يروي الحاج محمّد الغفّاري كرامة من كرامات أبي الفضل العبّاس شاهدها بنفسه.. يقول:في حدود سنة 1968م كان عمري يومذاك 12 سنة تقريباً، كنت حينها طالباً في إحدى مدارس مدينة كربلاء المقدّسة، وقد ألِفْتُ أيّام الامتحانات أن أحمل كتبي وأقعد للمطالعة في إحدى زوايا الحضرة العبّاسيّة المباركة، لِما يُملي علَيّ ذلك الجوّ الروحاني من حالة اطمئنان ترفع عنّي ما أُعانيه من قلق الامتحانات.
ذات يوم، وأنا منهمك في المطالعة، وإذا برجلٍ قرويّ يدخل هو وزوجته إلى الحرم الطاهر ومعهما ابنهما يحملانه وقد تهدّل رأسه لِما أُصيب به من الشلل، جاءت به أمّه فوضعته برفق إلى جانب الضريح المقدّس حتّى ألصقته به.
كان الرجل وزوجته هادئَين وقد ارتسم الوقار على وجهيهما.. وضعا ابنهما ولم يَنبِسا ببنتِ شفة، لكنّ عيونهما كانت تناجي صاحب القبر الشريف بنظرات ذات معانٍ عميقة! هكذا فهمت، وهذا ما أثار انتباهي فجعلني أترقّب عن كثبٍ ماذا سيحصل يا تُرى ؟!
لم أُطِقْ أن أنتظر، فتقدّمت نحو الرجل لأسأله عن قصّته، فوجدته واقفاً بأدب وخشوع وهو يخاطب صاحب القبر كأنّه يهمس في خلال الضريح:
يابو فاضل، آنه جيتك وجِبت لك أُوليدي أخرس أطرش شلل، أروحن فد مشوار وأرجع لك واريد ابني منك.
فهمتُ الأمر، فجعلني ذلك أنشدّ إلى هذه القصّة الغريبة، الطفل كومة عظام اختلّت حواسّه فيها.. ماذا عسى سيكون.. انتظرتُ قليلاً.
هنا لابدّ أن أقولها: وحقّ العبّاس، سلام الله على العبّاس.. لم تمضِ إلاّ دقائق لعلّها عشرون لا تزيد، حتّى عاد ذلك القرويّ إلى الحرم الشريف.. فما أن دخل حتّى نهض ولده مشبِّكاً يديه الضعيفتين على شبّاك أبي الفضل، يدور حول ضريحه وهو يقبّل رمّانات المشبّك بشكلٍ غريب، أحسستُ أنّه يمصّها واحدةً بعد أخرى، ما ينفكّ من واحدةٍ إلاّ وصاح بصوتٍ عالٍ:
ـ يا أبا الفضل.. يا أبا الفضل.. يا أبا الفضل.
ما زال كذلك حتّى انتهى منها، عندها أحسّت النساء أنّ أمراً قد حدث، فهرعن إلى الضريح، وإذ وجدن الطفل واقفاً على قدميه وقد دبّت فيه الحياة، وأخذ يتكلّم ويسمع ويعي.. أخذن يعبّرن عن غِبطتهنّ بموجات هلاهل وزغاريد. وهرع الناس إلى الحرم زُرافات يتبرّكون بثياب ذلك الطفل.
أمّا الأب.. فقد خشعت روحه عند المقام الشريف، ورأيته كأنّ قدميه قد تسمّرتا، لكنّ عينيه راحتا تجولان في أرجاء الضريح مغرورَقَتين حائرتين، كي تُعبِّرا عن الشكر والإجلال معاً، ثمّ خطا مطمئنّاً، وانحنى يحمل ولده، وعيناه ما زالتا صوب الضريح، حتّى انطلق لسانه بكلماتٍ بسيطة لكنّها نابعة من أعماق القلب:
ـ أشْكِرك يابو فاضل، والله هاي مِن شِيمتك، وآنه كلّش ممنون منك.. رايح لكنْ ما أنسَه فضلك.
وخرج من الحرم الشريف بمعيّة زوجته وابنه المشافى، وكانت خطاه رصينة مطمئنة، تحفّ به البهجة والسرور بما نال، وكأنّه امتلأ إكباراً لصاحب الكرامات الرحيمة.