هذا الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، كلمة سماحة الأستاذ بناهيان في الدورة الوطنية الأولى لمؤتمر «خط الإمام» حيث ألقاها في حرم الإمام الرضا(ع) وفي جمع مسؤولي تعبئة الجامعات من كافة أنحاء البلد.
بعد انتصار الثورة نجد بوضوح أن قد حدث انعطاف في حركة التاريخ/ لابدّ أن ندرك هذا الانعطاف بكل عمق
إن لم يحظ الإنسان بالإيمان والعقيدة الراسخة، فإنه عندما يقرأ تاريخ الإسلام ويرى مدى غربة أولياء الله وظلامة المؤمنين واضطهادهم، قد ييأس من انتصار الإسلام وسوف ينظر إلى موضوع انتصار جبهة الحقّ كأحد المثل وحسب. ولكن بعد انتصار الثورة أصبحنا نجد بوضوح أن قد حدث انعطاف في حركة التاريخ وهو في تزايد يوما بعد يوم. فلابدّ أن ندرك هذا التغيير بعمق وإلا فسوف نتخلّف عن حركة الزمان.
لقد حدثت ولا سيّما في هذا العقد الأخير تغييرات باهرة جدا بالنسبة إلى العقدين الأوّلين من الثورة. وتصبّ أكثر هذه التغييرات في قِصَر أمد مظلومية المؤمنين وغربتهم. فلم تعد تطول فترة مظلومية المؤمنين ولم يعد يختفي الحق خلف الستار وأصبح يفتضح وجه النفاق وتثبت أحقية كلمة الحقّ بسرعة وسهولة. إن الحقائق التي لم يأمل أحد باستيعابها سابقا فضلا من إثبات صحتها، وإذا بها تصل إلى أعلى درجات الوضوح ويتمّ إثباتها بكل سهولة. وبإمكانكم أن تصلوا إلى هذه النتيجة عبر مقارنة تاريخيّة بسيطة.
فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة هذا الفرق الشاسع عبر هذه المقارنة البسيطة: نحن في أيام الحرب والدفاع المقدّس قدّمنا حوالي 250 ألف شهيد من خيرة شباب هذا البلد، ولكن لعل في كل العالم لم تخرج مظاهرة واحدة لدعمنا والدفاع عنّا. أمّا الآن فمن أجل ما يقارب ألفي شهيد في غزّة، خرجت التظاهرات في أغلب بلدان العالم. فانظروا كم قد تغيّرت الظروف عن ذاك الزمن! طبعا إنّ مظلوميّة أبناء غزّة أشدّ من بعض الجهات، ولكن أصل المظلومية فمشتركة بين الحدثين حتى قد نكون نحن أكثر مظلوميّة من بعض الجهات.
أصبحت كلمة الحق تثبت في مدة أقصر ولم يعد يبقى النفاق خلف الستار لفترة طويلة
نرى اليوم أن كلمة الحق تثبت في مدّة أقصر ولم يعد يبقى النفاق خلف الستار لفترة طويلة. أحد الشخصيات من ذوي السوابق في الثورة والذي انحرف عن خط ولاية الفقيه بعد رحيل الإمام(ره) قال قبل عدّة سنوات: «يودّ الفسطينيون أن يتصالحوا مع إسرائيل!!! فهل ينبغي أن نتحمّس أكثر من الفلسطينيين ونصرّ على ضرورة محو إسرائيل؟!» كان يبدو كلامه خطرا جدا في تلك الأيام، ولكن بعد مضيّ أيام قصيرة، انطلقت الانتفاضة الفلسطينية وفي المقابل قاموا بإبادة الشعب الفلسطيني المظلوم، وبالنتيجة تلاشت أرضية طرح أمثال هذه النغمات.
