25/9/2014 14
00
البغ بانغ هو البداية والأصل لما سبق هل العالم الذي نعيش فيه حقیقي أم افتراضي؟
لو قيض للبشر إمكانية السفر إلى تخوم الكون المرئي أو المنظور الذي يعيشون فيه، فهل سيكتشفون أن الزمكان ممتد ومستمر إلى ما لانهاية أم إنه سيتوقف عند نقطة محددة تشكل حدوده القصوى؟ أم أنهم ربما يعودون من حيث لا يعلمون إلى نقطة إنطلاقهم كما كان حال السير فرانسيس دريك الذي قام بجولة حول الأرض ؟ يبدو أن هاتين الإمكانيتين أو الافتراضين يتواءمان ويتوافقان مع نتائج مشاهداتنا ورصدنا الفضائي، واللتان تمت دراستهما باستفاضة على مدى عقود طويلة، والحال أن الدراسات المعمقة والتجارب المختبرية والفكرية أو الذهنية والأبحاث المتخصصة أشارت إلى إمكانية أن يكون الكون لانهائي وليس له حدود.
يفترض بعض العلماء أنه فيما وراء الأفق الكوني لكوننا المرئي توجد مجرة هي نسخة طبق الأصل لمجرتنا درب التبانة وفيها نظام شمسي هو نظير لنظامنا الشمسي بنفس عدد كواكبه ومنها كوكب هو توأم لكوكبنا الأرض ويوجد على ذلك الكوكب أو الأرض الثانية نفس القارات والناس والحيوانات الموجودة على كوكبنا وهناك نسخة توأم لي ولك ولكل واحد منا يعيش على هذه الأرض ويقومون بنفس ما نقوم به من أعمال ونشاطات وربما يوجد عدد لامتناهي من الأكوان المتشابهة كقطرات الماء. فمن المحتمل أن يكون الشخص الذي يشبهني أو نسخة مني يكتب نفس هذه السطور في إحدى نسخ الأرض وآخر يكون قد أكمل تأليف هذا الكتاب وآخر متوقف عن الكتابة للراحة وآخر قد يقوم بعمل آخر ولديه تخصص آخر غير الكتابة الخ.. حيث من المستحيل إحداث اتصال بين تلك الأكوان والأراضي المتعددة إلى ما لا نهاية، وإذا كان الكون المرئي لامحدود السعة فإنه بالضرورة سيحتوي على عدد لامتناهي من العوالم المتوازية، بعضها يشبه تماماً عالمنا وبعضها يختلف عنه كلياً. وعند مواصلة رحلتنا لاستكشاف تلك العوالم المتوازية يتعين علينا قبل ذلك أن نفهم أساسيات وجوهر علم الكون "الكوسمولوجيا" وعلم البحث عن الأصول وتطور الكون باعتبار كل شامل ومطلق.
البغ بانغ هو البداية والأصل لما سبق
من هو الأب الحقيقي لنظرية الانفجار العظيم أو البغ بانغ؟ الحقيقة هم كثيرون لكن أبرزهم وأولهم هو الراهب البلجيكي جورج لوميتر الذي كان يسعى للالتقاء بآينشتين ليعرض عليه حساباته الكوسمولوجية ونموذجه الكوني الذي لم يكن معروفاً بهذه التسمية بعد.
ففي مؤتمر سولفاي الفيزيائي الذي نظم سنة 1927 قدم جورج لوميتر معادلاته لصاحب نظرية النسبية التي كان سبق أن نشرها وطورها بين 1905 و 1915، فما كان من آينشتين إلا أن يرد عليه بجملة مختصرة حفرت في ذاكرة الأجيال: "حساباتك صحيحة لكن فيزياءك شنيعة ورديئة".
فحسب معادلات وحسابات جورج لوميتر فإن الكون ظهر للوجود كحبة لامتناهية في الصغر وشديدة الكثافة والحرارة سماها لوميتر " الذرة البدائية" التي انتفخت في رحم الزمان اللامتناهي لتغدو كوناً مترامي الأطراف هو الكون الذي نرصده وندرسه ونعيش فيه اليوم.
