بحث بعنوان
مراحل نزول القرآن الكريم // تقدمه مؤسسة دارالإسلام الخيرية
لا شك أن القرآن نزل تدريجاً ، وأن آياته تتابعت طبق المناسبات والظروف التي كانت تمر بها الرسالة الألهية في مسيرتها تحت قيادة الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد لمحت إلى هذا النزول التدريجي للقرآن الآية الكريمة : (( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ))[الإسراء:106] ، وقوله تعالى : (( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ...))[الفرقان:32] .
ومع ذلك فان هناك نصوصاً قرآنية تشير إلى دفعية النزول القرآني ، على ما يفهم من ظاهرها ، وذلك كما في الآيات المباركة التالية :
قال تعالى : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ))[البقرة:185] ، وقال تعالى : (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ))[الدخان:3] ، وقال تعالى: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر ))[القدر:1] .
وقد اختلف الباحثون في وجه الجمع بين الأمرين ، وقد ذكروا في ذلك آراء ونظريات ، نذكر فيما يلي أهمها :
النظرية الأولى : وهي التي تعتبر للقرآن نزولين .
النزول الأول إلى البيت المعمور ، أو بيت العزة ـ حسب بعض التعابير ـ وهذا هو النزول الدفعي الذي أشارت إليه بعض الآيات السابقة.
والنزول الثاني على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالتدريج ، وطيلة المدة التي كان يمارس فيها مهمته القيادية في المجتمع الإسلامي .
وقد خالف المحققون من علماء القرآن هذا الرأي ، ورفضوا النصوص التي وردت فيها ، ورموها بالضعف والوهن ، وأقاموا شواهد على بطلانه .
وأهم ما يرد على هذه النظرية يتلخص في شيئين :
1 ـ ورود الآيات القرآنية في بعض المناسبات الخاصة ، بحيث لا يعقل التكلم بتلك الآية قبل تلك المناسبة المعينة .
2 ـ عدم تعقل فائدة النزول الأول للقرآن من حيث هداية البشر ، فلا وجه لهذه العناية به في القرآن والاهتمام به .
النظرية الثانية :
ان المراد من إنزاله في شهر رمضان ، وفي ليلة ابتداء القدر منه ابتداء إنزاله في ذلك الوقت ، ثم استمر نزوله بعد ذلك على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالتدريج ووفقا للمناسبات والمقتضيات .
ويبدو أن هذا الرأي هو الذي استقطب أنظار الاغلبية من محققي علوم القرآن والتفسير ، نظراً إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأمور ، وأوفقها مع القرائن وظواهر النصوص القرآنية ، فان القرآن يطلق على القرآن كلّه كما يطلق على جزء منه ، ولذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة والشرف الثابتين للكثير منه .
وتأييداً لهذه الفكرة ، فإننا نحاول الأستفادة من التعابير الجارية بين عامة الناس حين يقولون مثلا : سافرنا إلى الحج في التاريخ الفلاني ، وهم لا يريدون بذلك إلا مبدأ السفر ، أو : نزل المطر في الساعة الفلانية ، ويقصد به ابتداء نزوله ، فإنه قد يستمر إلى ساعات ، ومع ذلك يصح ذلك التعبير .
ولابد أن نضيف على هذا الرأي إضافة توضيحية ،و هي : أن المقصود من كون ابتداء النزول القرآني في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لانه كان لسبع وعشرين خلون من رجب ـ على الرأي المشهور ـ وكانت الآيات التي شعت من نافذة الوحي على قلب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لأول مرة هي : (( إقرا باسم ...))[العلق] ، ثم انقطع الوحي عنه لمدة طويلة ، ثم ابتدأ الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهذا الذي تشير إليه الآية المباركة ، واستمر الوحي عليه ( صلى الله عليه وآله ) حتى وفاته .
وبما أن هذا كان بداية استمرار النزول القرآني فقد صح اعتباره بداية لنزول القرآن .
