«وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا» [الآيتان 13 و 14- الإسراء]
أحد عوالم القيامة عالم تطاير الكتب، وقد شاهدتم بطبيعة الحال الوصايا المدوّنة وقد كُتب فيها: أشهد أنّ الموت حقّ، وأنّ القبر حقّ، وسؤال منكر ونكير حقّ، والحشر حقّ، والصراط والميزان حقّ، وتطاير الكتب حقّ... إلي آخر هذه الشهادات.
وَقِيلَ: طَائِرُهُ يُمْنُهُ وَشَؤْمُهُ؛ وَهُوَ مَا يُتَطَيَّرُ بِهِ؛ وَقِيلَ: طَائِرُهُ حَظُّهُ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ وَخُصَّ العُنُقُ لاِ نَّهُ مَحَلُّ الطَّوْقِ الَّذِي يُزَيِّنُ المُحْسِنَ وَالغُلِّ الَّذِي يَشِينُ المُسِيءَ؛ وَقِيلَ: طَائِرُهُ كِتَابُهُ؛ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: جَعَلْنَا لِكُلِّ إِنسَانٍ دَلِيلاً مِنْ نَفْسِهِ. [1]
كيفيّة إراءة الاعمال في يوم القيامة
هَـ'ذَا كِتَـ'بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ.
فأيّ حقٍّ أعلي ـ يا تري ـ وأبعد من نفس عمل الإنسان الذي يوفّي له؟ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
لقد كان دأبنا في الدنيا أن نسجّل ونستنسخ ما تعملونه، كي لايمكنكم إنكار نقطة واحدة منه، وليس عملنا أضعف أداءً من عملكم في الدنيا، فأنتم تستنسخون الاسناد والوثائق لئلاّ يُنكر منكر أو يجحد جاحد، فإن أنكر أحد قيل له إنّ النسخة الاصليّة هنا، والصورة والهيئة والشمائل والحديث كلّه مسجّل لدينا.
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ كلّ ما تفعلون، فما الذي يعنيه الاستنساخ؟ وكيف تُعرض النسخة هناك؟
إنّه يعني أنّ جميع الموجودات في كلّ زمان ومكان موجودة بجميع خصائصها في كتاب التكوين الذي يسير وينقضي، فكتاب التكوين هو الإمام المبين، ونحن نستنسخ منه ما يخصّكم ويتعلّق بكم فنواجهكم يوم الجزاء بتلك النسخة.
علي أنّ جميع كتاب التكوين لا يهمّكم بطبيعة الحال، فنحن إنّما سنطلعكم يوم القيامة علي ما يتعلّق بكم فقط، أمّا الاختلاف الواقع بين الرجل الفلانيّ والمرأة الفلانيّة في القرن الفلانيّ والسنة الفلانيّة والشهر وإليوم والساعة واللحظة الفلانيّة في النقطة الكذائيّة من الدنيا، فهو أمر لايخصّكم بشيء، ونحن نستنسخ منه نسخة لهما. أمّا بالنسبة إليك فنحن نستنسخ لك ما يتعلّق بك ويخصّك.
فما هي نسختك؟ هي عملك، وهي وجودك في كتاب التكوين منذ ولادتك إلي لحظة موتك. ذلك الوجود الذي سلّطناك عليه بعد البقاء الذي منحناك إيّاه بعد مرحلة فنائك. ومعني الاستنساخ أن نضع هذا القدر من كتابك تحت سلطتك واختيارك. وهذا القدر الذي عرضناه لك من نسخة ذلك الكتاب ( كتاب التكوين ) يمثّل تجلّي تلك الاعمال في صورة ملكوتيّة متناسبة مع ذلك العالم.
ورد في « الكافي » عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث اللوح المحفوظ:
وَهُوَ الكِتَابُ المَكْنُونُ الَّذِي مِنْهُ النُّسَخُ كُلُّهَا؛ أَوَ لَسْتُمْ عُرُباً؟ فَكَيْفَ لاَتَعْلَمُونَ مَعْنَي الكَلاَمِ وَأَحَدُكُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: انْسَخَ ذَلِكَ الكِتَابَ؟ أَوَ لَيْسَ إِنَّمَا يَنْسَخُ مِنْ كِتَابٍ آَخَرَ مِنَ الاَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». [2]
أنّ الشيء إذا ارتدي رداء الوجود فإنّ من المحال أن يعرض عليه العدم والفناء، إذ إنّه سيصبح أُمّ الكتاب، ومن أُمّ الكتاب واللوح المحفوظ تُستنسخ النسخة المتعلّقة بنا، فنُمنح يوم القيامة سيطرةً علي تلك النسخة ويُقال: هاك نسختك فانظرها!
يقول الإمام إنّ الإنسان يري جميع أعماله وكأ نّه عملها تلك الساعة، فهو يري في القيامة في صورة ملكوتيّة ما عمله في الدنيا في صورة مُلكيّة وظاهريّة، فيجد كأ نّه قد عمل ذلك العمل في تلك الساعة، لا كمثل من يتفرّج علي العمل بينما يجلس إلي جانب؛ فهو يري العمل كَأَ نَّهُ عَمَلُهُ تِلْكَ السَّاعَةَ أَو كَأَ نَّهُ عَمِلَهُ تِلْكَ السَّاعَةَ.
والكتاب المبين والإمام المبين هو اللوح المحفوظ، وهو أُمّ الكتاب الذي يمثّل عالم الوجود الذي لا يخفي عنه شيء، منتهي الامر أنّ هذا اللوح المستنسخ عن عالم الوجود هو اللوح المحفوظ، وأنّ حقيقة ذلك العالم هو أُمّ الكتاب؛ فهما نسختان: نسخة اللوح المحفوظ والنسخة الاصليّة أُمّ الكتاب.
