بقلم: الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري

مكة كانت محطة وليست هدفا

حين غادر الإمام الحسين مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مدينة مكة لم يكن مطلقاً يفكر في اتخاذها مستقراً لإقامته، انما أراد أن يتخذها محطة يتوقف فيها مدة من الزمن، ثم يواصل بعدها المسير إلى العراق، وحين وصل الإمام الحسين إلى مدينة مكة وأقام إلى جوار بيت الله الحرام، زاره كثير من الصحابة والتابعين وطلبوا منه الإقامة في هذه المدينة.


لو بقي الإمام الحسين عليه السلام لاغتاله الأمويون في مكة

وفي خلال إقامته في مدينة مكة لم تنقطع عنه وفود أهل الكوفة وهي تدعوه إلى القدوم إلى العراق، ولم يكن الإمام راغباً في البقاء في مدينة مكة، لأنه يعرف نوايا الأمويين وخططهم لقتله وقد أعدوا العدة لذلك، وجعلوا توقيتها في موسم الحج.

وقد فوت الإمام هذه الفرصة عليهم بخروجه قبل وقت التنفيذ في الثامن من ذي الحجة سنة (60هـ) بالرغم من معارضة عدد كبير من الصحابة والتابعين وبني هاشم لهذا الخروج، ويبدو أن الإمام قد حسم أمره واتخذ قراره بالرحيل إلى العراق حيث المكان الموعود.


الإمام الحسين عليه السلام يخرج من مكة حفاظا على حرمتها

فخرج لأنه لا يريد أن يكون سبباً في انتهاك حرمة هذه المدينة وبيت الله الحرام، ولهذا أجاب عبد الله بن الزبير حين قال له: لو أقمت في الحجاز ثم طلبت هذا الأمر لما خالفت عليك «إن أبي حدثني أن لها كبشاً به تستحل حرمتها وما أُحب أن أكون أنا ذلك الكبش» (الكامل في التاريخ 4 / 381).

ويبدو مما تقدم أن الإمام كان يعرف أن الأمويين سوف يطلبونه ولن يتركوه حياً على كل حال وفي اي مكان، وقد أكد ذلك في قوله لابن عباس: «والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم» (الإمام الحسين شمس لن تغيب / 39).


لم يكن أهل مكة ممن يتولى أهل البيت عليهم السلام

وفضلاً عما تقدم من الأسباب التي دعت الإمام إلى الخروج من مكة، فهو يعرف أن بيئة مكة غير ملائمة لاتخاذها مكاناً لثورته ضد الحكم الأموي لأن أكثر الموجودين فيها لم يكن هواهم مع الإمام الحسين وفيهم من يميل إلى الأمويين، وقد أثبتت الأيام فيما بعد دقة نظر الإمام الحسـين في هذا الأمر، فقد أعلن عبد الله بن الزبير ثورته ضد الأمويين منها وانتهت نهايتها المعروفة، وانتهكت حرمة بيت الله. وفي ضوء ما تقدم لم تكن مدينة مكة ملائمة لثورة الإمام الحسين ولكنه أرادها أن تكون المنطلق الأول لإعلان ثورته على حكم يزيد بن معاوية الذي خرج على تعاليم الدين الإسلامي وأقام حكماً ظالماً لا يقوم على مبادئ الإسلام وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).


ماذا نستوحي من خروجه عليه السلام في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة

لقد خرج الإمام من مدينة مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة واختيار هذا اليوم له دلالتان:

1 . اختار هذا اليوم ليتفادى ما يدبره الامويون من محاولة لاغتياله، وقد انتدبوا لذلك عمرو بن سعيد الأشدق، الذي فاجأه خروج الإمام الحسين وأفشل خطته، ولم تفلح كل محاولاته في منع الإمام الحسين من الخروج.

2 . إن هذا اليوم هو اليوم الذي يفيض فيه حجاج بيت الله الحرام إلى عرفات وفي هذا اليوم يعلن الإمام سخطه وثورته على حكم يزيد، وهذا الخروج يمثل رسالة ثائرة إلى كل بقاع البلاد الإسلامية في العالم وبذلك استطاع أن يوصل إعلان ثورته إلى كل بقاع الدنيا.


انطلاقه عليه السلام إلى الكوفة

وينطلق ركب الإمام الحسين من مكة باتجاه العراق مصبحاً ومعه أهل بيته وأنصاره في اليوم الثامن من ذي الحجة قاصداً مدينة الكوفة التي وعد أهلها بالقدوم إلى بلدهم وقد سبقه إليها ابن عمه مسلم بن عقيل الذي أخبره بإجماع الناس في الكوفة على بيعته والدفاع عنه.


