الحج منار الوحدة الإسلامية




قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم : (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الآنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ َ)( الحج: 27، 29)، صدق الله العلي العظيم.
الحج عبادة عظيمة افترضها الله تبارك وتعالى على المكلفين المستطيعين، وأبان في القرآن الكريم أنّ هذه الفريضة تترتب عليها منافع متعددة وكثيرة، والآية - الآنفة الذكر - التي تلوتها على مسامعكم تبين المنافع بشكل عام، ولا تتحدث عن المنافع من ناحية خاصة، والتي ترجع إلى ذات الشخص المؤدي لهذه العبادة ، بل، إنّ هذه العبادة تأخذ مضموناً ومعنى آخر أكثر شمولية. وقد استعرضنا حديثا من الأحاديث الواردة في هذا الشأن في الأسبوع الماضي، عن إمامنا الصادق عليه السلام يقول فيه: ((إنما فرضت الصلاة وأُمر بالحج لإقامة ذكر الله، فإذا لم يكن في قلبك للمذكور هيبة ولا عظمة فما قيمة ذكركَ)) بمعنى أنّ الحج ترجع فائدته إلى إعطاء طابع لذكر الله يكون مؤدياً للخشية واستشعار عظمة الله تبارك وتعالى، وأما إذا كان الذكر يمثل ألفاظاً لا يدركها الذاكر ولا يعي معناها ولا يستشعر عظمة الباري تبارك وتعالى بها, فما قيمة هذا الذكر كما يقول إمامنا الصادق عليه السلام ؟ إذاً هاهنا الفائدة ترجع إلى نفس العبادة المنعكسة على العابد.
دور الحج في توحيد المسلمين.

الفوائد المترتبة على الحج متعددة وكثيرة، والأبعاد التي يتناولها الحج لا حصر لها، وسوف نستعرض بُعداً آخر من هذه الأبعاد، ألا وهو البعد التوحيدي للأمة.
الحكمة من الاختلاف بين الخلق.

إذا أردنا الحديث حول البعد التوحيدي للأمة لا بد أن نوضح الحكمة من وجود الاختلاف بين بني البشر، فالله تبارك وتعالى خلق الخلق, وجعلهم متفاوتين في ألوانهم وأشكالهم وعقولهم وأجسامهم ومناطقهم وقدراتهم ومواهبهم وما إلى ذلك من الأمور، وجعل هذا الاختلاف والتفاوت بين خلقه آية دالة على عظمته، ولكنه لم يُرد من هذا التفاوت أن يصبح عاملاً للتنافر والابتعاد، وإنما أراد منه أن يصل المخلوق إلى إدراك عظمته، ويصل إلى الفهم الدقيق من الهدف و الغاية من الخلق، وأيضاً، يريد الباري تعالى أن يصل المخلوق إلى إدراك أنّ التفاوت بين الخلق هو عامل من عوامل الإثراء والإغناء للخلق، لأنّ الخلق يحتاج بعضه إلى البعض الآخر ولا يستغني أفراده عن بني جنسهم، فإذا تنافروا وابتعدوا، وأصبح الاختلاف طابعاً للخلاف, وبرنامجاً للعمل الذي يُفرّق ولا يُوحّد، فإنه سوف يسبب له عوائق وعقبات تحول دون وصوله إلى مبتغاه، ولا يتحقق له الكمال المنشود في مساره وحياته .
الاستثمار الحقيقي للاختلاف.

الله تبارك وتعالى هو الغني المطلق وأراد لخلقه أن يكون غنياً بغناه، وأن يستند إليه إذا سار على وفق نظام عبوديته، وإذا اختار الإنسان لنفسه مِنهاجاً آخر فإنه لن يصل إلى إدراك عظمة الله، ولا استشعار الهيبة والخشية منه، وهذا يؤدي به إلى الافتقار والتنافر والتضاد. والله تبارك وتعالى أبان في القرآن الكريم بأنّ الطهارة والتزكية طريقان يوصلان كل عابد وطائف حول البيت إلى إدراك المعاني الكبيرة للاختلاف, ويجعلها تصب في صالحه، من خلال جعل عوامل الاختلاف مؤدية إلى التوحيد، وعوامل التضاد مؤدية إلى الوحدة، فالاختلاف في كل الاتجاهات سوف يؤدي إلى الإغناء والإقناع, أي، يؤدي إلى الغنى والجمال.
النبي إبراهيم مؤسس الفكر التوحيدي.

إنّ من أروع ما يشير إليه القرآن هو وصفه للدور المناط بالنبي إبراهيم عليه السلام تجاه البيت الحرام، قال تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(الحج:26), فالله تعالى يأمر الخليل عليه السلام أن يُطهر البيت، لكل طائف حوله؛ أو راكع؛ أو قائم. وهذه سمة عامة، ولا نبالغ إذا قلنا يشترك فيها حتى غير المسلمين، لأنّ الله تبارك وتعالى يقول: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ )، فهذا النداء دعوة للإنسانية جمعاء لنبذ الفرقة والاختلاف، بل، هذا النداء يدعو إلى احتواء عوامل التفرقة والاختلاف وتحويلها إلى عوامل توحيد.
دور الإنسان في رسم مسار الوحدة.