إنّ بإمكاننا الآن أن نهدم أحد أساطين المسجد فيكون مهدّماً فيما بعد إلاّ أنّ هذه الاُسطوانة الموجودة في هذه اللحظة لا يمكن أن تكون معدومة، فوجود هذه الاُسطوانة وعدمها في نفس اللحظة أمر غيرممكن. والامر كذلك بالنسبة إلي أُمّ الكتاب وعالم التكوين، حيث إنّ كلّ موجود يرتدي رداء الوجود والتحقّق فإنّه لن يرتدي لباس العدم، فهم يستنسخون علي نسخة التحقّق والوجود هذه فيدعونها اللوح المحفوظ والكتاب المبين؛ وهذه النسخة هي إحصاء الله سبحانه.
فهناك ـ إذاً ـ لوح خاصّ لكلّ واحد من أفراد البشر يمثّل صحيفة عمل الخاصّة به. وقول الله تعإلي: هَـ'ذَا كِتَـ'بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ يُشير إلي تلك الالواح الخاصّة بكلّ فرد، والتي يشكّل مجموعها اللوح المحفوظ،
هيئة وجوه أئمّة أهل النار ومأموميهم
يسير الإمام الجائر في المقدّمة فيتبعه قومه، وبواسطته يصل إلي أتباعه كتابُهم، فماذا يعني قولنا بأ نّهم يُعطون كتابهم من وراء ظهورهم؟ وأيّ جهة هي « وراء ظهورهم »؟
جاء في سورة النساء:
« يَـا´أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـ'بَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا علي'´ أَدْبَارِهَا». [نساء-47]
والمطموس يعني الممحي والمندرس؛ أي أ نّنا سنمسح وجوه أصحاب النار، الائمّة منهم والاتباع، بحيث تختلط أعينهم وأُنوفهم وشفاههم وتمحّي، فتستحيل وجوههم صفحات ممحيّة مندرسة، ثمّ نقلب وجوههم إلي أقفيتهم، فتمسي أبدانهم إلي الامام ووجوههم إلي الخلف. ولانّ الائمّة من أصحاب جهنّم، فإنّ أتباعهم سيتوجّهون نحو أئمّتهم بوجوه مقلوبة إلي القفا، ومن ثمّ فإنّ كتابهم الذي يُعطي لهم من قبل أئمّتهم، سيُعطي لهم من ورائهم. ومن الجليّ أ نّه لو شاء أحد أن يعطي كتاباً لشخص ذي وجه مقلوب إلي قفاه، فإنّه سيُعطيه إيّاه من وراء ظهره.
إنّ عالم الحقائق والانوار متّجه إلي الإمام نحو عالم التجرّد والإطلاق، ونحو عالم النعمة والرحمة، وعالم القُرب والمنزلة، والعوالم اللا متناهية وغيرالمقيّدة.
أمّا عالم الشهوة والغضب والوهم الذي هو من لوازم عالم المادّة والطبع أظلم العوالم، فيقع ـ بطبيعة الحالـ في المؤخّرة باعتبار كثافته وثقله. فأهل الدنيا مشغوفون بها، فيتحرّكون إلي الامام في مسيرهم إلاّ أنّ قلوبهم متّجهة نحو المادّة وآثارها، فتكـون النتيجة انقلاب وجـوههم إلي الخلف.
يخلد أهل الدنيا إليها، ويتعاملون مع الاموال تعاملاً مجازيّاً، ويولعون باللهو واللعب، إلاّ أنّ السير باتّجاه الله والموت وعوالم التجرّد التي تعقب هذا العالم، هو سير حتميّ وليس اختياريّاً، فانقضاء الزمن ومجيء الاجل يحرّك المرء كلّ لحظة نحو الله سبحانه، شاء المرء أم أبي، بَيدَ أنّ باطنه سيبقي ملتفتاً إلي الدنيا. تتحرّك النفس باتّجاه الله سبحانه، أمّا وجه الإنسان فمتوجّه نحو الدنيا. وحين يحين يوم الجزاء يوم تُبلي السرائر، فتتجلّي حقيقة الحوادث الواقعة في هذا العالم، فإنّ هذه الصورة تمثّل ظهور الإمام والمأموم المشغوفينِ بالدنيا والمغمورينِ في الغفلة. ومع أنّ المسير تجاه الله تعالي، إلاّ أنّ الباطن متوجّه نحو الارض: وَلَـ'كِنَّهُ و´ أَخَلَدَ إلي الاْرْضِ، متوجّه إلي الارض وشهواتها.
فالتوجّه القلبيّ والحقيقيّ هو إلي الارض، أمّا السير الجبريّ الحتميّ فإلي الله تعالي. وهو سير اضطراريّ عامّ لجميع الافراد. فالوجهة اللا ختياريّة للإنسان تريد الاتّجاه إلي الله واللحوق بالمؤمنين والسير قُدماً إلي عالم النور والوصول إلي الجنّة بالرغم من أنّ الالتفات إلي الدنيا، وأمثال هؤلاء يُعطَون كتابهم من وراء ظهورهم.
وبما تقدّم يتبيّن أنّ المكذّبين والضالّين يلحقون بأئمّتهم ويذهبون معهم إلي جهنّم، ويُعطَوْن كتابهم من جانب الشمال، جانب الشقاء، فيدركون بوضوح وبالوجدان ذلّ ونكبة أعمالهم وفقدان بصيرتهم.
المصادر:
1- «مجمع البيان» ج 3 ص 404، طبعة صيدا.
2- «المعاد» للعلاّمة الطباطبائيّ، (الإنسان بعد الدنيا)، ص 35.