يحاول عبد الله الغذامي ان يصدر معاناته في مجتمعه الى رقعة جغرافية مجاورة ليجد عزاءً مناسبا لمجتمعه المغلق ، ونلمس ذلك بوضوح في تناوله لصدام حسين ، ليقع في وهم تنظيري خطير ومرتبك في آن واحد ، ولنا ان نتمعن ونتفحص قوله في كتابه النقد الثقافي : ( حينما ننظر في معجم صدام حسين نلحظ حالة التطابق مع النموذج الشعري النسقي )( ) ؛ ترى ماذا يريد الغذامي بهذا الكلام ؟ وماعلاقة مجرم أمي مثل صدام بأي نموذج شعري ؟ نسقيا كان ام غير نسقي ؟ ان هذا الافراط في تسطير الكلمات ينم عن عدم ادراك واضح ، وبعيدا عن هذا واقترابا من نموذج الطاغية ، يقول الغذامي : ( فهو لاينتسب للعالم بمقدار ماينتسب اليه ، فهو ليس عراقيا بمقدار مايكون العراق صداميا فالجيش هم جنود صدام ، ومايفعله الجيش هو قادسية صدام ، كما يصف حرب الخليج الاولى مع ايران . كما انه ليس بعثيا بمقدار ماان الحزب صدامي ، وهذه هي القيم التي عززها النسق الشعري حيث جعل مركزية الفحل هي عماد القول ، متعاليا عن الفعل ويجري الصاق الصفات بالممدوح كشرط نسقي لكونه ممدوحا ، مثلما يتنمذج الشاعر بسمات التفرد والتوحد كشرط لكونه فحلا )( ) ؛ فبعد هذا الاقتباس نقف على مايأتي :
1. ان النسق هنا هو نسق السلطة لا النسق الشعري كما يزعم الغذامي ، وبإمكاننا الاستعانة بالغذامي على طرحه ، فنقول : اذا كانت الجند جند صدام والقادسية قادسيته ، فلماذا نضفي عليه النسق الشعري ؟ فالشاعر ـ حتما ـ سيكون صداميا ، ونستيطع القول : ان عبد الرزاق عبد الواحد صدامي ، لكننا لانسطيع القول : ان صداماً (عبد الرزاقي) ، وحسبي ان هذا الخلط والارتباك النسقي نابع من الارتباك النفسي والاجتماعي الذي يعيشه الغذامي ، فكل شيء في السعودية سعودي ، ودولة الغذامي تنسب الى القبيلة المالكة .
2. الجندي العراقي يكون صداميا في نشرات الاخبار لكنه في هويته العسكرية جندي عراقي ، وكذلك حال كل العراقيين فهم عراقيو الجنسية .
3. الشاعر الصدامي ـ مع التحفظ على موقفه ـ هو في هوية الاحوال المدنية عراقي ، ويحمل الجنسية العراقية وجواز سفر عراقي حين يسافر .
4. عبد الرزاق عبد الواحد عراقي الجنسية لا صدامي الجنسية .
5. لصدام شعراء الـ (مع) وشعراء الـ (ضد ) وكلاهما لمع نجمه في موقفه من صدام لكنّ كليهما عراقي .
6. انتهت اسطورة الطاغية ، ولم يكن الجنود جنود علاوي ولا جنود الجعفري ولاجنود المالكي ، فهم جنود العراق ، وكذلك الشعراء لم يكونوا شعراء الرؤساء الثلاثة ؟
7. نأتي الآن إلى الغذامي ، فهو منذ ولادته بلا هوية ، وجد نفسه ينتمي الى قبيلة غير قبيلته فهو غذامي/ سعودي ،وهو كاتب سعودي ، وملكه ملك قبائل نجد والحجاز ، وهو خادم الحرمين الشريفين ، ولو كان بامكانه إعلان المضمر لقيل : مالك الحرمين الشريفين !!. وجنود قبائل الصحراء هم جنود ال سعود ، أي انهم دون الحاجة لنسق الفحولة هم جنود الملك الذي هو الوطن المؤبد على عكس مانعت به الغذامي جند العراق .
8. ان نسق التصدير الذي مارسه الغذامي هو حيلة ثقافية ، لأنه غض حواسه جميعها عن جمال عبد الناصر ، وحروبه ، ودكتاتوريته ، ولعل ذلك كان مغازلة للاعلام المصري الذي له سطوته في تلميع وتسقيط الاسماء ؛ وقد نجد له عذرا قبليا في عدم تناوله طاغية بلده ، لكن حيلته الثقافية اوقعته في فخ التحامل وتصدير خوفه وخذلانه الى دولة مجاورة .
