الفـــــــن عبر العصــــــــــور
الفن البدائي
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون الرائع بجماله وما حواه من طبيعة فاتنة ، وألوان وظلال وأشكال ، وتقلب بين الفصول على مدار العام من صيف وخريف وشتاء وربيع ، خلق فيه الإنسان وأمره بالتفكير والنظر والتأمل في هذا الإبداع الرائع . ومنذ تلك الأيام والإنسان يحاول أن يفرغ شحنات نفسه وطاقاته وأحاسيسه وشعوره لما يرى ويبصر ، كما إن في نفس الإنسان منذ ولادته حاسة جمالية متأصلة فيه ، ومميزة له ، تلك هي الطاقة الروحية المتأججة في صدره ، وهي التي تجعله يؤمن بما للفن من أثر صالح ، وشحذ للأذواق ، وبسط لمظاهر الجمال ، فيستجيب لندائه الروحي ويفيض قلبه لتمجيد الخالق الذي أبدع هذا الكون . والذي يميز الفن إنما هو عنصر العاطفة واندماج الوجدان في العمل الفني حيث يحدث إحساسًا مريحًا ونشوة روحية رائعة تسمو بالفنان من دائرة حياته اليومية ، إلى حياة سامية متجددة تبعث على تنشيط روحه وتطور في خياله وفكره ، ولكل إنسان رؤية فنية وإحساس خاص به ومشاعر خاصة ووجهة نظر في الرؤية في جمال الأشياء .كل ذلك دفع الإنسان إلى المحاكاة وتقليد وتخليد الرؤية فما كان منه إلا أن حفر على الصخر نقوشًا عبر فيها عن مكنوناته كوسيلة للتعبير بها عن حياته ، بفطرته وحبه للجمال كما صور على جدران الكهوف التي سكنها في البدء صراعاته اليومية مع حيوانات البيئة المتوحشة إلى جانب بعض الرموز تزين مسكنه وأدواته .
التصوير المصري القديم
يعتبر الفن الفرعوني فن وثني تناول مظاهر الحياة في ذلك العصر من صناعة وزراعة وتجارة ورياضة وحروب ...إلخ ، كما عالج كثيرًا من القضايا الدينية ، فكان أسلوبه يمتاز بالدقة والجرأة والصراحة في الخطوط وجمال التكوين وروعة الألوان وصدق التعبير ، والمجال الرئيسي له على حوائط المقابر والقصور ، لذلك كان مرتبطًا بعمل المهندس والنحات ، وفي الدولة القديمة كان التصوير يعتبر تابعًا للحفر البارز أكثر مما هو تصوير مستقل .
وفي الدولى الوسطى بدأ المصور يهتم بالتصوير على الحوائط مباشرة ، وقد عالج بغزارة مناظر الصيد والولائم والعمل في الحقول وتقديم القرابين وغيرها ، وعبر عن المسافة أو العمق بوضع الجزء البعيد فوق القريب ، وقد اهتم بالمظهر الفكري المعبر دون اعتبار للمنظور مما مكنه من الوصول إلى مستوى رفيع له في هذا الميدان . التصوير في عهد إخناتون اتجه متحررًا نحو الطبيعة ، ففي قصره بتل العمارنة ، نرى في زخرفة أرضية إحدى الحجرات صورًا تمثل بركة ماء محاطة بمناطق للنبات ، البركة في الوسط فيها أسماك وطيور ونباتات مائية ، ويحيط بها أرض المستنقع ، وفيها طيور المستنقعات المحلقة وخلف ذلك المرعى التي تمرح فيها العجول ، وفي تل العمارنة ، وصل المصور بطريقة تلقائية إلى الكشف عن مجال جديد للناحية البصرية في التعبير عن الأشياء . وفي عهد توت عنخ آمون ، استمرت التقاليد القديمة في التصوير بعد أن تخلص الكهنة من اتجاهات تل العمارنة المتحررة وأنتج الفنانون صورًا توضيحية عن الأثاث .