كان جورج لوميتر قد انهى أطروحة الدكتوراه في الفيزياء سنة 1923 وأنهى في نفس الوقت دورة التأهيل في بيت القديس سان رومبو ليكرس راهبا ويرتدي الزي الرسمي لرجال الدين المسيحيين كراهب جزويت وكان صاحب النظرية الثورية الجديدة في الفيزياء البرت آينشتين قد سبق له أن أطلع على مقالة جورج لوميتر قبل بضعة أشهر وتبين له أن معالجة لوميتر لمعادلاته النسبية لا يكتنفها أي خطأ وكانت كلها صحيحة. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها آينشتين مثل هذه النتيجة في التعاطي والتعامل مع معادلاته ونظريته النسبية.
ففي سنة 1921 وجد عالم الرياضيات الروسي الكسندر فريدمان سلسلة من الحلول لمعادلات آينشتين نتج من خلالها أن المكان الآينشتيني يتمدد محدثاً توسعاً في نسيج الزمكان للكون المرئي. امتعض آينشتين في باديء الأمر من محاولة فريدمان ووصفها بأنها حسابات مليئة بالأخطاء لكنه كان هو المخطيء وقد تراجع عن هجومه على فريدمان وأعترف بخطئه لكنه ظل يقاوم فكرة أنه يمكن أن يكون لعبة بيد الرياضيين وهو لا يرغب بذلك، ومن ثم أعاد النظر في معادلاته بالاتجاه الذي يمليه عليه حدسه بشأن ما يتوجب أن يكون عليه الكون باتجاه اعتقاده الراسخ آنذاك بأن الكون ثابت وساكن وأزلي وأبدي وخالد.
وهذا ما يفسر ردة فعله السلبية إزاء أطروحة جورج لوميتر لأن الكون في نظره ثابت لا يتوسع ولن يتوسع. وبعد مرور ستة أعوام أثناء حلقة دراسية في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا كان آينشتين يستمع بانتباه شديد لجورج لوميتر وهو يقدم رؤية معمقة لنظريته التي تقول أن الكون بدأ من وميض أولي وإن مكوناته اللاحقة ما هي سوى كينونات متوهجة في محيط من الفضاء في حالة اتساع وتمدد. وفي نهاية المحاضرة نهض آينشتين وصرح أن نظرية لوميتر هي التفسير الأدق والأجمل والأكثر مقبولية للأصول الكونية التي لم يسبق له أن أطلع على أفضل منها، وهذا يعني أن أشهر عالم فيزيائي في العالم قد غير رأيه بشأن أعقد ألغاز الكون ومنذ ذلك الوقت أعتبر لوميتر الأب الحقيقي لنظرية الانفجار العظيم البغ بانغ.
النسبية العامة
إن النظريات الكونية أو الكوسمولوجية التي صاغها فريدمان و لوميتر في بداية القرن العشرين، تستند كلها على مقالة لآينشتين كان قد أرسلها لمجلة حوليات علمية ألمانية متخصصة في الفيزياء في 25 نوفمبر سنة 1915، وكانت تلك المقالة ثمرة لأبحاث مضنية في الفيزياء والرياضيات استمرت عشرة أعوام، وكانت نتيجتها هي ما عرف بالنسبية العامة وقد سبق أن نشر آينشتين سنة 1905 مقالة هي ملخص للنظرية النسبية الخاصة، وتبين للعالم أجمع أن نظريتي آينشتين النسبية الخاصة والعامة هي الأكمل والأغنى من ناحية التطبيقات العملية، ولكل ما قام به آينشتين من بعدهما من أبحاث.
فمع النسبية العامة قدم آينشتين لغة هندسية أنيقة ليعدل على نحو جوهري وشامل نظرتنا وفهمنا للجاذبية النيوتنية.
كان آينشتين قد بدأ أبحاثه حول النسبية العامة ابتداءاً من عام 1907، أي بعد عامين من طرحه لنظريتة النسبية الخاصة، في وقت كان أغلب العلماء يظنون أن الجاذبية قد أشبعت درسا وشرحاً من قبل إسحق نيوتن.