وبعد كل هذا ، نقول : ان الغذامي أسقط ما في بيئته ومجتمعه على دولة غير دولته بدافع نفسي يسوده الخوف والانتصار لقومه ، ولو كان ثقافيا بالمعنى الدقيق لكانت بلاده وحدها تصلح ان تكون مصدرا ممولا لاينضب ففيها من الامراض الثقافية مالم يتوفر في أي بلد اخر ، وليته امتلك شجاعة الدكتور الوردي في طروحاته الجريئة ، وليته امتلك شجاعة ابن النجف الدكتور محمد حسين الاعرجي ، فالاعرجي لم يسمح لعينه ان تغفل عن التقاط صورة ثقافية تشكل نسقا واضحا ، والشواهد كثيرة ، ومنها كشف المضمر في عدم خوض الجواهري في موضوع الغزل ، حيث يقول في كتابه الجواهري دراسة ووثائق:( وإذ بدا لشاعرنا أنّه قادرٌ على قول الشعر لم تكن بيئةٌ مثل بيئة النجف تسمح له أن ينصرف إلى ما ينصرف إليه الشعراء المبتدئون في العادة من حبِّ المرأة، والتغزّل بها. وأين يرى مَن راهق الحلم في أواسط العقد الثاني من القرن العشرين المرأةَ في النجف ؟ وكيف يراها لكي يعشقها أو يتغزّل بها؟
إنّ المرأة النجفيّة لم تكن تتلفّع يومئذٍ بعباءة سوداء مُحكَمة النسج واحدة، وإنّما بعباءتين من صوف خيفة أن تشفّ العباءةُ الواحدة عن تقاطيع جسدها. وإنّها رهينة بيتها لا تكاد تبرحُه إلاّ لضرورة قاهرة، فإن ألجأتها الضرورة إلى مبارحة بيتها، ولمحت في الطريق من بعيد رجلاً بركت كما تبرك الناقة على الأرض خيفة أن يُخمِّن مواضع الفتنة في جسدها، أو أن يعرف طبيعة قوامها.ومن هنا لم يكن الجواهري مبالغاً في شيء حين قال: " حتى السابعة والعشرين من عمري لم يكن للمرأة، ولا لشهوة من الشهوات معها وجودٌ في قصائدي )( ) ؛ ومع كل هذه الموضوعية في التناول نجد الدكتور الاعرجي لا يتوانى في ان يبحث في جذور الازمة الثقافية وعلاقتها بالطاغية ـ في كتابه في الادب وما اليه ـ : (على حين نرى أن الحاكم العربي الآن لا يعرف لا نفسَه ولا حُدوده؛ هذا إذا كان لديه شيء من المعرفة يعرف بها نفسه؛ فهو يعتقد في نفسِه أنّه مِثلُ القرآن الكريم في العصمة {لايأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه }. وتلك هي الطامّة التي ما بعدها طامّة. وهو يعتقد أيضاً أنّه شاعرٌ، وقاصٌّ، وناقد، وفيلسوف. وتلك هي المأساة الكبرى المُضحكة التي لا مأساة بعدها.
فأن يكتب معمَّر القذّافي كتيّبه المعروف بـ " الكتاب الأخضر " ثم يُسميه " النظرية العالمية الثالثة "،ويؤسّس له من أموال الشعب الليبيّ مركز دراسات اسمُه: " مركز دراسات الكتاب الأخضر " فتلك مأساةٌ مُضحكة.
وأن يكتب مجموعة قصصيّة اسمها: " القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء "، فتلك مأساةٌ مُضحكة.
وأن يستوقف صدام حسين التكريتي شاعراً مُرتزِقاً مدّاحاً مثل عبد الرزاق عبد الواحد ليصحّح له ـ بزعمه ـ قافية فتلك مأساةٌ مُضحكة.
وأن يعيب على عالم الاجتماع العراقي البارز الدكتور الوردي نظريّته في ازدواج شخصية الفرد العراقي فتلك مأساةٌ مُضحكة.
وأن يُعلّم الروائيّين كيف يجب أن يكتبوا رواياتهم فتلك مأساةٌ مُضحكة.
أن يحدث كلُّ هذا وأمثاله في كل بلد عربيّ تقريباً فإنّ ذلك لا يعني إلاّ شيئاً واحداً هو قول هذا الحاكم أوذاك: إنّني أنا الحاكمُ، والمفكّر، والأديب، والقاصّ. وإنّني أنا الرقيب الحسيب على كلّ ما يُقال وما يُكتب.