وجاءت بعد الحضارة الفرعونية حضارات عدة كالفن اليوناني ، الإغريقي والروماني ثم القبطي المسيحي ثم الفن الإسلامي .
التصوير الإغريقي
( من العصر المبكر حتى القرن الخامس ق.م 1100-400 ق.م )
ننشأت مدرسة التصوير الإغريقي وتطورت ، حيث مرت في الدور الهندسي ثم الاصطلاحي التقليدي ثم الطبيعي ، ومعلوماتنا مستمدة من الصور المرسومة على الأواني ، ومن تلك التي نقلها الرومان ، أما الصور الأصلية فقد ذهبت جميعها بما فيها الصور الجدارية التي كانت تزين المباني العامة . ومن المصورين المشهورين المعاصرين ( لفيدياس بوليجنوتس ) في القرن الخامس ق.م وقد عبر عن البعد الثالث بوضع الأشخاص فوق بعضها وبألوان محدودة .
التصوير البيزنطي ( 330 - 1453 م )
لم يبقى منه إلا بعض الصور الصغيرة تمثل المسيح والقديسين ، أما صور الفسيفساء فكثيرة في جميع الكنائس البيزنطية ، ونجد صورتين لهما شهرة خاصة في كنيسة ( سان فيتال ) بمدينة ( رافنا ) بإيطاليا ، إحداهما تمثل الإمبراطور ( جستنيان ) مع كبار مملكته ، وأخرى للإمبراطورة ( بيوذورا ) وحاشيتها من النساء ، وهما من أجمل ما صنع بالفسيفساء في الفن البيزنطي .
التصوير في الفن الإسلامي
ظهر الفن الإسلامي مع ظهور الإسلام وتكون بسرعة ، ثم لم يلبث أن تطور وأخذ أشكالًا متنوعة ، وبقى مع ذلك محافظًا على شخصية موحدة لا يمكن معها الحديث عن علاقة هذا الفن بغيره من الفنون ، ولقد ولد الفن الإسلامي على أرض دانت بالإسلام ، وكما أن المسلمين الأوائل احتفظوا بمورثاتهم اللغوية والأخلاقية ، كذلك احتفظوا بتقاليدهم الإبداعية التي كانت أساسًا في صناعة الفن الإسلامي الجديد ، " عمارة وزخرفة وخطًا فنيًا " . إن الفنانين الإسلاميين قد استوعبوا جيدًا أبعاد العقيدة الإسلامية وكانوا من سكان أرض صنعوا الفن في سوريا وإيران ومصر والمغرب قبل دخول الإسلام إليهم ، فإذا كانت ثمة استمرارية في شكل الفن وأسلوبه ، قد بدت في فنون فجر الإسلام ، فإن ذلك يعود إلى أؤلئك المخضرمين الذين حافظوا على أصالة فنهم ، وتطور بعد ذلك مع نمو العقيدة الإسلامية في عقول المؤمنين ونفوسهم ، ولم يمض وقت طويل حتى ابتدأ الفن الإسلامي بالتكون المستقل عن الخلفيات الفكرية والفلسفسة التي كونت الفنون السابقة للإسلام ، لتكون مرتبطة بمبادئ العقيدة التي لم تعد مجرد تعاليم دينية ، بل أصبحت فكرًا جديدًا مصدره الأول الشريعة الإسلامية ، وروافده المتجددة هي مدارس الفلسفة الإسلامية .
وقد امتازت الفنون الإسلامية بالتالي :
1_ الاتجاه إلى عناصر غير العناصر الآدمية والحيوانية ، وصارت تنسب إليهم الأرابسك .
2_ مراعاة استبعاد الكائنات الحية والاتجاه إلى زخرفة المساجد والمصاحف .
3_ لم يتعرض التصوير الذي ازدهر عند الفرس والهنود والأتراك للموضوعات الدينية إلا نادرًا .
4_ زاد الاهتمام بالخطاطين والمذهبين .
5_ اتبع الفنانون المسلمون أسلوبًا خاصًا لرسم الأشخاص لازم التصوير في أرقى عصوره فلم يتقيدوا لا بالطبيعة ولا بالنسب .
