بغداد- «القدس العربي»: لم تبق من الصور التي كان أجدادنا يلتقطونها لنا بالقرب من سوق الصفارين ببغداد سوى بعض الأواني المعلقة على حائط قديم بمنزلنا الذي بدأت جدرانه تنهار، فالزمن كفيل بأن يلتهم الطابوق الذي تراصف ليؤسس أول بيت زوجية لتلك العائلة التي توارثت أباريق نحاسية صنعت بأيدي عاملين ماهرين قبل أكثر من مائة عام.
لكننا الآن حينما نمر بسوق الصفافير لا نجد إلا بعض المطارق التي تنزل لإصلاح أواني الفقراء، وبعض الأواني المستوردة من الصين، هكذا ضاعت أوانينا ولم يبق منها سوى صور معلقة على جدران آيلة للسقوط!
لماذا أضعنا هذا السوق، وأسواق كثيرة ببغداد والمدن العراقية الأخرى، أسواق كانت تحتضن ما توارثناه من تاريخ تلك المدن، فضلاً عن فولكلورنا الذي لا نتذكره إلا حينما نعيد مشاهدة أفلامنا القديمة والألبومات التي بدأت تحترق كلما مرّت حرب على العراق وانطفأت أخرى… لا صناعات يدوية، لا أزياء، لا حكايات جداتنا، ولا المقابض التي تدفع الأبواب لندخل في عوالمنا الخاص التي لم تكن تشبهها أية عوالم؟
والسؤال الأهم: ما الذي يجعل من عادة وحرفة وطقس اجتماعي ومهن فولكلورية راسخة عند شعب ما ومن الماضي عند شعب آخر؟ وكيف يمكن ربط هذه العادة بالتحولات التي يمر بها المجتمع تبعاً للتغيرات الاجتماعية والدينية والبيئية؟
علمنة الثقافة
الدكتور محمد عطوان يشير إلى أنه مهما بلغت المجتمعات البشرية مراتب من التطور المدني فإنها لن تتناسى إحياء طقوسها وعاداتها الشعبية التي كانت تؤلف بُناها العميقة، وتحتل مكانة روحية في وعي ولا وعي أفرادها. وحيث أن منطق علاقات الإنتاج يتبدل بتبدل الزمن، فإن الرؤية للطقس والتعبير عنه وطرق تَمثُّله تتبدل هي الأخرى. لذلك نلاحظ أن المجتمع الغربي يحاول أن يعيد إنتاج الطقوس ضمن حقل نفوذ جديد هو: حقل السوق، أو بعبارة أخرى إدخال الطقس ذي المحمول الديني ضمن نمط إعادة إنتاج اللذة، وهو ما يحصل في المجتمعات الصناعية الناهضة على ثقافة الاستهلاك ومهارة ترويج السلع. لذلك ما كان يمثل طقساً في الماضي أصبح سلعة قابلة للتسويق في عالم الاستهلاك المعاصر. وخير مثال على ذلك ما يجري اليوم في كرنفالات ريو دي جانيرو البرازيلية وبرانكيبا الكولومبية ومار دي جراس في اورليانز الجديدة، وفالنسيا وقادس، وكرنفالات جزر جران كناريا الاسبانية، وفينسيا في ايطاليا… لقد كانت هذه الكرنفالات وسواها تمثل سرديات شعوب بكل ما تحمله السرديات من دلالات.
