سوريا ولعبة الابتزاز





دشنت الغارات الجوية التي تشنها قوات التحالف الدولي على الجماعات «الجهادية» في سوريا مرحلة جديدة من الانخراط في الحدث السوري،




حيث أصبح جُل المعنيين بالصراع القائم في بلاد الشام يعملون على تغيير الوقائع على الأرض بشكل مباشر، بعدما اكتفى بعضهم في السابق بمساعٍ غير مباشرة لتحقيق هذا الغرض، عن طريق الضغط السياسي والتحريض والتسليح والعمل الاستخباري وتسهيل حركة المقاتلين، المناوئين للسلطة في دمشق كما المساندين لها.

ومع دخول الحملة العسكرية على التنظيمات المتطرفة أسبوعها الثاني، بدأت تظهر محدودية نتائج الضربات الجوية والحاجة إلى قوات مقاتلة على الأرض لإنجاز ما يعجز عن تحقيقه سلاح الجو والصواريخ بعيدة المدى. وانخرطت دول المنطقة في لعبة عض أصابع وابتزاز، مطلقةً بذلك مساراً من التنازع حيناً، والمفاوضات غير المباشرة حيناً آخر، على مرحلة ما بعد «داعش» وأشباهها، برغم علمها أن القضاء على التنظيمات «الجهادية» المستهدفة يستلزم سنوات على الأرجح.
وتسعى كل من تركيا وإيران، في هذا الإطار، إلى تأكيد الحاجة إليهما من أجل الوصول بالأزمة السورية إلى مستقرٍ، يضع حداً للفوضى الإقليمية المتمادية ولقلق الغرب من وصول شظاياها إلى دياره.
تستفيد تركيا من حدودها المديدة مع سوريا كي تفرض نفسها رقماً لا يمكن تجاوزه. وتدري أن واشنطن تحتاج منها إلى القيام بحزمة من الإجراءات الضرورية من أجل تحصيل نتائج على الأرض، تبدأ بخنق «الجهاديين» وقطع أوردتهم وإمداداتهم، وتصل، نظرياً، إلى تأمين الشروط اللوجستية لانطلاق جيش معارضة «رديف» من أراضيها، وإلى مؤازرته بالغطاءين الجوي والمدفعي اللازمين، في حال اكتمال العناصر المساعدة على إعلان «ساعة صفرٍ» لاجتياح مناطق في الشمال السوري، وهو ما يبدو متعذراً حتى الآن، نظراً لتماسك «الجهاديين» وغياب «جيش رديف» يعوّل عليه.
أما إيران، فتطمئنّ إلى امتلاكها كماً من الأوراق التي يصعب تخيّل حلٍ من دونها، وهي تبدأ من حلفائها في حكومة بغداد المركزية، مروراً بالدولة السورية والمقاتلين إلى جانبه في بلاد الشام، وصولاً إلى «حزب الله» و«الجهاد الإسلامي» على أبواب تل أبيب، والحوثيين عند خاصرة الرياض الرخوة جنوب الجزيرة العربية. وهي تدري، بدورها، أن واشنطن معنية بإرساء توازنات تسمح بالاستقرار في الشرق الأوسط، وأن تأسيس نظام إقليمي لا يقوم على توازنات تأخذ في الاعتبار أحجام القوى الراهنة وفعاليتها، وصفةٌ لمزيد من الفوضى التي تَدًخّل الغرب أصلاً من أجل وضع حدٍ لها، قبل استفحالها وخروجها عن سيطرة لاعبي الإقليم وحدود هذا الإقليم.
في المقابل، آثرت دول الخليج - كعادتها - الالتحاق بركب التحالف الدولي من غير شروط مسبقة، معوّلة على رغبة الغرب بالاستفادة من الغطاء المعنوي والعائد المادي الضخم الذي يؤمنه هذا الالتحاق، أولاً لناحية تأمين مشاركة إسلامية في الحرب المتجددة على الإرهاب، وثانياً لجهة تغطية تكاليف الحملة العسكرية (مباشرة أو عبر صفقات لاحقة)، وما يعنيه ذلك من تنشيط لحركة الإنتاج في المجمعات العسكرية الصناعية، في الولايات المتحدة وسائر الدول الأوروبية الكبرى. وتسلّف دول الخليج بذلك دفعة للغرب، تأمل في مقابلها بتحسين وضعها ونفوذها في التشكيل الجديد للمنطقة.