النظرية الثالثة :
وهي النظرية التي اختصّ بها العلاّمة الطباطبائي ، وهي تمثل لوناً جديداً من ألوان الفكر التفسيري انطبعت بها مدرسة السيد الطباطبائي في التفسير .
وهذه النظرية تعتمد على مقدمات ثلاث تتلخص فيما يلي :
1 ـ هناك فرق بين ( الإنزال ) و ( التنزيل ) ، والإنزال إنما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمراً وحدانياً نزل بدفعة واحدة ، والتنزيل إنما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمرا تدريجياً ، وقد ورد كلا التعبيرين حول نزول القرآن : (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ))[الدخان:3] ، (( ونزلناه تنزيلا ))[الإسراء:106] .
والتعبير بـ ( الإنزال ) إنما هو في الآيات التي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر ، أو شهر رمضان بخلاف الآيات الأخرى التي يعبر فيها بـ ( التنزيل ) .
2 ـ هناك آيات يستشعر منها أن القرآن كان على هيئة وحدانية ، لا أجزاء فيها ولا أبعاض ، ثم طرأ عليه التفصيل والتجزئة ، فجعل فصلا فصلا وقطعة قطعة ، قال تعالى : (( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير )) [هود:1]. فهذه الآية ظاهرة في أن القرآن حقيقة محكمة ، ثم طرأ عليها التفصيل والتفريق بمشيئة الله تعالى ، والاحكام الذي يقابل التفصيل هو وحدانية الشيء وعدم تركبه وتجزئه .
3 ـ هناك آيات قرآنية تشير إلى وجود حقيقة معنوية للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجية اللقيطة ، وقد عبر عنها في القرآن بـ ( التأويل ) في غير واحدة من الآيات ، قال تعالى : (( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بمالم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ))[يونس:38،39] ، وقال تعالى : (( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله ... ))[الأعراف:52] .
فالتأويل على ضوء الاستعمال القرآني هو الوجود الحقيقي والمعنوي للقرآن ، وسوف يواجه المنكرون للتنزيل الالهي تأويله وحقيقته المعنوية يوم القيامة .
واستنتاجاً من هذه المقدمات الثلاث ، فللقرآن إذن حقيقة معنوية وحدانية ليست من عالمنا هذا العالم المتغير المتبدل ، وإنما هي من عالم أسمى من هذا العالم ، لا ينفذ إليه التغير ولا يطرأ عليه التبديل .
وتلك الحقيقة هو الوجود القرآني المحكم الذي طرأ عليه التفصيل بإرادة من الله جلّت قدرته ، كما أنه هو التأويل القرآني الذي تلمح اليه آيات الكتاب العزيز .
وإذا آمنا بهذه الحقيقة فلا مشكلة اطلاقا في الأيات التي تتضمن نزول القرآن نزولاً دفعياً في ليلة القدر وفي شهر رمضان ، فإن المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنوية للوجود القرآني على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وانكشاف ذلك الوجود التأويلي الحقيقي للقرآن أمام البصيرة الشفافة النبوية ، فان هذا الوجود المعنوي هو الذي يناسبه الإنزال الدفعي ، كما أن الوجود اللفظي التفصيلي للقرآن هو الذي يناسبه ( التنزيل ) التدريجي .
وليس المقصود ممّا ورد من روايات عن أهل البيت ( عليهم السلام ) حول النزول الأول للقرآن في البيت المعمور إلا نزوله على قلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنه هو البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة ، وقد رمز اليها الحديث بهذا التعبير الكنائي .
وهذه النظرية مع ما تتصف به من جمال معنوي لا نجد داعياً يدعونا إلى تكلفها ، كما لا نرى داعياً يدعونا إلى محاولة نقضه وتكلّف ردّه ، فليست النظرية هذه تتضمن أمراً محالاً ، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحل المشكلة ما هو أيسر هضماً وأقرب إلى الذهن .