وصارت تدرس منذ عقود في كافة ثانويات وكليات العالم، ويتعلم الطلاب أن نيوتن اقترح منذ سنوات الــ 1600 قانونه العالمي الشهير في الجاذبية والذي يعرض أول وصف رياضي لقوة الطبيعة الأكثر ألفة، وكان هذا القانون صالحاً ومطبقاً منذ ذلك الوقت إلى يوم الناس هذا حتى من قبل وكالة الفضاء الأمريكية ناسا لحساب مسار المكوكات والمركبات الفضائية ويستخدمه علماء الفلك لحساب وتوقع مرور المذنبات والنيازك وحركات النجوم والمجرات.
وبالرغم من هذا الإتقان، تمكن آينشتين من اكتشاف خلل أو ثغرة في قانون نيوتن. تساءل آينشتين مع نفسه: كيف تعمل الجاذبية؟ كيف يمكن للشمس أن تؤثر على حركة ودوران الأرض التي تبعد عنها 149 مليون كيلومتر؟ لا يوجد هناك ما يربط بينهما لا توجد حبال ولا سلاسل ولا الكابلات التي توصل للأرض أدنى حركة للشمس، إذن كيف تمارس الجاذبية تأثيرها؟ من هذا التساؤل الجوهري البسيط انطلق آينشتين ليشيد صرحه العلمي المذهل.
في كتابه المباديء العامة للرياضيات الذي نشره سنة 1687، اعترف نيوتن بنفسه بأهمية مثل هذا التساؤل وإن قانونه عن الجاذبية لا يجيب عليه إلا بصمت مريب.
وكان نيوتن يعتقد بأنه لا بد من وجود شيء ما ينقل الجاذبية من مكان لآخر لكنه لم يتمكن من تشخيصه أو تحديده علمياً وترك السؤال مفتوحاً للبحث. وعلى مدى أكثر من قرنين من الزمن لم يفلح أي عالم في رفع هذا التحدي عدا آينشتين الذي ظل منشغلاً ومهووساً به طيلة عشرة أعوام ثم اقترح سنة 1915 حلاً يعتمد على رياضيات معقدة وصعبة ومتقنة ويتطلب تلاعباً حذقاً بالمفاهيم لم يسبقه مثيل في عالم الفيزياء، ولكن بطريقة غاية في البساطة كما تبدو ظاهرياً كبساطة التساؤل الأولي: ما هي الصيرورة التي تنتهجها الجاذبية أو الثقالة لكي تمارس تأثيرها عبر الفضاء رغم كونه فارغاً كما يفترض؟ إن خواء أو خلو المكان أو الفضاء المفترض هو الذي جعل الجميع بلا جواب مقنع في حين أن آينشتين افترض وجود شيء في الخلاء أو الفراغ الفضائي أو المكاني ألا وهو المكان ذاته أي ماهية المكان التي هي بطبيعتها قادرة على نقل التفاعلات الثقالية.
كانت فكرة آينشتين يمكن تلخيصها بتخيلنا بدحلة او كرة زجاجية صغيرة تتدحرج على سطح طاولة معدنية ملساء. وبما أن سطح الطاولة مسطح ومنبسط فلا يمكن للكرة الزجاجية أو الدحلة الصغيرة إلا أن تتدحرج بخط مستقيم. لو تخيلنا أن ناراً ساخنة تسببت في انتفاخات موقعية على السطح المعدني للطاولة عندها ستتبع الدحلة أو الكرة الزجاجية الصغيرة مساراً مختلفاً جداً لأنها ستوجه حسب تضاريس سطح الطاولة المنحني والمقعر والمليء بالثلمات والأخاديد والمعوقات، ومن هذا المثال أظهر آينشتين أنه يمكن تطبيقه على المكان أو الفضاء.