والاستثمار السياسي في صفقات التسلح هذا واحدٌ من أعمدة الإستراتيجية «الدفاعية» لهذه الدول، حيث الدفع يكون من أجل طلب الحماية في العادة، لا من أجل استخدام السلاح التي رُصدت من أجله الميزانيات (استخدامه رمزيٌ في المعركة السورية الراهنة). ويشير «معهد استوكهولم الدولي لدراسات السلام»، على سبيل المثال، إلى ارتفاع نسبة الإنفاق السعودي على التسلح بين عامي 2012 و2013 (إبان الأزمة السورية) بنسبة 14 في المئة، ليصل في العام الماضي (2013) إلى 67 مليار دولار، ولتتقدم المملكة إثر ذلك إلى المرتبة الرابعة عالمياً من حيث حجم الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا، متفوقة على فرنسا وبريطانيا.
ينطلق اللاعبون الإقليميون من المعطيات المذكورة للمساومة على أدوارهم في الشرق الأوسط الجديد. وتبدو الحرب على «داعش» وأقرانها، من هذه الزاوية، مجرد محطة أو معبر إلى ما يتجاوزها. وهي، لذلك، تشكل فرصة ثمينة لكل منهم من أجل استعراض ما لديه من أوراق قوة وقدرة على توظيف خدمات، بهدف تحصيل مكاسب في الإقليم المتشكل.
ويحاول اللاعبون الإقليميون بذلك مجاراة الدول الكبرى في لعبة الابتزاز القائمة بين أركان النظام العالمي، على مستوى أكبر ونطاق أوسع. فاستناداً إلى منطق مشابه، تدري واشنطن أن لاعبي الإقليم جميعاً يحتاجون إلى ثقلها الدولي من أجل وضع حدٍ للكرة «الجهادية» المتدحرجة في المشرق، والتي، وإن قصمت قوس التحالف مع إيران في سوريا والعراق، إلا أنها باتت أيضاً تهدد أمن الخليج وتنذر بعمليات استقطاب واسعة في صفوف سكانه، بقدر ما ترفع في وجه أنقرة ثلاث فزاعات دفعة واحدة، أولها انفصالية/استقلالية كردية، وثانيها طائفية علوية، وثالثها «جهادية قاعدية» لن توفر الجنوب التركي وربما مدنه الكبرى من ارتجاجاتها.
والمنطق ذاته ينطبق على سائر اللاعبين. ففي مقابل الضغظ الغربي على روسيا في أوكرانيا، تدرك الأخيرة أن ما يضعف دفاعاتها في دول «الطوق» السوفياتي السابق، هو التراجع في أنحاء العالم وتسليم بقية الأوراق في أكثر مناطقه التهاباً، وتدري أن إيران وحلفاءها يريدونها سنداً دولياً، وأن واشنطن وسائر الخصوم لن يكون بمقدورهم التورط في عراق ثانٍ وأفغانستان أخرى.
وفيما تسير الصين على حافة معضلة مشابهة لأزمة موسكو الأوكرانية، مع نمو احتجاجات هونغ كونغ التي بدأت تذكر بتظاهرات «ميدان تيانانمين» قبل ربع قرن، ومع قلقها من احتمالات التوظيف الدولي لهذه الاحتجاجات بقصد لجم اندفاعتها الخارجية، تشعر أوروبا أنها معنية بتأكيد دور اتحادها في صياغة مناطق جنوب المتوسط، حيث منبع المهاجرين الذين يعمِّقون أزمة هويتها ويهددون بتصديع أمنها.
«الحرب على الإرهاب» في سوريا عنوانٌ للعبة ابتزازٍ أطرافها لاعبون دوليون وإقليميون.
من يَثبُتُ فيها ويُثبِتُ أنه الأقدر على المناورة والأمهر في لعب الأوراق وتغيير الوقائع على الأرض، يحجُز لنفسه مكاناً مركزياً في مرحلة «ما بعد داعش»، لعشرات السنين على الأرجح.




ربيع بركات - السفير