من الحلقة الأولى و من البقية الأولى نكمل ما بدأناه بموضوع الأبداع
ومن جهة أخرى قدمت دراسات تيرمان Terman ومعاونيه عن العلاقة بين الذكاء والإبداع قاعدة غنية للتوسع في الاهتمام بالإبداع والمبدعين. ففي عام 1920 بدأ تيرمان ومعاونوه دراسة طويلة الأمد لفريق من الأطفال في كاليفورنية بالولايات المتحدة الأمريكية يقدر عددهم بربع مليون طفل كان بين نتائجها استخراج من يزيد حاصل ذكائهم على 140، وهو حاصل ذكاء لا يشاهد لدى أكثر من 1٪ تقريباً من الأطفال. وقد كشف هؤلاء الباحثون أن ألفاً وخمسمئة طفل، من أصل ربع مليون طفل، كانوا موضوع الدراسة، بلغ متوسط حاصل ذكائهم مئة وخمسين، وكان بينهم ثمانون بلغ حاصل ذكائهم مئة وسبعين أو أكثر، ولقد تابع الباحثون دراسة هؤلاء الأذكياء مدة تزيد على ربع قرن، وقدمت هذه الدراسات خدمة كبيرة في فهم معنى الإبداع والموهبة والعبقرية والعوامل التي ترتبط بذلك والإنجازات التي تظهر مع الإبداع.
طبيعة الإبداع:
يقدر العلماء أن نسبة المبدعين المرموقين بين الناس، منذ فجر التاريخ لا تتجاوز اثنين في المليون، وقد تساءل الناس دوماً عن سبب ندرة المبدعين وعن العلاقة بين العبقرية والتربية. ومن هنا كانت المشكلة الحاضرة مع الإبداع مشكلة ذات وجهين، أولهما كشف المقدرات الإبداعية الواعدة عند الأطفال والشباب، وثانيهما كيفية تنمية شخصياتهم المبدعة.
وبدهي أنه لا فائدة من محاولة الإجابة عن هذين السؤالين ما لم تعرف ماهية الإبداع وتحدد عوامله وما لم يتم التوصل إلى طرائق للكشف عنه لدى الأحداث والشباب والعمل على تنمية شخصياتهم المبدعة.
إن ثمة قناعة عامة عند علماء النفس المتخصصين بدراسة الإبداع تذهب إلى أن جميع الأفراد يملكون، إلى درجة ما، كل القدرات، ولا يستثنى من ذلك إلا الحالات المرضية. ولذلك فإننا نستطيع أن نتوقع وجود الأعمال الإبداعية عند جميع الأفراد بقطع النظر عن مقدارها وقوتها وتكرارها، بيد أن العلماء مجتمعون على توقع الأعمال المبدعة من الأعظم ذكاء أكثر ممن هم أقل ذكاء، ويستدرك علماء النفس فيقولون: ليس كل متفوق في الذكاء عبقرياً وإن كان العكس صحيحاً. ومعلوم أن روائز الذكاء العادية لا تروز الإبداع بقد رما تروز وظائف عقلية تتأثر كثيراً بالإنجاز المدرسي والمعلومات.
لقد لجأ غيلفورد Guilford إلى التحليل العاملي لتبيُّن القدرات العقلية، ورسم لذلك مكعباً مشهوراً يعرف باسم «مكعب غيلفورد» أظهر فيه وجود مئة وعشرين قدرة أو عاملاً للنفس البشرية. ووضع عدداً من الفرضيات عن طبيعة التفكير الإبداعي. وكان في ذهنه، حين وضع هذه الفرضيات، نماذج من المبدعين من مثل العالم والفنان والمخترع، وكان يعتقد أن ثمة فروقاً بين أنواع الإبداع وفي ميادينه المختلفة. وذلك مع اعتقاده، بوجود عوامل مشتركة بين المبدعين وأنماط قدرتهم. ويرى غيلفورد أن القدرات الأولية التي يمكن أن تسهم في الجهود الإبداعية لمختلف المبدعين هي من مكونات المحاكمة، ولكنه يخص بالذكر منها الإحساس بالمشكلات والطاقة والمرونة والتجديد والتوسيع والقدرة التركيبية، والقدرة التحليلية وإعادة التنظيم والتقعيد والتقويم. بيد أن تورانس TorranceوكاتيناKhatenaوغيلفورد، وهم القادة في روز قدرات التفكير المبدع، يولون الأهمية لقدرات أربع هي: الطلاقة والمرونة والأصالة والتوسيع أو التفصيل.
الطلاقة Fluency: هي القدرة على إنتاج الكثير من الأفكار فيما يخص مهمة ما. ومعنى هذا أن الشخص القادر على إنتاج عدد كبير من الأفكار في وحدة زمنية معينة فإنه - إذا تساوت الشروط الأخرى- يكون صاحب حظ أكبر في إبداع أفكار ذات معنى. ويوجه غيلفورد ومعاونوه اهتماماً شديداً ودقيقاً للعوامل المكونة للطلاقة. وقد وجدوا أن لها في فئة الاختبارات الذهنية (أو الكلامية) وحدها ثلاثة عوامل مميزة هي: الطلاقة الفكرية والطلاقة الترابطية والطلاقة التعبيرية.
المرونة Flexibility: هي القدرة على إنتاج الأفكار التي تظهر تحرك الإنسان من مستوى تفكير إلى آخر أو تظهر نقلاته التفكيرية في حال مهمة معينة. أما الأفكار التي تكرر الأعمال ذاتها فإنها لا تظهر مثل هذه النقلات التفكيرية. وعلى هذا فإن مرونة الفكر ذاته أو سهولة تغييره لتهيئه النفسي، عامل مهم من عوامل الإبداع.
والإنسان الذي يقف عند فكرة، أو يتصلب بشأن طريقة من الطرائق، هو أقل قدرة على الإبداع من إنسان مرن التفكير قادر على التغيير حين يكون ذلك لازماً. ويميز غيلفورد بين أنواع المرونة مثل: المرونة العفوية والمرونة الكيفية وسواهما.
التفصيل أو التوسيع Elaboration: هو القدرة على إضافة التفاصيل إلى فكرة أساسية ثم إنتاجها. وهكذا ففي واحد من الاختبارات يُعطى الممتَحَن مخططاً بسيطاً لموضوع ما ويطالَب بتوسيعه ورسم خطوات تؤدي إلى جعله عملياً، وبطبيعة الحال فإن الدرجة التي يحصل عليها تتناسب مع مقدار التفصيلات التي يعطيها.
الأصالة Originality: هي القدرة على إنتاج أفكار غير عادية ولا يستطيع إنتاجها الكثير من الناس وذلك بوصفها أفكاراً بعيدة عن المألوف وذكية.
ويميز علماء النفس المختصون في دراسة الإبداع بين نوعين من التفكير هما التفكير المطابق Convergent thinking والتفكير المجانف Divergent thinking ويرون أن بعض الناس يتصفون بتفكيرهم المجانف وهم المبدعون حقاً. إنهم لا يقبلون المألوف بل يخرجون عليه طلقين مرنين متوسعين أصيلين. على أن كل نوع من نوعي التفكير هذين ألزم لبعض الناس من النوع الآخر. وقد أضاف تورانس ومعاونوه فيما بعد قدرات جديدة مثل القدرة على التجديد والقدرة على التحليل والتركيب والقدرة على الإغلاق Closure أي القدرة على تأجيل إكمال مهمة ما إلى وقت يسمح بإنتاج الأفكار الأصيلة.
لم ينته الحديث بعد فله بقية بحلقة أخرى أن شاء الله