فالفضاء الفارغ تماماً هو مثل السطح المنبسط الذي يسمح للشيء بالتدحرج بلا عوائق أو اضطرابات أو خلل وبخط مستقيم، لكن وجود أجسام ضخمة ذات كتل عالية يؤثر على شكل الفضاء أو المكان، مثلما غيرت حرارة النار شكل سطح الطاولة. فالشمس على سبيل المثال باعتبارها جسم فضائي تخلق إنطواءات أو تقعرات وتحدبات وانتفاخات في النسيج المكاني من حولها، على غرار ما يقوم به سطح الطاولة المتحدب والمنتفخ هنا وهناك بفعل حرارة النار مما يجعله يتحكم بحركة توجيه للكرة وارغامها على سلوك مسارات متنوعة منحنية وبخطوط غير مستقيمة، فإن الفضاء المتحدب حول الشمس بفعل كتلتها الهائلة، يوجه الأرض والكواكب الأخرى ويرغمها على إتباع مسارات ومدارات خاصة بها في دورانها حول الشمس.
ينبغي أن نشير هنا إلى أن التحدب لايخص المكان فقط بل الزمان ايضاً أي التحدب الزمكاني courbure de l’espace-temps، وإن جاذبية الأرض تلعب أيضاً دوراً في مثال الكرة الزجاجية الصغيرة والطاولة لأنها ترغم الدحلة أو الكرة الصغيرة على البقاء على سطح الطاولة وعدم الطيران في الهواء فالمكان لديه ثلاثة أبعاد وهو ينحني حول الجسم وليس فقط تحته. فقبل آينشتين كانت الجاذبية أو الثقالة عبارة عن قوة غامضة تمارس فعلها ولا ندري لماذا وكيف، وذلك عبر المكان أو الفضاء وتؤثر على الأجسام فيما بينها، ولكن بفضل آينشتين صار ينظر إليها باعتبارها تشوه في المحيط الزمكاني بسبب تواجد الأجسام والأشياء ذات الكتلة المتفاوتة والمختلفة وتوجه حركتها.
كرس آينشتين سنوات طويلة وجهود حثيثة من عمره لتطوير هذه الفكرة ولكن بصيغ رياضية صارمة وتجريدية وصياغة معادلات هي في قلب نظريته والتي سميت بمعادلات مجال أو حقل آينشتين équations de champ d’Einstein والتي تثبت بما لا يقبل الجدل أن الزمان والمكان يتحدبان استجابة لوجود كتلة وطاقة، لأن هناك علاقة تفاعلية وتبادل من أحدهما للآخر، بين الكتلة والطاقة، بموجب معادلته الشهيرة: الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=mc2 حيث E تمثل الطاقة و m تمثل الكتلة و c تمثل سرعة الضوء. وأظهرت نظرية آينشتين وبدقة عالية كيف أن تحدب الزمكان يؤثر على حركة كل الأشياء التي تمر كالنجوم والكواكب والمذنبات وحتى الضوء. وتتيح لعلماء الفيزياء القيام بحسابات دقيقة وقياس كافة الحركات الكونية. وهكذا قام آينشتين بنفسه سنة 1915 باستخدام معادلات جديدة لحساب مدار كوكب عطارد الشاذ حول الشمس. وفي عام 1919 أثبت علماء آخرون منهم آرثر إيدنغتون أن الضوء القادم من النجوم إلى الأرض يتبع مساراً معوجاً أو محدباً عند مروره بالقرب من الشمس كما تنبأت بذلك نظرية النسبية العامة لآينشتين.
فما كان عليه الحال عام 1916 ليس سوى مجموعة من المعادلات الرياضية التجريدية التي افرزتها نظرية النسبية العامة، أصبح في وقتنا الحاضر تطبيقات عملية بفضل التكنولوجيا المتقدمة والمتطورة للقرن الواحد والعشرين وانصع مثال على ذلك الـ GPS أو نظام التحديد الموقعي الآني بواسطة الأقمار الصناعية الستلايت والمستخدم على نطاق واسع في العالم حتى في أجهزة الهاتف الذكية والسيارات وغيرها. وبعد نجاح وانتشار النسبية العامة واثبات صحتها بالمشاهدات والتجارب، قام آينشتين بتطبيقها على الكون المرئي برمته.