اتفق على تسمية الفن الإسلامي للدلالة على الفن الذي انتشر في جميع الدول الإسلامية ولكن هذا لايمنع من أن نفرق بين الفن العربي وغيره من الفنون كالفن الفارسي والتركي والهندي ... وغير ذلك ، ومع أ، الفن الإسلامي كان موحدًا في الشكل والأسلوب والمضمون إلا أن ثمة فروقًا متميزة ظهرت بحسب الأقاليم والعصور وبحسب التقاليد التاريخية لكل أمة من الأمم التي دخلت الإسلام .
الفن الأموي
ابتدأ الفن العربي الإسلامي منذ عهد الأمويين والآثار التصويرية الأموية التي عثر عليها حتى الآن ، إما أن تقوم على الرقش أو تقوم على الصور المشبهة . أما الرقش فهو التشكيلات الهندسية ، أو البيئة التي زخرفت بها الأبنية ، كزخارف المسجد الأموي بدمشق ، أما التصوير التشبيهي فنرى نماذجه وقد اعتمدت على صور لا تتضمن أشكال آدمية بل صور الطبيعة والأنهار والأشجار والبيوت كما في المسجد الأموي وقبة الصخرة وخربة المفجر ، وهي صور فسيفسائية اعتمدت على أسلوب الفن العربي القائم على التصحيف والتكرار وملئ الفراغ والرمز ، أو نرى نماذج الفن التشبيهي ، وقد تضمن صورًا أدمية في أشكال مختلفة منها المشاهد التي كانت مرسومة على جدران قصر عمرة ، وتمثل الحياة اليومية وصور الحيوان والنبات ، ومنها النقوش البارزة والصور الموجودة في قصر الحير ، وهي تمثل حياة القنص والفروسية .
الفن العباسي
سار الفن الإسلامي في عهد الدولة العباسية ، في اتجاه جديد متأثرًا بالفن الفارسي ومشكلًا الطراز العباسي . ولقد انتشر الرقش ( الأرابسك ) في عهد العباسيين بعد أن أخذ سمة معينة ، فهو من الناحية الشكلية يقوم على خطوط مستقيمة ومساحات هندسية أو يقوم على انحناءات ، ومن الناحية التنفيذية فإن النقش كان يتم بطريقة الحفر المشطوف على الخشب أو الجص الملون .
الفن الفاطمي
ظهر هذا الطراز في مصر والشام في عهد الدولة الفاطمية ، ويتألف من خطوط دائرية ومن رقش مكرر تتخلله عناصر نباتية كتلك التي تزين الخط الكوفي ، أو من زخارف خطية وهندسية مكررة أو مختلفة مثل التزينات الموجودة في مدفن السيد رقية ، أو التي توجد على حاجز مقصورة المصلى والمخطوط في متحف دمشق ، ولقد عثر في الحمام الفاطمي بالقاهرة على صورة جدارية ملونة .
الفن الأندلسي
تأثر بداية بالفن الأموي ، ثم بفن دول شمال أفريقيا ، وظهر الرقش العربي في جامع قرطبة خاصة بالمحراب ، كذلك ظهرت التزينات والطلاءات في حدران قصر الزهراء . ومن أعظم الآثار الأندلسية ، قصر الحمراء في غرناطة وقد زين بأروع الزخارف الهندسيو والنباتية الملونة بالأبيض والأزرق والأحمر والذهبي ، وهو نموذج من الفن الأندلسي العربي الذي انتقل بعد ذلك إلى ما نراه في قصر أشبيلية .
الفن السلجوقي
استلم السلجوقيون السلطة في أصفهان ، ثم امتدوا إلى الأناضول وسوريا ، وقد شاع الرقش وظهر بأشكال آدمية وحيوانية في ديار بكر ( آمد ) والموصل وبغداد ودمشق ، وفي جامع نور الدين في الموصل محرابان ظهر فيهما زخارف وكتابات عربية هي نموذج عن الرقش السلجوقي وفي باب الطلسم في بغداد نقش يمثل الخليفة جالسًا .