انقلاب الكوفة على مسلم بن عقيل عليه السلام

ويبدو أن الأمور في الكوفة لم تستمر كما وجدها مسلم بن عقيل وأخبر الحسين بتفاصيلها، ذلك أن الأمور سرعان ما تغيرت فيها، فقد كتب بعض أهلها إلى يزيد يخبرونه أن واليها النعمان بن بشير الأنصاري ضعيف ولا قدرة لديه في مواجهة ما يجري ويطالبون بعزله، كما أخبروه باجتماع الناس حول مسلم بن عقيل رسول الإمام الحسين إلى أهل الكوفة، ونقلوا إليه خبر قدوم الإمام الحسين إلى العراق، وطلبوا منه إرسال والٍ قوي بدلاً من النعمان بن بشير، ويستجيب يزيد لهذا الطلب ويقع اختياره على عبيد الله بن زياد ليكون والياً على الكوفة بدلاً من النعمان بن بشير، ويدخل عبيد الله بن زياد الكوفة متنكراً ويدخل مسجدها ويلقي فيه خطبته المشهورة بالبتراء التي توعد فيها وهدد كل من يخالف أمره، واستعمل مع أهلها أساليب مختلفة لتغيير أفكارهم وصرفهم عن بيعة الإمام الحسين بالتهديد حيناً وبالترغيب والخداع حيناً آخر، وتنجح خطته في صرف الناس عن بيعة الحسين، وسرت بينهم الشائعات التي تضعف العزائم وتغير الأفكار، وصار لسان حالهم يقول: ما لنا والدخول بين السلاطين، ويبدأ الناس بالانصراف عن بيعة الإمام الحسين، ويجد مسلم بن عقيل نفسه وحيداً ومطلوباً وقد تفرق عنه الأتباع، ويدخل دار هاني بن عروة وهو من أنصار أهل البيت في الكوفة، وتتسارع الأحداث في هذه المدينة حتى تنتهي بمعركة غير متكافئة تنتهي بمقتل مسلم بن عقيل وقبله هاني بن عروة وهماً من أوائل الشهداء في طريق الثورة الحسينية، وهكذا تغير حال الناس في مدينة الكوفة، وبدأ عبيد الله بن زياد بعد مقتل مسلم بإعداد العدة لقتال الإمام الحسين الذي دخل أرض العراق مع أهل بيته وأنصاره، ويلقي القبض على قيس بن مسهر الصيداوي رسول الإمام الحسين إلى أهل الكوفة ويضرب عنقه، وهكذا حدثت في هذه المدينة ردة غيرت أفكار أهلها خوفاً وطمعاً، وكان هذا أول تحد يواجه الإمام الحسين في مسيره إلى العراق ويواجه ثورته ضد الظلم والانحراف.


موقف الإمام الحسين عليه السلام من هذا الانقلاب

ويدخل الإمام أرض العراق وهو لا يعلم بما جرى في الكوفة حتى لقي هلال بن نافع وعمرو بن خالد فأخبراه بمقتل مسلم وهاني وانقلاب الناس في هذه المدينة، وقد أجابا حين سألهما عن حال الناس بقولهما: «أما الأغنياء فقلوبهم مع ابن زياد، وأما باقي الناس فقلوبهم إليك» . وقيل: إنهما قالا: «قلوبهم معك وسيوفهم عليك».

وحين بلغ الإمام الحسين مصرع مسلم بن عقيل وهاني بن عروة بكاهما وقال: رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وجنته ورضوانه، ثم نعاهما إلى بيته وأنصاره.

ويقف الإمام الحسين (عليه السلام) متفكراً في هذه التحولات السريعة، وفي انقلاب نوايا الناس، وكيف يواجه هذه التحديات الخطيرة التي تواجه مسيرته، ثم يتخذ قراره الحاسم بأن ما حدث من تحول خطير في الكوفة واختلاف نوايا الناس فيها ومقتل رسوليه إليهم ومعهما هاني بن عروة لا يمكن أن يثنيه عن مواصلة مسيرته وإكمال ما بدأ به، لأنه يسير إلى مصير وعده الله به ورسوله، ولا بد أن يلاقي هذا المصير الموعود، ويأمر الإمام أهل بيته وأصحابه بمواصلة المسير إلى أرض العراق من أجل أداء رسالته التي خرج من أجلها واستكمال فصولها.