ففن الفيزياء النظرية كما يقول آينشتين، يكمن بتبسيطه للأشياء الأكثر تعقيداً، مع الاحتفاظ بالجوهر الفيزيائي سليماً وتسهيل تحليله رياضياً. ومن هنا اختلق آينشتين إطاراً مبسطاً يفتتح فيه فن وطريقة عمل علم الكونيات النظري La cosmologie théorique.
كانت المعطيات الكونية في زمن آينشتين ضئيلة فكان الكثير من العلماء يشكون حتى بوجود مجرات أخرى غير مجرتنا درب التبانة التي اعتبرها الكثيرون هي الكون فحسب. وكانوا يعتقدون أن الكون متشابه أو متماثل في جميع أطرافه ومتجانس في محتوياته ومكوناته الفيزيائية وهو الأمر الذي عرف بالمبدأ الكوسمولوجي Le principe cosmologique، الذي يقول،: لو درسنا أي جزء من الكون المرئي وتحققنا من صحة استنتاجاتنا يمكننا عند ذلك تعميم نتائجنا على الكون المرئي برمته. مما يعني أن من حقنا تطبيق معادلات النسبية العامة في دراستنا للكون المرئي كله، فبفضل التشابه والتجانس والتماثل المفترض للكون المرئي المعروف باسم l’uniformité، يمكننا حصر دراستنا بجزء من الكون المرئي القابل للرصد والمشاهدة بأجهزتنا، وتطبيق معادلات النسبية لتعميم النتائج على الكون المرئي برمته، دون الحاجة لدراسة كل كوكب وكل منظومة شمسية وكل مجرة على حدة.
يتميز حجم معين من الفضاء الشاسع بمحتوياته، أو بتعبير أدق، بكمية ما يحتويه من مادة وطاقة، وكثافة تلك المادة والطاقة في هذا الحيز المحددة من الكون المرئي حيث تقوم معادلات النسبية العامة لآينشتين بوصف المتغيرات في هذه الكثافة في زمن محدد ومكان محدد من الكون المرئي أو في الزمكان الكوني الموجود داخل ذلك الحيز الزمكاني المختار من الكون المرئي، ولكن لا يمكننا القيام بذلك بدون اعتماد المبدأ الكوسمولوجي المشار إليه أعلاه، لأنه بدون هذا المبدأ لن يكون بوسع معادلات آينشتين العشرة الشهيرة في نسبيته العامة أن تقدم أية حلول لأنه سيكون من الصعب جداً، إن لم نقل من المستحيل، تحليلها. وفي إطار مبدأ تماثل وتجانس وتشابه أجزاء الكون المرئي، الذي اعتقد به آينشتين وكتب بموجبه تلك المعادلات، فإن الرياضيات ستتساهل وتصبح المعادلات العشرة معادلة واحدة بفضل المبدأ الكوسمولوجي، فالتعقيد الرياضي للمادة والطاقة الكونية الهائلتين سيتشتت حينئذ داخل الكون المرئي. ولكن بمرور الوقت، عندما أمعن آينشتين النظر في معادلاته، عثر على نتيجة رياضية غير مريحة في نظره. فالنظرة الفلسفية والعلمية في زمنه بدايات القرن العشرين كانت تعتبر الكون ليس فقط متجانس ومتشابه أو متماثل فحسب بل وأيضاً ثابت ومستقر ودائم لا يتحرك ولا يتغير. وكان آينشتين مؤيداً لهذه الرؤية للأشياء لكنه أكتشف بأسى وقلق أنها تتناقض مع جوهر نظريته النسبية العامة في حالة التعمق في دراسة وتحليل معادلاتها. فالحسابات التي أجراها أظهرت له أن كثافة المادة / الطاقة لا يمكن أن تكون ثابتة على مر الزمن فهي تزداد أو تنخفض لكنها لا يمكن أن تظل مساوية لنفسها.