وأضاف عطوان، أن هذه الطقوس أخضعت لاحقاً، في إطار علمنة الثقافة، لنظام من الترشيد والعقلنة، بحيث لم تعد تحتل المكانة القدسية السابقة، ولم يعد إحياءها الرمزي بذاته: حافزاً على ما سواه من الرمزيات الشعبية الملحقة؛ القومية والعرقية والإثنية… بل ينتظم الطقس كله هذه المرة في جزئية تخضع لمنطق السوق، ويوَجه الوجهة التي يقترحها تقنيو السوق. أتحدث عن ذلك والحال أن هذه الطقوس أُدرِجت في عالم تخصخصت فيه الوظائف، وتعلمنت موضوعاتها، وترشدت فيه الرموز إلى الحد الذي بات فيه مسيطراً على ما هو قدسي. ويمكن أن نتبيَن ذلك في المجتمعات غير الرأسمالية أيضاً ومن جملتها المجتمعات الإسلامية التي يتمدد فيها الطقس ليطول أغلب مناحي الحياة الثقافية، ويُغطي مجاله الديني كل تفاصيل الحياة اليومية، لكنه مجتمع- إذا ما تأملنا قوانينه المادية- يخضع هو الآخر لمعايير السوق آنفة الذكر، إذ توجد مصلحة اقتصادية- دينية يجري إدارتها باحتراز كبير على الرغم من انكشاف مقاصدياتها. الفرق بين هذه المجتمعات والمجتمعات الصناعية الغربية هو الفاعلية الدينية الطاغية للطقس على ما سواها، والتي تحيل ما هو مادي سافر بدرجة كبيرة إلى معنى يتلبس لبوساً دينياً.
قطائع مع الماضي
ودائماً ما يراود الكاتب عمار السواد هذا التساؤل حين يقارن بين الشام وبغداد، لماذا تحتفظ دمشق بقلعة صلاح الدين الأيوبي وكأنها أنشئت بالأمس، وتخسر بغداد مراراً مدرستها المستنصرية؟ بالطبع إن المستنصرية موجودة، لكنها ليست العباسية، بل بقايا ملامح من بناء عثماني، تحمل الاسم العباسي لكن زواياها كافة عثمانية أو فيها شيء من العثمانيين وما بعدها، هذه المدرسة العريقة التي تعود لبغداد عندما كانت عاصمة الدنيا وشاغلة الناس صورة عن طبيعة الثقافة الشعبية والموروث البغدادي بشكل عام.
السواد ابن مدينة البصرة، يتحدث عن عاداتها، قائلاً: «كانت عاداتنا أن نلعب «الخرز» قرب جدران المنازل الكبيرة، بينما لا أجد هذا اليوم عندما أزور المدينة، لا أجد الأطفال مشغولين بتلك اللعبة ولا بسواها، لعبة البنات والأولاد سوياً اختفت، الدين هناك دخل عنصراً في خلق الطبائع.. لذا فإن الدين، السياسة، الظروف الاجتماعية والاقتصادية تعيد إنتاج العادات بطريقة مختلفة، تمحوها وتعيد إنتاج سواها… عندما نتحدث عن غياب بعض الملامح التراثية، المنحوتات، الرغبة السياسية بالعودة من نقطة الصفر ومحو ما سبقها، فإنا نتحدث بالضرورة عن طبيعة مجتمعية، سياسية أو دينية بخلق قطائع مع الماضي وهذا يشمل العادات». وبيّن السواد أن القرارات السياسية والمحرمات الدينية ربما تصنع موانع مباشرة وصريحة وسريعة بقطع مع بعض ما لا تراه مناسباً، لكن بالتأكيد أن لدى المجتمع بفعل السياسة والدين وبفعل طبيعته القائمة على النسيان، أو انطلاقاً من حالة غضب على ماضيه، غضب غير معترف به، يبدأ بالتخلي عن واقعه القديم وصناعة آخر، وبالتأكيد هو لا يتطور، لكنه يهرب نحو تفصيلات جديدة، مع امتلاك ذات الذهنية والثقافة، فيغير ملامحه ويبقى يحمل في الجوهر أخطائه.
