التفكير العقلاني واللاعقلاني وتأثيره على الشخصية
بعض أساليب التفكير تولّد الإنهزامية
إن استجاباتنا الوجدانية والإنفعالية والإضطرابات التي تصيب الإنسان، تعتمد بنسبة كبيرة على وجود معتقدات فكرية خاطئة يبنيها عن نفسه وعن العالم المحيط به. فالعقيدة تحكم السلوك، والمعتقدات التي تتملك الإنسان ويُدرك من خلالها الأمور، هي التي تصنع السلوك.. هذا ما لفت إليه علماء علم النفس المعاصر، الذين اهتموا بدراسة خصائص الشخصية وما يصحبها من حالات تقود الى الفعالية الإجتماعية، أو الى الإنغلاق الإجتماعي.
العلاقة بين التفكير والسلوك
أثار هذا الموضوع النقاش الساخن بين روّاد علم النفس والإجتماع، الذين كانت لهم محاولات جادة لكشف الأسباب المانعة للتوافق مع النفس والبيئة، والمرجحة لاضطراب السلوك الإجتماعي، وقيام حالة من الإنسحاب الكلي من الصلات الحياتية مع الغير، بما معناه، الإنسحاب من النمط العملي من الحياة، ومن المجالات التي تمثل قيمة حيوية وتشمل العلاقات الأسرية والمهنية والإجتماعية... وبالرغم من تعددها، فإن المفاهيم والآراء التي تبناها المفكرون لغرض تقييم العلاقة بين التفكير والسلوك الشخصي والإجتماعي، تلتقي في مجموعها حول مبدأ أن التفكير والإنتقال والسلوك جميعها أشكال متلاحمة، والتغيير في إحداها يغيّر في العناصر الأخرى كلها، وأن الإضطراب السلوكي يرتبط بأساليبنا في إدراك الأمور وتفسيرنا لها. فالناس لا يضطربون من المواقف، ولكن من الآراء التي يحملونها عنها... وفي هذا المجال حذّر العلماء من: المغالاة في التقدير الشخصي للأمور، والقفز الى الإستنتاجات، والتفسير السلبي لما هو إيجابي، وقراءة المستقبل قراءة سلبية وحتمية وغير ذلك، من أنماط فكرية محبطة ومُربكة... كما أشار العلماء الى أن الإستعدادات الذاتية الثابتة في الشخصية، كالأفكار التسلطية (العـناد، التصلّب في الرأي...) وأيضاً الشك الدائم في المهارات الذاتية، والإندفـاع الخـارج عن السـيـطرة الإرادية، والإعـتياد على الـتواكل على الآخرين، والإحساس بالعجز عن التلاؤم مع ظروف الحياة الخارجية وحاجاتها، كلها أمور تدفع بالسلوك الى الإضطراب وتستهدف الشخصية.
تأثير العوامل الذهنية
بالرغـم من أن فكـرة تأثير أسلوب التفـكير في حياتنا الإنـفعالية والسلوكـية قد تبلورت على نحو واضح في السنوات الأخيرة، فإن لها جذوراً ممتدة من الماضي، فقد تنبّه المفكرون الأوائل الى أن أفكارنا هي التي تجعل سلوكنا مضطرباً أو سوياً. ومن هنا، ابتكر المعالجون النفسيون مفاهيم مختلفة عن قيمة العوامل الذهنية والفكرية وتأثيرها في حياتنا واتجاهاتنا. ويرى أدلر (Adler)
أن المدخل المناسب لفهم الإنسان هو أن نتعرف إليه من خلال فهمنا لمعتقداته الفكرية والأهداف التي يرسمها لنفسه، فبرأيه أن التفكير في أمور الحياة بطريقة منطقية ومتعقّلة، تصحبه حياة وجدانية هادئة، واتجاهات سلوكية خالية من أي اضطراب أو سلبية؛ أما إذا كانـت طريقة التفـكير غير منطقية، ومطعّمة بصبغة سوداوية مشوّهة للواقع، فسيكون السلوك على درجة مرتفعة من الإضطراب ويتوقع بسببه جنوح الفرد نحو السلبية، التي تكون بداية لظهور بذور سوء التوافق الإجتماعي. وقد أعطى أدلر، للمقومات الوجدانية حصة كبيرة في جنوح السلوك إيجاباً أو سلباً، ويقول: "... إن شعور الفرد بعدم الإرتياح، وتوقعه الخطر من مصدر ما غير واضح في ذهنه، يجعله في ترقّب دائم وفي حالة استعداد وتحفّز متواصل توقعاً للخطر وتأهباً لملاقاته، وهذا التشوّف الفكري يشن عليه حرباً نفسية، فتكون الصبغة الإنفعالية هي الغالبة، والمنتج المساهم في تقرير مسلكه الإجتماعي. وقـد تمـكن أدلر، في افتراضاته التـحليلية أن يُظـهر مـدى اقتناعه بفكرة أن لأساليب التفكير تأثيراً على تكوين الشخصية وتقرير أمزجتها وانفعالاتها وسلوكها، متفقاً في رأيه هذا مع معاصريه. إلا أن أدلر، كانت له بعض المآخذ ونقاط النقد حول النظرية التي أتى بها فرويد، وتفيد بأن التعرض للضغوط الشديدة له الدور الأول، والأساسي، في تحريك حدّة الإنفعال النفسي والمزاجي، الذي يوجه آلية التفكير في اتجاه سلبي أو إيجابي.
