل. سأس��رق لحظة متع��ة. في الحض��ن الغريب
سأمحو الضجر الذي أصابني بالتجاعيد وبالخوف من
الموت وبذلك اإلصرار على القتل.
- أمي أنا خارجة.
- انتظري...
أمس��ح باقي الماء، أرفع تباني بس��رعة. عندما أخرج
تك��ون ابنت��ي ق��د أغلقت ب��اب البي��ت وراءه��ا. هي
مس��رعة دائم��ا، تريد أن تصل إلى م��كان ما. حاولت
مرات أن أخبرها أال مكان نصل إليه. نحن نمشي في
متاه��ة ال متناهية. لماذا تس��رعين -ووحده الموتُ،
بعيدا في األمام، أدعو اهلل- أمامكِ؟
أري��د أن أتجم��ل. أدخل غرفة ابنت��ي. أبحث في علبة
ماكياجه��ا. وأم��ام مرآتها، أجلس على الكرس��ي. لم
يع��د وضع الماكي��اج أمرا ممتعا. ابنت��ي تضعه لتبرز
جمالها، لتزيده نضارة. ليقال لها:
- أنت ال تحتاجين ماكياجا...
أن��ا أضع��ه ألخف��ي الضج��ر الذي س��كن ف��ي جلدي
حتى ترهل وش��اخ. ثالث��ون عاما وأنا أقت��رف الزواج
كخطيئة. من��ذ الصب��اح األول وأول الزغاريد المهللة
بالحي��اة الجديدة. حياة ممل��ة. نظرت إلى وجه زوجي
الطيب واكتأبت. س��أقضي باق��ي العمر معه ! حملت
ثالث مرات. ابنتي كانت الكبرى. تش��بهني، يقولون.
ُ تشبهني... أنظر إليها فال أجدني. تَنظر إليّ وال ترى
نفسها. أكمل وضع الماكياج بلمسة أحمر خفيف على
الش��فتين. أعرف أن ابنتي ذهبت لتقابل خطيبها. قد
تأتي باكية مثلما فعلت قبل أسبوع.
- اتركيه.
- أمي، عمري سبع وعشرون سنة. من سيتزوجني؟
- هن��اك رج��ال كث��ر، أن��ت أجم��ل منه وأذك��ى. أنت
تعملين، لماذا تتزوجين؟
- أمي...
ال نتفق. هي تريد الس��جن. أنا أري��د المتعة. ثالثون
عام��ا، أنظ��ف البي��ت، أطب��خ، أفت��ح جس��دي بنفس
الطريقة لذات الرجل في ذات السرير. زوجي الطيب...
قال لي صباحا وهو يستعد للسفر إلى الجنوب:
- هل تحتاجين شيئا؟
ُ كنتُ أعد المال الذي وضعه في يدي. لم أعد القبالت
على وجهي. كان قد نسي أن يُقبّلني مودعا.
- أجلب تمرا جيدا.
قلت ذلك بحكم العادة. هو س��يجلب تمرا وحنة وربما
قليال من الزعفران بحكم العادة أيضا.
- ال تس��محي للولدين أن يعودا متأخرين مساء، قال
وغادر البيت.
بحك��م العادة، أقفلت الباب وراءه وذهبت إلى ش��رفة
المطبخ ألراه يركب س��يارته وينطلق بعد أن يرس��ل
تحيته في الهواء... ث��م وقد وصل بي الضجر قصيا،
قررتُ أن أغير عادتي.
جلس��ت على مقعد الحمام، أس��مع ص��وت الماء الذي
أفرغه. قلت لزوجي قبل أسبوعين، إن زليج البيت في
حاجة للتغيير. هناك حشرات تسكن في فراغاته.
- سنغيره في إجازتي القادمة...
ه��ا أنا أعرف برنامج اإلج��ازة القادم. لن يكون عاديا.
ل��ن نذهب إل��ى نفس البحر مع نف��س األصدقاء. لن
يجلس مع الرجال على طاولة مجاورة لطاولة نجلس
عليها نحن زوجاتهم في نفس المقهى، لنتحدث عن
أطفالنا الذين صاروا ش��بابا والذي��ن نفتقد حاجتهم
إلينا.
أغطي شعري بمنديل يناسب باقي مالبسي. وضعت
الحج��اب ألش��به صديقات��ي. أقصد زوج��ات أصدقاء
زوجي. لن أنظف اليوم. لن أقتل. لن أطبخ .
ال أعرف هذا الجزء من المدينة. سائق سيارة األجرة،
يخبرن��ي أن الطق��س جميل وأن الزح��ام أمر عادي.