الفن المملوكي
بعد سقوط الفاطميين بمصر ، وإنهاء حكم أسرة الأيوبيين ، ظهر في القرن الثالث عشر المماليك الشركس والأتراك ، وقد اهتموا بالعمارة اهتمامًا كبيرًا .
الفن التركي
قامت الإمبراطورية العثمانية عندما أعلن السلطان عثمان سيطرته على الأناضول ، وعند فتح محمد الثاني الثسطنطينية عام 1453 كان البحر المتوسط قد أصبح بحيرة تركية ، وتواجد العالم الإسلامي باستثناء إيران وباكستان من تحت سيطرة الأتراك ، وقد استخدم الأتراك مشاهير المصورين الإيرانيين والأوروبيين ، ومن أبرزهم ( جنتيتلى بلليني ) الإيطالي الذي صور محمد الفاتح ، ولقد تأثر التصوير التركي بالأسلوب الإيراني ، كذلك تأثرت الفنون التركية الأخرى من صناعة السجاد إلى صناعات الخزف والحفر بالفنون الإيرانية والشامية والمغربية .
فن المنمنمات
كان من توابع كتابة المؤلفات والقصائد بخطوط جميلة ، تزيينها برسوم تمثيلية ، بريشة ناعمة مرهفة وبألوان شفافة جميلة ، وقد سمي هذا التصوير بالمنمنمات ، وازدهر هذا النوع من التصوير في دول الشرق المسلم ، أي من السورية والأناضول وحتى العراق وإيران ثم الهند. ومن أشهر المخطوطات العراقية الباقية نسخة مقامات الحريري وفيها تصوير للحياة الاجتماعية بأسلوب عربي محور ( الواسطي ) ثم كتاب كليلة ودمنة ، وكتاب خواص العقاقير. وفي العهد المغولي ( 1258 ) تأثر التصوير بالفن الصيني ومن أشهر المصورين محمد بن محمود البغدادي الذي صور كتاب جامع التواريخ بأمر الوزير المؤرخ رشيد الدين ( 1306 ) الذي أنشأ ضاحية ( ربع رشيدي ) خصصها للكتابة والنقش . ثم ظهر اتجاه قومي بدأ في صورة الشاهنامة للشاعر الفردوسي ، وفي العهد التيموري تعددت الاتجاهات باختلاف المدن ، ففي شيراز ثلاث مخطوطات للشاهنامة وفي هراة كان ( شاه رخ بن تيمور ) شديد الاهتمام بالنسخ والتزيين وهكذا أصبحت مخطوطات ( نظامي وسعدي ) الشاعرين المشهورين ، مليئة بالصور المنمنمة التي حملت طابعاً قوياً . ثم ازدهر الفن في هراة في عهد السلطان ( حسين ) ووزيره الشاعر المسيقي ( مير على ) ، وفي عهده ظهر ( بهزاد ) المصور المعجزة .
وفي عهد الصفويين انتقل ( بهزاد إلى تبريز حيث أسس مدرسة فنية أصبحت ذات أثر كبير في توحيد الفن الفارسي ، ومن أشهر آثاره الباقية ، صور المنظومات الخمسة المحفوظة في لندن ، وكتاب البستان المخطوط في دار الكتب في القاهرة ، وترجع إلى عام ( 1488 ) وتعد صوره من أروع آثاره لما فيها من ألوان مدرجة وحركة نشيطة ومحاكاة للطبيعة ، ثم ظهر بعد ذلك فنانون آخروز ، وأنشأ معهداً للتصوير ، وقدم صوراً شخصية مستقلة لأول مرة .وفي بخارى انتشر أسلوب ( بهزاد ) على يد تلميذه ( مير على ) ، ثم محمود مذهب وفي عهد شاه عباس الصفوي بقي أسلوب محمدي شائعاً في إصفهان ، وبدت العمائم الكبيرة في التصوير ، وانتقل فن المنمنمات إلى الهند على يد الرسام مير سيد على والخواجة عبد الصمد الشيرازي الذين قاما بتدريس الطلاب الهنود هذا الفن .