ومن حساباته الجديدة استنتج آينشتين أنه لا توجد قوة خارجية تعادل قوة جاذبية الثقالة، وبالتالي فإن نظريته النسبية العامة، بتطبيقها على الكون برمته، أظهرت له أن الكون لا يمكن أن يكون ساكناً وثابتاً وغير متحرك. فنسيج الزمكان يتمدد أو يتقلص وإن حجمه لا يمكن أن يبقى ثابتاً. فلو اخترنا حيزاً زمكانياً من الكون المرئي بسعة مائة مليون سنة ضوئية من هذا الجانب اليوم، سنكتشف أنه لا يمكن أن تبقى نفس السعة بمائة مليون سنة ضوئية في جانب آخر غداً، فإما أن يغدو هذا الحيز أكبر وكثافة المادة / الطاقة تنخفض، أي سيكون للمادة مكان أكبر في الحيز الأكبر سعة، أو أن يغدو هذا الحيز أصغر وتكون الكثافة للمادة / الطاقة أكبر، لأن المادة ستتكدس أكثر داخل حيز مكاني أصغر، أي كلما كبر الحيز الزمكاني كلما قلت الكثافة للمادة/ الطاقة، وكلما صغر الحيز الزمكاني كلما ازدادت الكثافة للمادة/ الطاقة. صدم آينشتين بهذه النتيجة وتوجب عليه أن يغير رأيه ويعلن أنه لا بد أن يكون الكون المرئي متغيراً بسبب تغير نسيجه الزمكاني وبالتالي فإن الكون الساكن والأزلي الثابت الذي اعتقد به آينشتين للوهلة الأولى لم يعد موجوداً وحل محله الكون المتسع والمتغير الذي، في هذه الحالة لا بد أن تكون له بداية ما ونهاية ما. ولقد اتضح بما لا يقبل الشك أن الخواص الهندسية للفضاء حسب مباديء ورياضيات النسبية العامة، ليست مستقلة عن المادة أو الطاقة، حيث الطاقة شكل من أشكال المادة، وبالتالي فإن المادة/ الطاقة تحدد خواص هندسة الفضاء. بعبارة أخرى لا يمكننا دراسة البناء الهندسي للكون المرئي ما لم يتوفر لدينا مسبقاً معرفة بحالة المادة وكمية المادة وتوزعها كأساس للدراسة. ولكن هل المادة المعنية هنا ساكنة أم متحركة؟ إذا أخذنا بالحسبان أن المادة/ الطاقة تتأثر بشدة بقوة الثقالة أو الجاذبية، فسيكون لتوزيع المادة تأثير على الخواص الهندسية للكون مما يجعل هندسة الكون حتماً ليست إقليدية. فالتقديرات الحسابية أو الرياضياتية تظهر أن كثافة المادة في كون شبه إقليدي لا بد أن تكون صفراً وبذلك لا يمكن أن يكون مثل هذا الكون مأهولاً بالمادة في كل أجزائه فلا بد والحال هذه أن يكون للمادة متوسط كثافة يختلف عن الصفر مهما كان هذا الاختلاف طفيفاً عندها لا بد أن يكون الكون غير إقليدي بل ولا حتى شبه إقليدي. ويستنتج آينشتين حسب ما قدمته له حساباته الرياضياتية ومعادلاته في النسبية العامة أنه إذا انتظم توزيع المادة/ الطاقة فإن الكون يكون بالضرورة كروياً أو ناقصاً سنعود لاحقاً لدراسة فرضية الشكل الكوني ولما كان توزيع المادة في الكون المرئي ليس منتظماً فإن الكون الحقيقي ينحرف في أجزائه الفردية عن الكروي بمعنى آخر أنه سيكون شبه كروي لكنه سيكون بالضرورة غير منتهياً أي لا حدود له، إذ أن النظرية تمدنا بعلاقة لها معادلات رياضية تربط بين التمدد الفضائي أو الزمكاني ومتوسط كثافة المادة فيه.
