بقية حديث الحلقة السابقة
نموّ الإبداع
يرى تورانس أن بعض الأطفال يبدون، منذ الولادة، أكثر إبداعاً من بعضهم الآخر. إنهم يبدون فعالين نشيطين ويظهرون كأنهم يلاحظون كل شيء ويستجيبون لكل صوت أو رائحة أو صورة. إنهم يتعلمون بسرعة كيف ينقلون حاجاتهم وطلباتهم إلى من حولهم وكيف يفسرون سلوك هؤلاء الذين يحيطون بهم. إنهم يتفحصون كل شيء ويحشرون أنوفهم في كل شيء، وحينئذ يقال عنهم إنهم فضوليّون.
ومن الغريب أن هذه الفروق الفردية في الإبداع التي تبدو ظاهرة منذ الولادة تضعف أو تزول بتأثير الطريقة التي يلجأ إليها الأهل في مواجهتهم لهذه القدرة الإبداعية وهذا الفضول. وبطبيعة الحال فإن الأمر لا يقتصر على الأهل بل يتعداهم إلى كل من يحيط بالطفل وله دور في حياته وخاصة المدرسة. ولما كانت فاعلية الأطفال الصغار أو نشاطهم أمراً يزعج الراشدين ويتعبهم، فإنهم لا يشجعون دائماً مثل هذه الفاعليات أو النشاطات. وليس من المبالغة أن يقال أن الطفل النشيط الطُلَعَة يعاقب على سلوكه هذا أكثر من الطفل الطيّع.
وثمة أمر آخر اهتم به العلماء المختصون بدراسة الإبداع وهو علاقة الإبداع بالعمر، والسؤال عما إذا كانت هناك مرحلة من العمر يكون فيها الطفل المبدع أكثر إبداعاً منه في المراحل الأخرى أم أن الإبداع يتزايد مع التقدم في العمر؟ وهل يتم نمو الطفل الإبداعي في مراحل مختلفة أم هو مستمر؟!
إن للعالمين غوان Goan وتورانس فكرتين متمايزتين في هذا الصدد. يميل غوان إلى النظر في الإبداع والنمو الإبداعي بوصفهما على صلة بمراحل محددة من عمر الإنسان، أما تورانس فيميل إلى أن النمو الإبداعي عملية مستمرة تتبدى مع التقدم في العمر.
ويرى غوان أنه إذا كان من الممكن النظر إلى النمو الإبداعي على أنه مشابه لأي نمو آخر، أي أنه مستمر وينمو مع نمو الطفل، فإن هذه النظرة ليست دقيقة ولا صحيحة، وذلك لأن النمو، في رأيه، يحدث على مراحل تشبه المراحل التي قال بها فرويد Freud وإريكسون Erickson وبياجيه Piaget عن النمو العقلي والنفسي عامة.
ويحدد غوان هذه المراحل بما يلي:
ـ مرحلة الكمون latency Period وهي تشمل المراحل (1-4-7) وفيها يتعرف الطفل الأشياء من حوله.
ـ مرحلة الهوّية identity period وهي تشمل المراحل (2-5-8) وفيها يقوم الطفل والحدث والراشد بالتساؤل عن هوّيته.
ـ مرحلة الإبداع creativity period وهي تشمل المراحل (3-6-9). وفي المرحلة (3) ينمو الإبداع وفي المرحلة (6) يتزايد إبداع المراهقين.
ويرى غوان أن الحب أساسي للإبداع. فإذا أراد أحد أن يكون مبدعاً فإن عليه أن يغني حياته بمزيد من الحب.
تلك هي أهم أفكار غوان عن مراحل النمو أما تورانس فيقول إنه ومعاونيه وجدوا أن عدم الاستمرار هو ما يميز قدرات التفكير الإبداعي. ولقد وجدوا أن ثمة أطواراً واضحة من التدني في قدرات التفكير الإبداعي تحدث عند الأطفال ولاسيما في الأعمار 3-9-13-17 وأن أسوأها يحدث في التاسعة من العمر، وذلك العمر الذي تحدث فيه أسوأ اضطرابات الشخصية ومشكلات السلوك ومصاعب التعلم.
ويوافق كاتينا على ذلك لكونه قد شارك في دراسات تورانس وكان واحداً من معاونيه. وأياً ما كان الأمر، فإن من المهم أن يلاحظ لدى كل من غوان وتورانس أن السن قبل المدرسية الممتدة من الرابعة إلى السادسة سن إبداعية، وأنه حين يدخل الطفل المدرسة الابتدائية لا يتاح للإبداع إلا النمو القليل. لذلك فإن من واجب الأهلين والمتعلمين مساعدة الطفل على أن يكون مبدعاً في المرحلة الثالثة (4-6 سنوات) وفي المرحلة الرابعة (9-10 سنوات).