أريد هذا الزحام، ألنصهر بين الجموع. ال أحب الزحام
عادة، عندما أذهب للتسوق أو ألقص شعري أو ألهنئ
قريب��ة بمولوده��ا الجدي��د. أنا أس��مع الصم��ت جيدا
وأس��تمتع عادة به. ف��ي البيت، أش��عر بخلل مكابس
الكهرباء وأنابيب الماء، والنوافذ واألبواب، وس��اكنيه؛
المزاج المعكر لزوجي، الس��يجارة الثانية البننا األول،
ْ الحِل��مُ القلق ألخي��ه وكل نزالت الب��رد والهرمونات
البنتي.
ف��ي ه��ذا الج��زء م��ن المدين��ة، ذات اله��واء الثقيل،
وذات األرصف��ة المكتئب��ة. أن��زل من س��يارة األجرة
وأل��ج العمارة كأنن��ي أزور س��اكنيها دائم��ا. ال مجال
للت��ردد اآلن وعيون الن��اس المتوثب��ة للحظة هروب
من الضج��ر، تبحث عن فضيحة. ليس الطابق األول.
ليس الطابق الثاني. أقف أمام الباب رقم خمس��ة. أنا
وزوجي وأطفالنا الثالثة، خمسة، أفكر قليال ثم أرمي
الفكرة فتنزل��ق بعيدا على الدرج بينم��ا أطرق الباب
طرقتين. أنا والمتعة، اثنين ال غير.
ق��ال زوج��ي لنش��تري حاس��وبا. األوالد كب��روا
وس��يحتاجونه. كان ق��د ضمن��ي كعادت��ه، وعندم��ا
اس��تعاد أنفاسه، اس��تدار ناحيتي فعلمت أن فكرة ما
قد طرقت بباله. أنا فكرت بالغبار الذي س��ينزل على
شاشته ولوحة مفاتيحه، كيف أمسحه؟
- ربما لسنا في حاجة إليه بعد...
- بلى. ستكون مفاجأة جيدة لهم.
في البداية كنت أمس��ح الغبار برفق عن الحاس��وب.
كل ي��وم كن��ت أه��ز الري��ش حول��ه حتى أتأك��د أنه
نظيف تماما. ثم الحظت آثار األصابع على الشاش��ة،
فمس��حتها بث��وب مبلل. ث��م أكل أحدهم بس��كويتا
وهو جالس أمام الحاسوب، فنفضت لوحة المفاتيح،
قلبته��ا وضربته��ا ضربات خفيفة حت��ى وقعت قطع
البس��كويت صغي��رة عل��ى الطاول��ة. كان زوجي قد
راودت��ه فكرة إدخال خط أنترن��ت منذ بعض الوقت،
عندم��ا أرتني ابنت��ي صور صديقاتها على شاش��ته.
ث��م علمتني طريقة اس��تعماله. زرت دوال كثيرة وأنا
جالس��ة على الكرس��ي في الممر الم��ؤدي إلى غرف
األطفال حيث طاولة الحاسوب. ثم سئمت...
الس��جن هو هذا الفائض من الح��ب: أبي الذي وافق
عل��ى زواجي المبك��ر. أمي التي جعلت عرس��ي أكبر
ع��رس ش��هده الحي. زوج��ي ال��ذي لم يتذم��ر ألنه
سيستيقظ كل صباح ليراني. أطفالي الذين يكبرون
سريعا ليخففوا عني ثقل رعايتهم.
ُ المتع��ة ه��ي الرقص عل��ى الجمر المش��تعل: فتِحَ
الباب على عجل وامتدت يد قوية لتجرني إلى الداخل
ثم أغلقت الباب، وقال صوت خافت:
- أهال بك.
ه��ذا البيت نظيف ج��دا، فكرت. لم تعجبن��ي ألوانه؛
األخض��ر الزيت��ي وأزرق البحر، وهن��ا وهناك بعض
األبيض كأنه غيوم تائهة. استدرتُ إليه...
في المس��اء قالت ابنت��ي إن خطيبها قد وافق على ما
طلبت��ه منه بخصوص أث��اث البيت، ث��م توقفت عن
الكالم وهي تتطلع إلى وجهي:
- كم أنت جميلة بالماكياج يا أمي !
رفع الولدان عينينهما عن طعامهما ونظرا مبتسمين
إلي.
- أنت أجمل األمهات، قال فتاي القلق دائما.
- كنتُ ضجرة، فقلتُ ألجرب...
عندما دخلت إلى الحمام ذاك المس��اء، كان الصرصار
ما يزال س��اكنا ف��ي نفس الركن إلى جانب مغس��لة
القدمين. وقد كنت قد استرجعتُ الرغبة في القتل.