لم يكن الأمر سهلاً بالمرة على عالم من قامة آينشتين وكان لابد له في محاولة يائسة أن يشوه معادلاته الأنيقة والرائعة ليجعلها تتلائم وتتوائم مع كون متماثل وساكن أو ثابت، فاقترح الثابت الكوني لكن ذلك لم يسعفه كثيرا واعتبره فيما بعد من أكبر أخطائه العلمية في حياته كلها. وبهذا الصدد يقول آينشتين:" لقد كانت نظرتي الأولى لهذا الموضوع تستند إلى فرضين، الأول يقول أن هناك متوسط كثافة للمادة في كل الفضاء وهو واحد في جميع أجزاء الفضاء ويختلف مقداره عن الصفر، والثاني يقول أن اتساع الفضاء أو نصف قطره مستقل عن الزمن. وتبين لي في حينها أن هذين الفرضين منسجمان حسب معطيات النسبية العامة ولكن بعد إضافة حد افتراضي إلى معادلات المجال. وهو حد لم تكن النظرية النسبية العامة في حد ذاتها بحاجة إليه كما لم يكن يبدو من وجهة النظر النظرية طبيعياً، فالحد الكوني في معادلات المجال أقحم من قبلي على نحو قسري. أما الفرض الثاني فقد بدا لي لا مفر منه في ذلك الحين لأنني اعتقدت أنني يمكن أن أتعرض لمزاعم لا نهاية لها لو أبعدته أو أسقطته من الحسابات".
وفي نفس تلك الحقبة في عشرينات القرن الماضي، أثبت عالم الرياضيات الروسي فريدمان أننا يمكننا الاحتفاظ بالفرض الأول دون الحاجة إلى إدخال أو إقحام الحد الكوني المتكلف في معادلات المجال للجاذبية أو الثقالة، إذا كنا على استعداد للتخلي عن الفرض الثاني، بتعبير آخر أن معدلات المجال الثقالي الأصلية تقبل حلاً يتوقف فيه نصف قطر الكون المرئي على الزمن، أو ما يسمى تمدد الفضاء أو المكان. واتفق آينشتين مع وجهة نظر فريدمان ونظريته القائلة بحتمية تمدد الفضاء حتى قبل إثباتها من قبل عالم شهير آخر هو هابل أثناء دراسة هذا الأخير لخطوط الطيف الضوئي القادم من السدم والمجرات والنجوم البعيدة، ولا يمكن تفسير هذا الأمر، أي تباين الطيف الضوئي بين الأحمر و الأزرق، إلا وفق مبدأ دوبلر، أي اعتباره تفسيراً لحركة تمدد بين النجوم كما تستوجبه معادلات الثقالة أو الجاذبية وفق نظرية فريدمان، أي أن اكتشاف هابل جاء تأييداً لنظرية فريدمان وحث آينشتين على قبول النتيجة وتغيير رأيه ونظريته للكون الثابت والساكن والأزلي.
الكون إذن متحرك وليس ساكن، بقي أن نعرف ما إذا كانت الحركة نسبية أم طلقة، منتظمة أم عشوائية، ولقد بينت النسبية الخاصة والعامة أن كل حركة هي نسبية بالضرورة، وهي حركة دورانية، وما الاتجهات التي حددها الإنسان مثل يمين ويسار وشمال وجنوب وشرق وغرب وفوق وتحت ليست سوى دالات وضعها البشر واصطلاحات هندسية لا وجود لها في هذا الكون المرئي أو المنظور خاصة إذا تعاطينا مع الأبعاد الكونية الأخرى الخفية عن الواقع الملموس.. ومن هنا تخيل آينشتين إمكانية وجود كون منته لكنه غير محدود، أي لا يتمتع بحدود فاصلة بينه وبين شيء آخر. كما تبين أننا لا يمكن أن نفصل المكان عن الزمان، ولقد عبر العالم الرياضي وصديق آينشتين ودعامته الأساسية في مجال الرياضيات هيرمان منكوفسكي عن هذا الموضوع قائلاً: لن يكون هناك بعد اليوم مكان وزمان مستقلان أحدهما عن الآخر، إذ سيفدان منزلتهما وسيتحولان إلى شبحين باهتين فهما متحدان وسيعطيان باتحادهما معاً كائناً جديداً هو وحده من سيكتب له البقاء وسيظل محافظاً على استقلاليته." وهذا الكائن الكوني الجديد هو الذي أعطاه آينشتين مصلح الزمكان L’éspace-temps.