التأثير الديني
لكن بعض الطقوس تصبح لدى شعب من الشعوب مقبولة متى ما تحولت من صيغتها الأولى التي قدمت بها إلى شكل آخر، بحيث تبدو مقبولة لدى هذه الجماعة، حسب ما يرى الروائي حميد الربيعي، مضيفاً أن عملية القبول تخضع إلى معاير زمانية ومناخية معينة تختلف بين فترة وأخرى وبين مجموعة وأخرى، على أن يحدث فيها تحويل معين لتتبدل كلياً أو جزئياً عن شكلها الأول، هذا التغير يهدف بالدرجة الأساس إلى الملائمة مع طباع الناس وأمزجتهم العامة، وقد يحدث هذا التغير مرة واحدة أو على شكل دفعات، يتولى كل جيل تغييراً مناسباً. «عند بعض الجماعات تنقلب الصور كلياً وعلى نحو مضاد عما كانت عليه في الأصل، أي تؤخذ الفكرة العامة ثم يتم البناء الجديد عليها وهذه تحدث عندما ينقلب الشعب على نمط عاداته، بأن يتحول من الحزن إلى الفرح، والتحول الذي نقصده قد يكون وافداً من خارج الجماعة كما يحدث الآن بسبب توفر وسائل الاتصالات». في بعض الأحيان يحدث التغير لمرحلة معينة ثم يختفي أو يعود إلى أصله إن لم يختف من حياة الناس، وهذه مرده إلى قوة التأثير الديني ودرجة التغيير التي طرأت عليه، مما يعني أنه لن يكون متأصلاً، لذا ينسى بعد مرحلة زمنية. وفي الغالب تتحكم بهذا الموضوع عدة عوامل، لعل أبرزها هو درجة وعي الناس بالمتغيرات ودرجة تحضرهم، وهل هم أبناء حضر ومراكز بشرية ثابتة أو متغيرة، بالإضافة إلى الصراع الوجداني بين الدين والحياة الاجتماعية.
رأسمال ثقافي
يتحدث الدكتور عامر عبد زيد عن مفهوم الطقس قائلاً إنه بوصفه قد اتخذ شكل عرض في الحضارات القديمة، إذ ارتبط برهان احتفالي صيغت طقوسها بشكل تمثيليات، هذه الطقوس التي تطورت من طقوس عبادة إلى مظاهر فنية مستقلة كان يبدو جلياً فيها تعاون وجمع الفنون السبعة. قي وقت كان الفولكلور هو مجموعة الفنون القديمة والقصص والحكايات والأساطير المحصورة بمجموعة سكانية معينة في أي بلد من البلاد. ويتم نقل المعرفة المتعلقة بالفولكلور من جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفهية غالباً، وقد يقوم كل جيل بإضافة أشياء جديدة أو حذف أشياء لتتوافق في النهاية مع واقع حياته التي يعايشها، وهذا الإبداع ليس من صنع فرد ولكنه نتاج الجماعة الإنسانية ككل في مجتمع ما. هنا «يمكن أن نرصد أن هذا النمط من الرأسمال الثقافي مرتبط إلى حد بعيد بهوية الأمة بوصفه ذاكرتها الحية ورهانها الوجودي الذي يعبر عن مخزونها الرمزي الذي تتجلى من خلاله رؤيتها للكون وطبعة تجاربها والعلاقات التي تقيمها الجماعة فيما بينها من خلال ذلك التراث الحي النابع من الشعب والمتداول بين أوساطه وفئاته، والذي يشمل القصص الشعبية والأغاني، التي تدور على ألسنة العامة، والأمثلة السائدة عند الناس، والأناشيد والأساطير والأحاجى والألغاز الشعبية، والحكم المتداولة، ودعوات الناس وتمنياتهم، وما يجرى على ألسنتهم من تعبيرات معينة في المواقف والمناسبات المختلفة».
إيمان جمعي
يوضح السينمائي حسين السلمان أن ضياع الهوية الوطنية حالة تدخل ضمن مسارات حركة المجتمع التي كثيراً ما تفرز أشياء تتماهى مع الواقع الراهن، فالموروث شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، وحركة الإنسان في مواجهة الواقع، وفي مواجهة المتغيرات التي تختلف من مكان إلى مكان آخر. مضيفاً أن المتغيرات الاجتماعية أكثر ثباتاً من المتغيرات الدينية التي كثيراً ما تسقط في غيبيات تظل قائمة بذاتها، أي أنها خارج الأنظمة الوضعية التي لها تأثير كبير في حركة المجتمع. وما يمكن أن يحفظ حرفة أو طقس دون آخر عملية الصراع الذي تعيشه الحرفة أو العادة مع التطورات الحاصلة في انبعاث الثورة التكنولوجية التي طمرت الكثير من الموروث الاجتماعي، لذا فإن العديد من هذه الطقوس يأكلها التاريخ لأنها كانت حبيسة الأطر الدينية الضيقة أو أن حركة الإنسان تجاوزتها، فلم تستطع التحول إلى موروث اجتماعي قابل للتجدد والتطور مع المتغيرات الاجتماعية والبيئية، «أشير هنا إلى تحولها لتقاليد اجتماعية شعبية تتناسق وتتناغم مع التطورات الاجتماعية لتصبح جزءاً من الفاعلية الاجتماعية اليومية التي تتجذر داخل نفسية الفرد والمجتمع في ذات الوقت ولتتحول بعد ذلك إلى إيمان جمعي».
