TODAY - 09 May, 2010
البحث عن "حياة طبيعية" في بغداد القديمة
البائع يؤكد لنا ان هذه السماك لم يجر اصطيادها في نهر دجلة الملوث بمياه الصرف الصحي.
الحياة تعود الى طبيعتها في بغداد مع انحسار منسوب العنف ولكن هذه الحالة لا تقارن مع ما كانت عليه الحياة الطبيعية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قبل ان يستلم صدام حسين الحكم.
عندما اقول لأي كان انني اعيش واعمل في بغداد يسألني مباشرة: "كيف هي الحياة هناك؟"، بالطبع فهو سؤال عادي، ولكن الاجابة عليه صعبة، مع جملة المشاكل التي تعترض الحياة اليومية من غياب الخدمات الاساسية كالمياه والكهرباء وصولا الى استمرار العنف المتقطع بحصد ارواح العراقيين.
ويستمر الناس بالاسئلة: "الم تتحسن الامور؟ اليست الحياة تعود الى طبيعتها؟"
والاجابة على ذلك هي انه في زاوية صغيرة من العاصمة العراقية هناك محاولة جدية جدا يقوم بها السكان من اجل اعادة المياه الى مجاريها.
اذا صعدنا فوق الجدران العالية المحيطة بمكتب بي بي سي في بغداد وفي حال تمكنا من اقناع الحراس المزودين ببنادق كلاشنيكوف وشقينا طريقنا الى سلم خشبي يؤدي الى زقاق ضيق محاط بجدران عالية نتخطى احدها فنجد انفسنا في ما قد يوصف بواحة مقارنة بباقي المدينة.
هذه الواحة هي لربما المكان الوحيد حيث لا تزال الامور نسبيا كما كانت عليه في الماضي.
انه نادي العلوية الذي قصدته برفقة اصدقاء للعشاء في حديقته الخلفية الواسعة.
هنا، يلعب الاطفال بالقرب من برك المياه المستخرجة من آبار ارتوازية، ومجموعات من الاصدقاء او العائلات يجلسون على كراس بلاستيكية معا، رجالا ونساء يدخنون النرجيلة بالتنباك المعسل بالفواكه التي تفوح رائحته في المكان، ويحتسون الشاي او حتى مشروبات "اقوى"...
اول ما كان علينا ان نفعله هو اختيار سمكة الشبوط التي نريدها للعشاء.
اسماك وموقدة
وفي احدى زوايا الحديقة حوض مليء بالاسماك بالقرب من موقدة حطب.
الحياة تعود طبيعية في بغداد مع انحدار منسوب العنف
مصدر هذه الاسماك ليس نهر دجلة الملوث بمياه الصرف الصحي، كما يؤكد لي احد المسؤولين في المكان، لكن سمك الشنبوط هذا ولد وكبر في مزارع للاسماك.
ها هو الآن يأخذ السمكة التي اخترتها بين يديه، يقبلها قبلة الموت قبل ان يضعها على خشبته ويبدأ بتنظيفها بسكينه الكبير ويشطرها في الوسط كي تصبح جاهزة للشواء.
وبانتظار العشاء التقليدي البغدادي المعروف بالمسقوف، جلسنا نشرب وندخن النرجيلة.
مصطفى، وهو مهندس عراقي في العقد الرابع من عمره احضر معه فيلما مصورا لعائلته في المكان نفسه حيث نجلس ولكن في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات.
الحياة حينها كما تظهر في الشريط تبدو وكأنها عبارة عن سلسلة مستمرة من حفلات اعياد ميلاد ورحلات طويلة واجازات في الخارج.
الرجال والنساء في الفيلم يرتدون افخر الملابس المطابقة للموضة الاوروبية حينها، يمزحون ويرقصون معا دون ان تضع النساء اي حجاب على رؤوسهن لا بل ان غالبيتهن يرتدين التنانير والفساتين التي لا تتخطى مستوى الركبتين.
هكذا كان العراق حينها، ليبراليا نسبيا ومزدهرا وسكانه من المثقفين، ويقول مصطفى ان الحياة حينها كانت تتميز بغياب مصادر القلق وكأنها نزهة ممتعة في البرية.
ويتفق الجالسون حول طاولتنا ان ثلاثة احداث تاريخية مهمة قتلت الحياة الهنيئة التي كان العراقيون ينعمون بها.
الحدث الاول حسب هؤلاء هو استلام صدام حسين الحكم وبدئه الحرب مع ايران، اما الثاني فهو غزو العراق للكويت عام 1990، ولكن الحدث الاكبر الذي فتت بقايا الحياة في المدينة حسب هؤلاء كان اجتياح العراق عام 2003 من قبل الجيشين الامريكي والبريطاني والذي ادخل البلاد في دوامة عنف لا مثيل لها.
ويضيف مصطفى ان العراق في عهد صدام كان البلد الاكثر امانا في العالم.
انقطع التيار الكهربائي فجأة فغرقت الحديقة في الظلام قبل ان تهدر اصوات مولدات الكهرباء التي تعلن اقتراب موعد الاضاءة مجددا.
وصلت سمكتنا التي انكبينا عليها نتناتش باصابعنا لحمها المملح بقطع من الخبز بينما تحلق فوقنا مروحيتان امريكيتان اصبحتا مشهدا يوميا اعتاد عليه كل من يسكن العاصمة العراقية.
وتوقف مدير المطعم بعض الوقت عند طاولتنا وقال ان "النادي يعمل باستمرار منذ نحو 85 عاما ولكن في الاعوام الاخيرة فان طبيعة المكان قد تغيرت اذ يأتي الزوار اليه اليوم بهدف الهروب من عنف بغداد واخطارها اليومية ونسيان الحرب من خلال الاكل والشرب.
ويتدخل شخص آخر ليقول ان "المشكلة تكمن في ضعف ايمان الناس بأن هناك امكانية للتغيير، ولذلك الكل يحاول ان يعتاد على الواقع الجديد.
عدنا لنركز على الفيلم حيث تظهر فيه شابة خلف طاولة للعشاء وضع عليها قالب من الحلوى وثلاث شمعات، ولكنها بدت تمازح محاولة النفخ عليها لتنطفئ، الا انها "لم تتمكن" من ذلك.
وفجأة تصبح الشاشة سوداء، وها هو مصطفي يقول: اترون؟ حتى في ذلك الحين كان ينقطع التيار الكهربائي.