عرس هنادي
قصة قصيرة، بقلم: حسين علي محمد
ضحك الكهل سائق السيارة "البيجو"، وهو يخبرني أن هنادي تزوجت، وأن عليه أن يسرع حتى يلحق وليمة عقد القران.
كنا بعد صلاة الظهر بقليل، وكنت في طريقي عائدا من المطار إلى القرية في رحلة سريعة من السعودية حيث أعمل محاسبا في شركة كبيرة للمقاولات بالرياض. أصرّ الكفيل أن أعود في خمسة عشر يوما.
قال الكهل:
ـ أهذه أول زيارة لك بعد العمل في الرياض؟
ـ لم أسافر إلا من خمسة أشهر فقط!
ساد الصمت بيننا، فقطعه بصوت مباغت:
ـ هل تعرف هنادي؟
ـ ومن لا يعرفها؟!
ـ إنها تعمل محاسبة في الإدارة البيطرية!
ـ أعرف.
ـ مسكينة! ماتت أمها، ومات أبوها، وكانت مقطوعةً من شجرة رغم أنها ذات عشرة أخوة يسدون عين الشمس، منهم وكيل النيابة، والمهندس، ومحصل الأتوبيس، وسارق كيزان الذرة ليشتري علبة سجائر من دكان الحاج "محمود المنيسي"!
كنا في الصف الثالث الثانوي، وكانت مصر تخوض حرب 1967 حينما دخلت عليّ صارخة:
ـ أخي شوقي يريد أن يزوجني من "عبد الفتاح بك"؟
نظرت بفجيعة لها!
كان أخوها الذي حصل على ليسانس الحقوق قبل عام، وأجبره أبوه على أن يطلّق الأرملة التي تزوجها في القاهرة ـ والتي قيل إن عمرها في عمر المرحومة والدته، وإن لها أولادها بشوارب يقف عليها الصقور ـ قيل إن هذا الأخ المحروس، يريد أن يزوجها لتاجر الأقطان، وعضو مجلس الشعب الأرمل ذي الستين عاما حتى يسعى لتعيينه وكيلا للنيابة!
كانت زوجة أبيها البيضاء، الجميلة، ذات الشعر الأصفر الطويل تدّعي عليها أقاويل كثيرة: فقد جعلتها في حكاياتها تُضبط مع محمود المخزنجي في القصب، وتسرق "جَمْعة البامية" وتبيعها لتهديها للولد محسن السرسي ـ زميلها القديم في مدرسة التجارة والذي رسب ثلاثة أعوام في الدبلوم ـ وادّعت الجميلة، البيضاء، ذات الشعر الأصفر ـ أن هنادي سرقت ملابس المحروسة لتعطيها لخالتها "فاطمة" التي تربي أولادها اليتامى من الخدمة في البيوت، والسحت، والتعديد على الميتين، وسرقة الحقول التي تنام نواطيرها!
كنا هناك عند السنطة العجوز نلعب، وكنت أصنع أفراسا من الطين، بينما كانت "هنادي" تعمل عروسا لها ضفيرتان طويلتان وكراسة صغيرة وقلما رفيعا من البوص تجتهد أن تلصقه فوق كتلة الطين.
كنت أعمل للفرس عُرفا، وكانت تصنع للعروس نهدين صغيرين ينزل منهما اللبن شهيا كما لم أذقه من قبل من "بز" جاموستنا العفية!
سكت الكهل متعبا، وجدني أُغمضُ عينيَّ، وأنام، وصوت "أم كلثوم" الأثير من إذاعة القاهرة يُردد أغنية "سيرة الحب" التي أحتفظ لها ـ مع وطفاء، أين هي الآن؟ ـ بأجمل الذكريات!
كنت ألعب مع هنادي، جارتنا، بعد الخروج من الدرس عصرا، ولا أذهب للبيت للنوم إلا بعد أن تنام.
كانت قطة بيضاء صغيرة، وأنا كنت أحب القطط والكلاب الصغيرة، وأجعلها تنام في أحضاني!
في الصباحية ذهبت إلى "هنادي"، لأعطيها النقطة عشرة جنيهات، قالت لي ـ وبقايا لون أحمر رخيص على شفتيها الباهتتين ـ:
ـ أما زلت تذكر أفراس الطين؟
كنت الأول دائما، وكانت بين بين!