وقبل تلك الأيام بقليل، كانت بعض الجهات السياسية في البلد تطرح ضرورة تكوين العلاقة مع صدّام، بذريعة أنه قد وقف في وجه أمريكا، وقالوا: مَثَله مَثَل خالد بن الوليد، فلابدّ أن نتحد مع صدام ضدّ أمريكا! كان هذا التيّار السياسي يروّج هذه الفكرة في صحفه في مقابل رأي سماحة السيد القائد الذي لم يكن موافقا على الاتحاد مع صدّام وقتئذ، حتى أنهم طعنوا بسماحة السيد القائد وقالوا: لقد ارتحل الإمام الخميني(ره) وارتحل معه الجهاد ضدّ أمريكا! ولكن لم تمض الأيام كثيرا وإذا في أحداث الانتفاضة الشعبانيّة وإبادة الشعب العراقي على يد صدّام، اتضح مدى تبعيّة صدّام التامّة والمطلقة لأمريكا. فبعد ذلك طأطأ هؤلاء رؤوسهم خجلا ولم يكرّروا كلامهم بعد.
في هذه السنين الأخيرة كانت ترى بعض الجهات السياسية أن طريق حل المشاكل هو الاقتراب من الغرب ولا سيّما أمريكا، ولكن ما هي إلا أشهر قليلة وإذا بهم أمام إجرام إسرائيل البشع ضدّ عزّة وبدعم البلدان الغربية ولا سيّما أمريكا فسكتوا واستحيوا أن يكرروا أقاويلهم. وقد جرت الأوضاع بحيث لم يعد يجرأ أحد على إبداء رغبته في التسوية مع الغرب وأمريكا.
لابدّ أن ندعو بعض رجالنا الذين كانوا يقولون: «ليس لدينا سلاح لنستمرّ في الحرب!» إلى مشاهدة مقاومة غزّة
أصبحت الظروف بحيث يكشف الله الحقّ في زمن قصير. ويبدو أن الله لم يعد يشعر بالحاجة إلى الصبر الطويل. ولذلك فنحن أصبحنا نتوقع اتضاح الحق سريعا بعد أيّ خفاء وغربة لحقّ ما. ونحن أصبحنا نعيش في عالم يختلف عمّا كان.
اليوم وعبر اتضاح الحقائق التي باتت تكشف لنا نفسها بكل روعة وعظمة، أخذت تتضح شيئا فشيئا بعض الحقائق التي كانت قد خفيت عنّا في ما مضى. فعلى سبيل المثال أصبح بإمكاننا اليوم أن ندعو بعض رجالنا الذين كانوا يقولون: «ليس لدينا سلاح لنستمر في الحرب!» إلى مشاهدة مقاومة غزة لتتضح القضية كاملا. ولا داعي للشرح والتوضيح بعد. حسبنا أن نريهم حرب الثلاثة وثلاثين يوما لحزب الله، مع أن كل هذه المقاومات هي تطبيق للدروس التي أخذها المسلمون من مقاومة إيران الإسلامية أمام القوى الظالمة في العالم.
نحن متخلّفون عن سرعة الزمن في مجال النشاطات الثقافية/ إن كنّا لا نعلم أنّ ما نعيشه اليوم هو آخر الزمان أم لا، لكنّنا نرى أنّ الفتن أصبحت تفضح المنافقين
إن سرعة زماننا في اتضاح الحق وإثباته عالية جدا ولكننا متخلّفون كثيرا عن سرعة هذا الزمان في مجال العمل الثقافي، ولم نعد نستطيع مواكبته. فأصبحنا لا نستطيع أن نحلّل التحولات السريعة في زماننا أو نثني على حركة هيمنة الحق على الباطل. يعني تمرّ كثير من الأحداث من جانبنا ونحن نعجز عن تحليلها الدقيق حتى بجملة واحدة.
