إن التركيز (فن) يمكن تعلمه وإتقانه كأي فن آخر , فلا تنتظر أن تصبح قادرا على التركيز حتى تقوم بذلك , بل أبدأ بالتركيز .
وهذا يتطلب التمرين عليه , فكر في مسألة معينة ثم قرر أن تحصر ذهنك فيها , وكلما شرد عليك , رده إلى المسألة نفسها ...
إن التركيز هو القدرة على حصر الذهن في موضوع معين , ثم القدرة على أن تملي على العقل واجبه وأن تكفل طاعته , وهذه القدرة تكتسب بالتدريب الأمر الذي يتطلب الصبر , فإن الانتقال من الشرود إلى حصر الذهن حصرا بينا محكما هو ثمرة الجهد الملح , فإذا استطعت أن ترد عقلك عشر مرات , وخمسين مرة , ومائة مرة , إلى الموضوع الذي اعتزمت معالجته , فإن الخواطر التي تنازعك لا تلبث أن تخلي مكانها للموضوع الذي آثرته بالاختيار والعناية , ثم تلقي نفسك آخر الأمر قادرا على حصر ذهنك بإرادتك في ما تختار .
والأمر الذي يتطلب التدريب ليس هو محاولة امتلاك القدرة على التركيز , فإن ذلك من الأمور التي أعطاها الله –تعالى- لنا جميعا , وإنما هو ضبط القدرة على حصر الذهن وامتلاك زمامها..
حاول إذا ترويض هذه القدرة , فسرعان ما تشعر بأنها خفت إلى الاستجابة لك.
وسوف تجد حينما تتمكن من ذلك أنك حصلت على ميزتين:
الأولى : زيادة العمل الذي تؤديه, وتحسينه.
الثانية : التمتع بما تؤديه , فإن العقل حينما يركز على عمل ما يعطينا سرورا لذيذا , بينما إذا كان الجسم يؤدي عملا , والعقل مشغول بعمل آخر , فإنه يسلب منا الراحة .
فالاهتمام بالشيء يخلق لدى الفرد العناية به لأن العناية ثمرة الاهتمام , وحينئذ تجد نفسك مقبلا بجميع نفسك على ما أنت فيه , بغير جهد.
غير أن هذا لا يصدق طردا وعكسا , فالتركيز يجئ تبعا للاهتمام , ولكن الاهتمام لا يأتي تبعا للتركيز.
أغرق في العمل الذي تؤديه
إن أفضل ما يمنع الفكر من أن يتوزع هو أن يعمل العقل والجسم معا بالإتحاد فيما بينهما , وقد يكون نصيب جسمك طفيفا أو غير جلي , كأن يقتصر على الجلسة أو على التوتر العضلي , ولكن البدن يبذل جهدا على كل حال , وحتى بعد أن نشرع جادين مصممين في حصر أذهاننا في العمل , تهاجمنا طائفة منوعة من الخواطر وأنصاف الخواطر والأصوات , وغيرها من المؤثرات , ولا يكفي أن تحاول إقصاء المؤثرات الخارجية , فإن علينا دائما أن نحل محلها الشيء الوحيد الذي يتطلب اهتمامنا , فليس في وسعك أن تطرد خاطرا من ذهنك , إذا من الأفضل أن توجه عقلك إلى ما أنت الآن تؤديه وليس مجرد طرد الخواطر منه , وتذكر أن كل العباقرة بغير استثناء ينهمكون في أعمالهم بكل جوارحهم , فيحشرون بذلك جميع جهودهم الواعية لخدمة غرض واحد.
لا تؤد إلا عملا واحدا في الوقت الواحد .
كثيرا ما يحدث أنك تبدأ بعمل ما , فإذا بمجموعة أمور أخرى تهجم على فكرك ,تطالبك بأن تقوم بها .
فمثلا إذا قررت أن تقوم بإصلاح الحنفية المعطوبة فإنك بمجرد أن تبدأ بذلك تتذكر أشياء أخرى هي بحاجة إلى الإصلاح والمعالجة ,فثيابك بحاجة إلى الكوي , ومكتبك بحاجة إلى ترتيب , وعليك الاتصال بصديق , وسقف الحمام بحاجة إلى تجصيص , وهكذا وكلها تطالبك بالتعجيل.
هنا قل لنفسك :
هل هذه الأمور تحتمل التأجيل أم لا ؟
وسرعان ما يقول لك العقل :
نعم إنها تحتمل , هنا قل لعقلك الذي يبدأ يعرض عليك الأعمال الأخرى , إن هذا وذاك من الأمور المهمة إلا أنه لابد من إرجائها الآن ,
فأنا مشغول بهذا العمل الذي أباشره , وهذا ما يجب أن أوليه العناية الكاملة.
وستدهشك السهولة التي يقتنع بها عقلك الباطني إذا أنت واثق , وحرصت على إنجاز وعدك له أن تعني بالأمر الذي يدعوك إليه , وهذا هو الذي ينبغي علينا جميعا أن نتعلم : أن لا نتولى سوى أمر واحد في وقت واحد , وبغير ذلك لا نصل إلى شيء , لا في العمل ولا في اللعب ولا في اللهو.
منقول