ومن الواجب أن يذكر هنا، أن الانتقال من مرحلة تعليمية إلى مرحلة أخرى، أو من مدرسة إلى أخرى، أمر يسبب حدوث الشدّات والقلق وأن من واجب الأهل والمعلمين أن يساعدوا الطفل على حسن التكيف مع محيطه الجديد مما يتيح له الإبقاء على شعلة إبداعية لاهبة.
الإبداع والذكاء والموهبة والعبقرية:
الذكاء شرط لازم للإبداع ولكنه غير كاف. وقد ثبت للعلماء أن العلاقة بين القدرات الإبداعية الكامنة والإنتاج الإبداعي، من جهة، وحاصل الذكاء، من جهة أخرى، منخفضة القيمة وذلك حين يكون الأمر مختصاً بفئات من الناس يكون حاصل ذكائهم مرتفعاً. أما في النسب المتدنية من حاصل الذكاء فإن ثمة علاقة واضحة بين حاصل الذكاء والقدرات الإبداعية.
فإذا أخذت حاصلات الذكاء من أدناها إلى أعلاها، أو قل مثلاً من 65 إلى 150، فإنه يلاحظ اختلاف وتنوع. ومعنى ذلك أنه حين يكون حاصل الذكاء عالياً فإن القدرات الإبداعية تراوح بين الانخفاض والعلو. وهكذا فإن حاصل الذكاء - فيما يبدو - يضع حداً أعلى للقدرات الإبداعية، ولكنهم يقصرون عن تحقيقها ووضعها موضع الاستخدام والإفادة، وأن هناك عدداً قليلاً جداً ممن يتجاوزون قدراتهم الإبداعية في إنجازاتهم.
وأياً ما كان الأمر، فإن علماء النفس اليوم يرون أن الإنسان قد يكون موهوباً بأشكال متعددة، كما يرون أن المرتفع الذكاء يمتلك، إلى جانب قدرات التعامل مع المعلومات، قدرة تعاملية أخرى هي المحاكمة التي تقود إلى عدة حلول ممكنة لمشكلة ما: وهو قدرة «التفكير المجانف» التي يمكن القول إنها القدرة على التفكير المبدع.
وهنا يطرح السؤال: هل يكون الشخص ذاته مبدعاً، وبدرجة متساوية في مجالات العلوم والفنون وغيرها؟ ويجيب غيلفورد عن هذا السؤال بقوله: «استناداً إلى نتائجنا التحليلية نستطيع القول إن هذا الأمر ممكن الوقوع ولكننا نادراً ما نتوقع أن يكون الشخص عينه قادراً على الإبداع وبصورة متساوية في العلوم والفنون والرياضيات والإدارة والتأليف الموسيقي. إن الأفراد المبدعين بدرجة عالية في كثير من هذه الميادين المختلفة قد تكون لها صفات ممتازة مشتركة فيما بينهم، ولكن الدراسات النفسية تدل كذلك على أن بينهم فروقاً واضحة»
وأما ما يتصل بالعباقرة والموهوبين فيمكن القول أن واحداً من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها بعض علماء النفس في تاريخ روز الذكاء كان إطلاقهم كلمة «عبقري» على الشخص الذي يبدو حاصل ذكائه عالياً جداً (أو فوق 140) وكان هذا الخطأ سبباً في كثير من الاضطراب، لأنه عنى أن كل فرد عنده مثل حاصل الذكاء المرتفع هذا من الأطفال واليافعين سيصبح عبقرياً. وقد خابت آمال الأهل وآمال العبقري الموعود. ولذلك فإن من الأنسب علمياً أن يسمى أمثال هؤلاء بالموهوبين، ونسبتهم لا تزيد على 1٪ من مجموع السكان، والاحتفاظ بكلمة عبقري لأولئك الذين يتصفون بالذكاء المبدع من بين هؤلاء الموهوبين. إن صفة الموهوب تعني قدرة عقلية عالية جداً، في حين تعني صفة العبقري إنجازاً إبداعياً وأصيلاً تماماً. ولا يتسع المجال هنا للتحدث عن التكوين النفسي لكل من الموهوب والعبقري مما يستطيع القارئ أن يرجع فيه إلى المراجع المختصة. ولكن يفضل تأكيد خطأ النظرية التي تقرب بين العبقرية والجنون لأن الغالبية الساحقة من العباقرة أشخاص أسوياء تماماً.
للحديث بقية فلم ننته بعد من حديثنا عن الأبداع
WWW.kut-friends.net