الحتمية السلوكية
ما جاء في نظريات فرويد التي ما زلنا نتحدث بلغتها حتى الآن، أعطى الدلالات الكافية على أن للعوامل النفسية الذاتية: الآراء والقيم والصراعات الداخلية، أعمق الأثر في تقرير الحتمية السلوكية، وأن هذه العوامل تمثّل جزءاً متوازناً من سلوكنا الإنساني. والمتتبع لاجتهادات فرويد يرى بوضوح إصراره على أن الإضطرابات السلوكية هي نتاج للتجارب الفاشلة والمكبوتة، ويقول في ذلك: "... إن الإنسان يسعى جاهداً لتحرير نفسه من صراعات مكبوتة أنشأت لديه الشعور بالنقص، هذا الشعور الذي يجعل حامله يضع نصب عينيه، أو في خياله أهدافاً غير واقعية قد يصعب أو يتعذر إدراكها، والسبب أن أداة التكييف اللازمة غير كافية لتحقيق رغبته الذاتية، ورفده في العلائق الإجتماعية والحياة العملية...". وفي الوقت نفسه اعتبر فرويد أن الإنفعالات والتجارب المكبوتة تظلّ كامنة الى أن تجد منفذاً لها تعبر منه، وفي الحالتين تظلّ مهددة للشخص في سلوكه. وهو يضيف: "... إن السمات غير المتوافقة في السلوك الإجتماعي هي خلاصة صراع قائم بين جانبين من الشخصية، إضافة الى العوامل النفـسية، وهذا الصـراع يشارك في إحـداثه، التفـكير العـقلاني، أو، اللاعـقلاني... فسـلوك الإنسـان هو استجابة للعمليات الفكرية التي تمدّه بالطاقة المدافعة لعمل أي شيء سلبي أو إيجابي، فطـرق التفـكير والإدراك الشخصي لواقع الأمور هو المحور الأساس لحتمية السلوك ومظاهره".
التفكير العقلاني واللاعقلاني
إن الإستسلام للأفكـار السلـبية الإنهزامـية يغيّب مقومـات الصـفاء الذهني والسواء السلوكي، تماماً كما لو كنا ننظر من خلال عدسة مشوّهة، فبدلاً من رؤية الحقيقة واضحة نراها محرّفة. هذا ما أشار إليه بيك (Beck)
في مناقشته الموضوعية حول "السلوك الإنساني"، وقد أعطى أمثلة كثيرة وضّح فيها أثر التفكير كقوة فاعلة في السلوك، كما بيّن متى يكون التفكير عقلانياً أو لا عقلاني. وفي معرض أبحاثه قدّم لنا بيك ما يمكن اعتباره جدولاً بمقاييس التفكير الإيجابي، والتفكير السلبي، مبيّناً الأفكار التي تساعد في رفد فاعلية السلوك الإجتماعي، وأيضاً الأفكار الخاطئة التي بنتيجتها يتكوّن السلوك المضطرب. فالإنسان السلبي في تفكيره، هو الذي يردد عبارة: لا أحد يحبني، أشعر أنني منبوذ من أسرتي وأنه لا جدوى من حياتي... أنا إنسان ضعيف الإرادة ولن أصل أبداً الى ما أطمح إليه، لا يوجد من يفهمني... أرى المستقبل قاتماً... الخ. وهو أيضاً يعيش في دوامة من المعتقدات التي يعبر معها في اتجاهات لا توافقية، فالسلبي، يأسره اعتقاد بأن الناس تظنّ به سوءاً، أو أن زميلاً له في العمل يضمر له سوءاً، وأن المستقبل سيكون أسوأ من الماضي، وهكذا... أما العقلاني فيحدث نفسه ويحاورها بأسلوب منطقي وإيجابي، ويردد بعض العبارات المحفزة إيجاباً، منها مثلاً: أملي كبير في المستقبل، الحياة مليئة بالفرص ولا يجب أن أتشاءم، بإمكاني أن أكون سعيداً في أي ظرف من الظروف.. أشعر بمحبة رؤسائي لي وزملائي في العمل.. إذا فشلت اليوم فلا بد أن أنجح في الغد.. التفكير في الأمور السيئة أسوأ من الأمور ذاتها.. مصائب اليوم قد يكون لها فوائد في الغد... بيدي أن أغير رفض الآخرين لأسلوبي... الى ما هنالك من عبارات. أخيراً، إن أسوأ الأمور أن يصف الإنسان نفسه بالفاشل ويعجز عن أن يرى إمكانيات النجاح والتفوّق في ما يفعل حتى لو كان أداؤه متفوّقاً. وأصدق تعبير نطلقه في هذا المجال هو: "إذا أراد الإنسان أن يغيّر من حاله، فما عليه إلا أن يغيّر ما بنفسه".