جاءتني مذعورة حينما علمت أن "وطفاء" ـ ابنة ضابط النقطة الذي يعمل الجميع له حسابا ـ تهتم بي في الدرس، وتريد إغوائي، وأهدتني منديلا أحمر، وأنا خارج من المسجد بعد صلاة التراويح!
قلت لهنادي (من وراء قلبي، فأنا لا أحب أن تزعل): أخاف من بنات الضباط، فأنا فلاح أهوى القطط البيضاء، والكلاب السوداء الصغيرة، وأحضان أمي! وأخاف من المرور على نقطة الشرطة التي تمتلئ بالعفاريت!
بكت "هنادي"، فقد ماتت أمها صغيرة، وزوجة أبيها ذات الشعر الأصفر الطويل الذي يغطي فخذيها ليس في أحضانها مكان متسع لهنادي، فهي تنجب كل تسعة شهور ثلاثة أولاد!
قلت، وأنا أتطلع إلى ذلك الزمن الجميل البعيد:
ـ أمي مريضة يا هنادي، وقد جئت من السعودية لأراها، والحمد لله أن حصلتها …
ـ وكيف حالها الآن؟
ـ متأخرة .. لم تعرفني .. ربنا يسهل عليها!
قالت لي: إن عرائسها ـ من الطين والحلوى ـ في الشباك تنتظر أفراسي لتُزفَّ عليها!
صمتُّ، فقد كنت ذا حلم كبير؛ أن أحصل على الدكتوراه في المحاسبة! وأن أتزوّج "وطفاء" بنت المأمور، وأن أسكن المدينة، وأترك الريف الذي يمتلئ بالذباب والبعوض والحفاء!.
قالت لي: إنها ستشوه وجهها بالنار إذا اقترب منها أحد غيري، وستشوِّه وجه "وطفاء" إذا اقتربتُ منها، لكنها لم تجرؤ على تهديدي بسكين أو خلافه، ولم تصرخ في وجهي!.
كانت تهدِّد كأنها تحلم!
كنت بدأت أترك الشعر والأحلام، وأبحر في قارب الأرقام، فتخليت عن الوردة البيضاء ذات دبلوم التجارة، وحلمت بفاتنات ـ منهن "وطفاء" ـ يسكن في قصور المدينة الكبيرة، ويركبن السيارات التي لم تدخل قريتنا أبدا، وجوههن بيضاء مربربة، وخدودهن حمراء كورود حديقة صديقي منصور، أو كبيض شم النسيم، وصدورهن صغيرة كحبات البرتقال اليوسفي، ليست كصدور بعضهن المنتفخة العارية على أغلفة المجلات الخليعة!
سمعت ذات مساء زغاريد خطبة "هنادي" إلى "عبد الفتاح بك"، عضو مجلس الشعب، وقابلتهما في ميدان "رمسيس" بالقاهرة يتجاذبان الحديث الضاحك، في ود حقيقي!
وذات صباح، لا أدري لونه، مات عضو مجلس الشعب (عبد الفتاح بك) بعد أن صار أخو هنادي وكيلا للنيابة، وارتدت "هنادي" السواد، وأضربت عن الزواج!
لمحت دموعا سوداء تلمع في عينيها، لكنها أدارت وجهها لتمسحها، وغيرت مجرى الحديث:
ـ وهل ستعود ثانيةً إلى السعودية؟
ـ العمل يحتاجني.
شهقت:
ـ وأحضان أمك؟
لم أجب، فقالت بود ووجهها يمتلئ بمساحات للفرح:
ـ أما زلت تذكر الأفراس الطينية، وأشجار السنط، والاستحمام في الترعة، وقططك وكلابك الصغيرة؟!
كانت آخر أضواء الصباح تنسحب من الغرفة، وكنت أمسح دمعة كبيرة من العين:
ـ ذلك كان زمان اللعب، والدروس، والسنطة العجوز … يا هنادي! .. ذهب وأخلى مكانه للحزن والبعاد!
توقف الكلام بيننا، فقد سمعت اللغط في بيتنا المجاور، وصراخ شقيقاتي اللائي جئن من القاهرة يبكين أمي التي لن أراها مرة ثانية!