وقد يكون ذلك من حق أيّ دكتاتور تافه أن يقوله. وأقول: دكتاتور تافه وفي ذهني أن هتلر ترفّع عن مثل هذا، وأن موسولييني ترفّع عنه أيضاً، وأنّ نيرون لم يفعله؛ فلم نقرأ لا في تأريخه ولا في تأريخ زميليْه أنّهم ادّعوا كتابة الشعر، أو القصَّة، أو الرواية.
ولقد يكون من حق القذافي أن يظن أنّه قاص، لكن لم يكن من حق نفر من الأدباء المصريّين أن يتحدّثوا في ندوة عامّة ـ نقلها التلفاز الليبي مباشرةً ـ على أنّ مجموعته القصصية من أعظم المجموعات القصصيّة.
لم يكن ذلك من حقّهم ؛ لأنهم قرأوا قصص يحيى حقّي، ونجيب محفوظ، ومحمد عبد الحليم عبد الله وسواهم.
وإذاً، لا يمكن للمثقّف في مثل هذه الأجواء أن ينتج ثقافة يعتزّ هو بها بلهَ أن يعتز بها الناس، فإن قُدِّر له أن ينتج مثل هذه الثقافة كان عليه أن يُعيد صياغة الجملة الواحدة عشرين مرَّة خيفة أن يقع فيما لاتُحمد عاقبتُه.
ويزيد من مأساة المثقف ومن قيوده أنّه لا يواجَه برقابة السلطة السياسية، وقمعها فحسب، وإنّما يُواجَه أيضاً بالسلطة الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية.)( )
وإذن ، فقد ذهب الاعرجي الى الجذور الحقيقية للازمة الثقافية ولم يتخذ طاغية واحدا نموذجا لتطبيقاته ؛ بل نراه لم يتخذ مجالا واحدا لتشخيص علاقة الثقافة بالطاغية ، ومن ذلك قوله (ولليبيا حديثٌ آخر فالتعليم الجامعي فيها لا يختلف كثيراً عن التعليم الابتدائي، ونادراً ما يلفت نظرك فيه طالبٌ تعقد عليه أملاً.
ويقوم هذا التعليم على الغش في الامتحانات، وعلى التلقين.
بل إنّ الطلبة وعمداء الكلّيات، ورؤساء الأقسام يطالبون بهذا التلقين لكي يُسهّلوا للطلبة عملية الغش في نهاية السنة.
وأعني بالتلقين أن يُمسِك الأستاذ بكتابٍ في المادة التي يُلقيها فيقرأ منه بتؤدة ورويّة والطلاب يكتبون. وهذا كلّ ما في الأمر. وما على الطالب في نهاية السنة إلاّ أن يُعيد ما لُقِّن بالطريقة التي يختارها: أن يحفظ حفظاً أصمَّ لا يفهم منه شيئاً، أو أن يغش.
وغالباً ما يُفضّل الطالب الطريقة الثانية؛ لأنّ الأستاذ إذا أمسك طالباً ليبيّاً متلبّساً بالغش لا يعدو أن يكون أحد اثنين:
إمّا ليبيّاً يعرف خال الطالب، وأباه، وأمّه، وجدّه ـ والمجتمع الليبي مجتمعٌ قبلي ـ فيُعرض عن معاقبته.
وإمّا أن يكون عربياً من العراق، أو من سوريا، أو الجزائر، أو من مصر فعليه حينئذٍ حين يضبط الطالب غاشّاً أن يتذكّر شروط شهادة الزنا في الإسلام التعجيزية.
وإذا، الطالب ناجح في الحالين.)( )
بعد كل هذا نتساءل لماذا لم يغرف الغذامي من بئر بيئته انساقا لاتحتاج الى عناء لاكتشافها ، فخادم الحرمين الشريفين يكاد ان يكون ثاثهما في السعودية وهو يستورد الشقراوات الى قصره بينما يقيم الحد ويمنع المرأة حتى من قيادة السيارة ، وهل هناك نسق فحولي اكثر وضوحا مما يحدث في السعودية ؟ ان الفرق بين الاعرجي والغذامي هو ان الاول يملك الشجاعة النقدية والدراية الثقافية بينما يعتمد الثاني على مضمر النقص في داخله ليبحث عن بيئة اخرى يطبق عليها فرضياته التي لم ينكر انه وصل اليها بعد قراءته لعلي الوردي .
المصادر/ النقد الثقافي : 193
انظر : الجواهري دراسة ووثائق
في الادب وما اليه ـ محمد حسين الاعرجي
.................
د. حسين القاصد