هنالك ثلاثة أبواب رياضية للنسبية العامة، الأول يصف هندسة الزمكان، التحدبات والتقعرات وهو التجسيد الحقيقي للثقالة أو الجاذبية، الثاني يصف توزع المادة/ الطاقة عبر المكان الكوني أي مصدر الثقالة والسبب الكامن وراء حدوث التحدبات والتقعرات، وقد جهد آينشتين خلال عقود لوضع المعادل الرياضي والمعادلات الرياضية لهذين البابين وأهمل الباب الثالث الذي لا يقل عنهما أهمية من الناحية الرياضياتية mathématiquement وقيمته الفيزيائية أكثر جلاءً. فعندما رفع آينشتين من شأن المكان والزمان ووضعهما بمصاف المشارك الديناميكي الجوهري في انبثاق وبروز أو ظهور الكون المرئي قامت النسبية العامة بتحويلهما من مجرد أداتين بسيطتين يتيحان لنا معرفة متى وأين تحدث الأشياء إلى كائنين فيزيائيين يتمتعان بخصائص جوهرية وذاتية. فإن الباب الثالث يمنح الزمكان الصفة الكمومية التي تؤثر على الثقالة أو الجاذبية، أي تحديد كمية الطاقة المتضمنة داخل الزمكان نفسه سواء كانت طاقة مرئية أو مظلمة ومعتمة أو سوداء غير مرئية. فكما أن كل متر مكعب من الماء ينم عن كمية معينة من الطاقة يمكن تلخيصها من خلال درجة حرارة الماء، فإن كل متر مكعب من الفضاء أو المكان يحتوي على كمية من الطاقة كان ينبغي الكشف عنها وصياغتها رياضياً في الباب الثالث الذي أهمله آينشتين. فلم يشر آينشتين في مقالته الأولى عن النسبية لهذا الباب الثالث وهذا يعني أنه من وجهة نظر رياضياته منحه قيمة صفر أو تعمد أن يقصيه من حساباته لأنه لم يكن يرغب بالنتيجة المتوقعة منه. ولكنه أرغم على مراجعة حساباته عندما اتضح له عدم توافقية وموائمة النسبية العامة مع أطروحة الكون الساكن والثابت، واضطر لإعطائه قيمة إيجابية تزيد عن الصفر مما يعني تزويد الفضاء أو المكان بطاقة إيجابية متساوية و متساوقة ومنتظمة، واكتشف آينشتين بأن كل منطقة في الكون المرئي سترفده بقوة نابذة أو طاردة أشبه بالمضاد للثقالة أو الجاذبية، وتعادلها، وأطلق على هذه القوة مصطلح الثابت الكوني كما أسلفنا أعلاه. الذي يتمتع بقيمة إيجابية أو رقم قابل للتغير. فلو كان الكون يمتلك ثابتاً كونياً ذا قيمة رقمية صحيحة، أي أن للمكان الكمية الكافية من المادة الذاتية التكوين، عندها سيتطابق تصوره السابق عن الكون الساكن والثابت مع نظريته عن الجاذبية أو الثقالة لكنه لم يتمكن من تقديم تفسير لماذا يمتلك المكان أو الفضاء الكمية اللازمة بالضبط من الطاقة لضمان التعادل والتوازن بين الثقالة الجاذبة والثقالة النابذة أو الطارد أو مضاد الثقالة، لكن ثابته الكوني لم يصمد طويلاً وسرعان ما انهار وبات عليه أن يعترف بقصور نظريته وعدم توافقها مع مبدأ التوسع والتمدد الكونيين.
د جواد بشارة
PUKmedia