الكتابة عن وزير الخارجية لها طعم خاص في حياة الاستاذ ناصر الدين النشاشيبي حيث كان يقول عن نوري سعيد باشا إذ يعجبه فيه وفاؤه الشامل، اخلص الولاء لفيصل فكان صادقا في مصافته وللعراق اخلاصه كان يثق بنفسه الى حد الاستهتار بالغير لان النقاش يستنفد منه طاقة بشرية هو حريص على ان لا يستنفدها مهما بلغت قيمة موضوع المناقشة ولذلك فقد كان نوري السعيد يوافق على معظم اراء غيره دون ان يناقشه وعندما يحس ان غيره يحاول استغلال موافقته على تلك الاراء يهرع الى الكتابة اليه او استدعائه او السعي ورائه من اجل توضيح الامور دون جدال او نقاش لقد كان وزير الخارجية يركب في بغداد ثلاث سيارات مختلفة كلها سوداء وتحمل نمروة واحدة هي (20 بغداد) واحيانا يترك سياراته الثلاث ويركب سيارة جيب او سيارة اجرة او سيارة احد اصدقائه كشاكر الوادي او ضياء جعفر او خليل كنة.
فقد زار بغداد احسان الجابري على راس وفد برلماني سوري في العام 1955 واجتمع الوفد بنوري السعيد وتطرق البحث الى موضوع حلف بغداد وراح النواب السوريون يغمزون بشأن انضمام العراق الى الحلف واحس نوري السعيد انه على وشك الدخول مع هؤلاء النواب في مناقشة كلامية هو في غنى عن الدخول فيها وهكذا فوجئ الحاضرون بنوري السعيد يقول للسيد الجابري ورفاقه انه على استعداد لتجميد حلف بغداد وساد الصمت بين الحاضرين واستحكمت الدهشة بكل من سمع تلك الرواية من فم نوري السعيد او على لسانه وفي اليوم التالي غادر الوفد السوري بغداد وفي قلوب اعضائه مساحات من الامل عن امكانية انسحاب العراق من حلف بغداد ولكن لم يكد الوفد يصل الى دمشق ولم يكد رئيسه الجابري يغادر دمشق الى مدينة حلب لزيارة اهله فيها حتى فوجىء بكتاب مستعجل من نوري السعيد رئيس وزارء العراق يشير فيه الى مباحثاته السابقة مع اعضاء الوفد خلال وجودهم في بغداد ويرجو ان يؤكد لهم (ان العراق عازم على البقاء في حلف بغداد مهما كانت الظروف التي قد تدعو الى تجميده)..! وسالني احسان الجابري لماذا كذب علينا نوري السعيد؟
ولم اجبه ولم اقل له انها طبيعة نوري السعيد في ان يوفر على نفسه مشقة الدخول في مناقشات حول موضوع يعتقد هو انه لايقبل المناقشة بل لم اقل للسيد الجابري ان الذي سمعه من نوري السعيد عن حلف بغداد في تلك الايام قد سمعته منه اكثر من مرة في بغداد والقاهرة عندما كنت اطلب منه ان يسمح لي بالنشر وانا في بغداد كان يقدم لي الف عذر وعذر وعندما قررت في ذات يوم ان ابعث الى صحيفة (اخبار اليوم) ببرقية تحمل معنى استعداد العراق للانسحاب من حلف بغداد وعرف نوري السعيد بذلك ارسل لي خليل ابراهيم مدير الاذاعة لكي يقول لي انه اطلع بواسطة مكتب رقابة البرقيات على برقيتي الى صحيفة اخبار اليوم وانه سمح بارسالها ولكن لو ان اخبار اليوم نشرت نص هذه البرقية فان نوري السعيد سيبرق الى نجيب الراوي سفير العراق في القاهرة لكي يكذبها وبالفعل فقد وصلت البرقية الى اخبار اليوم ووقعت في يد الزميل محمد حسنين هيكل فاحتفظ بها ولم ينشرها وعندما سالته بالتلفون من بغداد عن مصير البرقية ولماذا لم تنشر كان الجواب واحدا لاننا سالنا السفير العراقي بالقاهرة فقال ان رئيس وزرائه يكذب.
عبدالكريم الوائلي
منقول