في هذا العام الماضي، كانت وسعة نشاط التكفيريين في خداع الشباب واستقطابهم، قد أقلقت الكثير من الناس، بحيث قالوا: عندما يستطيع هذا التيار أن يربّي آلاف الانتحاريين المستعدين لقتل المسلمين بسهولة، فهذا ينبئ عن خطورة بالغة جدا. فكان الكثير من الناس في قلق من حركة هؤلاء ولا يدرون كم قادرون على تضليل المسلمين وجرّهم إلى هذه الحركة الإرهابية. ولكن في خضم الأحداث الأخيرة لغزّة، أدّت مواقف الإرهابيين تجاه فلسطين إلى انخفاض قدرتهم على خداع الناس إلى درجة كبيرة وإلى ذهاب ماء وجههم بالكامل، وإن كانوا قد شوهوا سمعة أنفسهم من قبل، بفتاواهم السخيفة من قبيل جهاد النكاح وما صدر عنهم حديثا في تحريم صلاة عيد الفطر. فيبدو أن هؤلاء لا يقدرون على حفظ ماء وجههم حتى في سبيل خداع الناس.
إن سرعة تحولات الزمان عالية جدا، وأصبحت حركات الباطل لا تستطيع الحفاظ على ماء وجهها. وهنا يتبادر إلى ذهن الإنسان هذا الحديث الشريف عن النبي الأعظم(ص) حيث قال: «لا تَکرَهُوا الفِتنَهَ فِی آخِرالزَّمانِ فَاِنَّها تُبیرُ المُنافِقِینَ»[کنز العمال/٣١١٧٠]. أيّ فتنة كانت تظهر في صدر الإسلام أو بعده، لعلّها كانت تؤول إلى غربة الإسلام والمسلمين إلى قرون متمادية، أما في آخر الزمان فكلما تحدث فتنة تكون سببا لزوال النفاق. إن كنّا لا نعلم أنّ ما نعيشه اليوم هو آخر الزمان أم لا، ولكنّنا نرى أنّ الفتن أصبحت تفضح المنافقين.
لقد أعطى سماحة السيد القائد الإمام الخامنئي(دام ظله) في خطابه أهم الدلائل والمؤشرات. ولكن يبدو أننا ومع كل هذه التجهيزات والعتاد الذي نملكه في الجبهة الثقافية، لا نحظى بقوّات كافية لنوجّه بهم ضربة للعدو! أحد هذه الدلائل والعناوين هي ما قاله سماحة السيد القائد في خطابه مع الطلاب الجامعيين حيث قال: «انظروا! هذا هو عدوّنا؛ انظروا كيف أنهم يدعمون مجرمي العالم... فلابدّ لنا أن نحدد موقفنا تجاه هذا العدوّ... اليوم العالم الإستكباري وعلى رأسهم أمريكا، يدعمون ارتكاب هذه الفجائع وهذه الجرائم وهذا العنف الذي لا يوصف ويدافعون عنه... إن منطق الديمقراطية المتحررة اليوم وهو المنطق والنظام الفكري الذي يتم تسيير البلدان الغربية وإدارتها على أساسه، لا يحظى بالحد الأدنى من القيم الأخلاقية. لا قيمة أخلاقية فيه. ليس فيه شعور بالإنسانيّة، فإنّهم في الواقع أخذوا يفضحون أنفسهم، أخذوا يفضحون أنفسهم أمام أنظار شعوب العالم ومستقبل التاريخ. فلابدّ أن نحتفظ بهذه [التجربة] كتجربة مهمة وأن نعرف أمريكا. هذه هي أمريكا، وهذه هي الديمقراطية المتحرّرة. فهذا ما سوف يؤثر في عملنا وتقييمنا وموقفنا ولابدّ أن يترك أثره... لابدّ أن ندرك في تحليلاتنا وتقييمنا ومواقفنا أن من نواجه، ومن هؤلاء الذين وفقوا في وجهنا، وما هي أقصى أفكارهم. فلابد أن نحدد موقفنا...»[23/7/2014]
لابدّ أن يكون لنا هذا العنوان وهذه الجهة التي وجّهنا إليها سماحة السيد القائد، من الأهمية بمكان بحيث نستطيع أن نحلّ بها مشاكلنا الثقافية والسياسية ومشاكل العالم الإسلامي بأسره، وأن نوجّه ضربة للعدوّ من هذه النقطة. إذ في مثل هذه الظروف سوف لا تقدر أيُّ من نزعات التقرب من الغرب على عرض نفسها، ولا يعتمد أحد في العالم على أقوال أمريكا بعد.
يتبع إن شاء الله...