إنّ التوحيد الذي دعا إليه القرآن الإنسانية جمعاء والمسلمين بالخصوص يتقدم دائماً على الوحدة، وبذلك، رسم القرآن مسار التوحيد الذي يوصل إلى الوحدة، ولا نريد بالتوحيد هنا، التوحيد العقدي, بمعنى أن يتفق الجميع في كل خصوصيات التوحيد من ناحية العقيدة، فهذا قد لا يتحصل، ولذلك، أبان النبي صلى الله عليه وآله في بدء رسالته الإطار العام للتوحيد: ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))، فمن شهد الشهادتين حُقن ماله وحفظ عرضه ودمه، بمعنى أنّ المراد بالتوحيد هو التوحيد العام، أي، الدخول في لا إله إلا الله محمد صلى الله عليه وآله عبد الله ورسوله، والإسلام لا يطلب من المسلمين أكثر من ذلك في الدخول تحت عنوان الطائفين والقائمين والركع السجود، الذي ركّزت عليه الآية، وبالتالي، فإنّ هذا الإطار العام يُهيئ الأرضية لكل مسلم أن يدخل في هذا البرنامج العام, الذي بدأه بشكله التفصيلي الخليل عليه السلام.
معنى التطهير:

إنّ نبي الله إبراهيم عندما أُمر بإقامة البيت أراد الله تبارك وتعالى منه أن يُطهر البيت، كما أكدت على ذلك الآية السابقة، والتطهير له معنيان، الطهارة من القذارة المادية، والطهارة من القذارة المعنوية، وهذا المعنى أنسب وأقرب لأجواء الآية. فالإنسان إذا أصبح قلبه أسوداً تجاه أخيه الإنسان، ويحمل عليه الحقد والضغينة، وينطلق من خلال الأُطر الضيقة, فهو في أمس الحاجة إلى التطهير، لأنه يتبنى سلوكاً لا يريده التوحيد الإبراهيمي ولا التوحيد المحمدي للمسلم؛ وحتى لغير المسلم، ولكنهما يريدان من الإنسان أن ينطلق بالمعنى الكبير والواسع للتوحيد، ليتاح له أن يصهر كل اختلافاته مع أخيه الإنسان لبرامج عمل توحيدي, تعود على نفسه و على الآخرين بالنفع والخير، ولذلك نقرأ هذا الترابط في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم التي تتعلق بالحج (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الآنْعَامِ)(الحج:34)، هذه إشارة إلى أنّ اختلافات الأمم يمكن أن تنصهر فيما يوحدها ويحقق الخير والرفاه لها جميعاً، قال تعالى( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الآنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم) (الحج34:, 35)، ثم يبين الله في آيات أخرى أنّ الهدف من المنافع هو الوصول إلى الله تبارك وتعالى، واستشعار عظمته، كما جاء في رواية إمامنا الصادق عليه السلام.
دور الحج في صهر عوامل الاختلاف.

الاختلاف سنة، كما ذكرنا سابقاً، جعلها الله تبارك وتعالى للوصول إلى الإغناء وعدم الفقر والإقناع والجمال، ولكن المهم هو الأسلوب الأمثل لاستثمار عوامل الاختلاف وتحويلها إلى عوامل للاتفاق، كما يريدها الله تبارك وتعالى، كي تصل الإنسانية جمعاء إلى الخير و الرفاه، ولقد أشار القرآن الكريم باقتضابات خاطفة ما ينبغي علينا أن نتجه نحوه ونسير إليه وهو الهدف الرئيس للناس جميعاً، ألا وهو الله تبارك وتعالى، (أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الآمُورُ)(الشورى:53), وإذا كان الاختلاف سُنة طبيعية تُوصِل إلى التكامل، فلا يمكن أن نجعل هذه السُنة عاملاً لتشرذم الإنسانية فضلاً عن تشرذم المسلمين، وإذا طرحنا وحدة الإنسانية جمعاء, فمن باب أولى نكون- نحن المسلمين - في وحدة وتوحد، باعتبار أننا نتشهد الشهادتين، فلا بد أن يحترم كل منا الآخر، ولا نجعل من عوامل الاختلاف عوامل للتفرقة والتشرذم، بل ننطلق من هذه الآيات التي جاءت لتتحدث عن هذه الفريضة التي يشترك فيها الجميع، ونتوحد في إطارها، ولذلك، نجد أنّ الحج برنامج عملي مشترك لكل مسلم مهما اختلف في عباداته؛ أوفي معاملاته؛ أوفي طرق تفكيره؛ أوفي مساره؛ أو في أي جهة أخرى. والحج باعتباره مؤتمراً سنوياً سوف يصهر من خلال شعائره المقدسة كل هذه الاختلافات في محور توحيدي عام يؤدي إلى الوحدة، وما أروع ما أفاده القرآن في الآية التي ابتدأنا بها الحديث (لِِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)، هذه الأيام المحددة توصل الإنسانية جمعاء والمسلمين بالخصوص إلى إدراك معنى الذكر المؤدي إلى التوحيد والوحدة .
المصدر

شبكة اهل البيت للاخلاق الاسلامية