الوعي الاجتماعي
يعدّ الشاعر واثق غازي العادات والحرف والطقوس بوصفها ذخيرة (أشكال الوعي الاجتماعي)، مبيناً أنه يوجد ويظهر في أشكال الأيديولوجية السياسية والمفاهيم القانونية والأخلاق والدين والعلم والفن والفلسفة، وينقسم تجذر حرفة أو طقس اجتماعي إلى مرتبتين، وذلك حسب الشروط المحددة للاستعمال، الأولى تحول تداول الظاهرة من استعمال عام إلى استعمال موجه، وهكذا تدخل حيز الاستعمال الأيديولوجي الذي بدوره ينشئ من الحرفة أو الطقس (خطاباً عاماً) يتبلور بالتقادم إلى ممارسة شبه قارة كما هو الحال في موضوعة إعادة تصوير المآثر التاريخية، لتتحول إلى عادة فولكلورية راسخة. أما المرتبة الثانية فهي تطور الحرفة أو العادة أو الممارسات الاجتماعية بشكل عام إلى (أمثولة) تجد بُعدها الضاغط في الأعراف لدى كل البشر، إذ تتحول هذه (المسميات) إلى متبنيات قارّة في الوعي الجمعي، تمارس دورها لا شعوريّاً، وهي حاضرة بشكل واسع في عالمنا المتقدم حيث نجد أن عقولاً تتمكن من المعرفة بطيفها الواسع إلا أنها تخضع شخصياً لمعتقدات غارقة في البدائية، وسبب هذا التمسك هو وازع (الأمثولة) الذي يأخذ حيزاً مهماً في أشكال الوعي الاجتماعي.
بين الوهم والحلم
يبحث الكاتب صبيح عفوان في تعليقه على سؤالنا عن المادة الطقسية في الفولكلور، إذ إنها تكون مؤثرة في حالات معينة، أي حين تتفق وتلتحم الدوافع الخفية والسيرورات التي أنتجتها مع الدوافع التي تسيطر على مستقبليها، والأهم هو ما أنتجه المتخيل البشري من وقائع ليحقق في ذلك الانسجام النفسي. والفولكلور يتأرجح بين الوهم والحلم، ويعد وسيلة لإخضاع الواقع ليكون باعثاً للطمأنينة، وهذا ما يحصل في مجتمعاتنا بسبب الإنتاج الثقافي المنجذب للذاكرة، وهو تعويض رمزي بديل للدال اللاشعوري الخفي الذي يحرك الفرد ويجعله في دوامة الغموض ذاته. أما النكوص للحادثة التاريخية وجعلها النموذج المركزي في التعامل مع العالم الخارجي، هو بمثابة إبدال الحاضر بالماضي، حتى ليبدو المستقبل على وفق هذا الإبدال غامضاً، لان الحادثة التاريخية تحتل المساحة التي ينطلق منها الإنسان نحو المستقبل، لاسيما إن كانت هذه الحادثة المراد إحيائها تتبلور وتتناسل بعض الظواهر التي تحقق الجذب لما هو مماثل لسيرورات المكبوت المتنوعة أي المازوشية– والسادية، حتى ليبدو الإنسان بهذا الالتصاق والتماهي مع الحادثة التاريخية فاقداً ومغيبا لأناه.
صفاء ذياب/ بغداد