الدليل العقلي على تنصيب الحجة من الله

(1) إن وجود الحجة والخليفة على الخلق من الأمور البديهية والتي لا يختلف فيها من له لب سليم ، والأمر البديهي لا يحتاج إلى دليل ، وعلى الرغم من ذلك ذكرها القرآن الكريم في آيات كثيرة ، وكذلك السنّة الشريفة .

(2) اتفق العقلاء بمنطق العقل الفطري على وجوب توفر شروط ثلاثة في القائد والخليفة والحجة ، مهما كانت قيادته محدودة ضيقة أم واسعة ، وهي الشروط ثلاثة :

(أ) التنصيب.

(ب) العلم .

(ج) الطاعة .


وتتضح هذه الأمور الثلاثة من خلال هذا المثال البسيط :

لو كان هناك رجل أعمال وأراد أن ينشأ مصنعاً ما ، ولديه عدة عمّال يعملون لديه في ذلك المصنع ، فلكي يصح لنا أن نصف ذلك الرجل بالحكمة في اختيار مدير لذلك المصنع ، يجب توفر ثلاث أمور في الشخص المختار للإدارة ، بحيث لو اختار صاحب المصنع شخصاً فاقداً لأحد الصفات الثلاثة ، فلا يمكن أن يوصف بالحكمة ، بل يكون مجانباً للحكمة متصفاً بالسفه وسوء التدبير، والصفات الثلاثة التي يجب توفرها في الشخص المختار لإدارة المصنع من بين جميع العمال هي :

أولاً: التنصيب.
وهو أن ينص على الشخص الذي ينبغي أن يدير ذلك المصنع ، ويعين بنص مباشر وواضح لا لبس فيه ، وأن يعلم العمال بهذا التعيين ، والغرض من ذلك هو منع الاختلاف والتناحر وربما التقاتل لأجل الاستحواذ على منصب الإدارة والتمتع بالنفوذ والكلمة المسموعة بين العمال ، وسيترتب على ذلك كثرة مدعي الإدارة وتحزّب العمال لأكثر من مدير، وستكون إدارة المصنع بآراء مختلفة من أشخاص متعددين ، مما ينتج تدهور انتاج المصنع وقلته على أقل تقدير، هذا إن لم نقل بفشله وغلقه للأبد.

وإذا لم نقل بحتمية اختلاف العمال ، وأنهم سيتفقون على اختيار مدير واحد ، فالاحتمال وارد وكبير جداً في الاختلاف والتناحر ، وذلك لوجود الرغبة لدى البشر في الترأس والزعامة ، وهذا أمر وجداني لا يمكن لأحد إنكاره، إلاّ إذا كان ممن ينكر الشمس في وضح النهار!!!
فيا ترى من هو الأولى بأن يوصف بالحكمة الرجل الذي يختار ويعين مديراً لمصنعه ليسد احتمال الاختلاف والتناحر للاستحواذ على مركز الإدارة أم الشخص الذي يترك إدارة المصنع بلا تعيين ويترك الحبل على الغارب ، مما يجعل احتمال الاختلاف والتناحر كبيراً جداً ؟؟
فمن هو الأحكم ، من يضمن نجاح مصنعه وزيادة إنتاجه من جانب الإدارة أم من يجازف بنجاح مصنعه ، ويجعل احتمال الخسارة وقلة الإنتاج كبيراً جداً ؟؟
ولا أظن عاقلاً يقول بأن الثاني أفضل من الأول ، أي يقول بأن من يجازف بنجاح مصنعه أفضل من الذي يبذل كل ما بوسعه لضمان زيادة إنتاج مصنعه ونجاحه بتنصيب وتعيين المدير لمنع اختلاف العمال وتقاتلهم على كرسي الإدارة لذلك المصنع.
فإذا لا يمكن وصف صاحب مصنع صغير بالحكمة أذا لم ينصب ويعين مديراً لمصنعه، بل يتصف بالسفه وسوء التدبير ، فهل يمكن لله تعالى ترك خلقه من دون أن يُنصب عليهم من يقودهم إلى الخير والصلاح في الدنيا والآخرة ، مما سيؤدي إلى اختلافهم وتقاتلهم من أجل اعتلاء دفة الحكم والقيادة ؟!!!

وهل يمكن أن يترك الرسول محمد (ص) أمته بعد وفاته عرضة للاختلاف والتمزق والتقاتل من دون أن يلزم الجميع الحجة الواضحة في تعيين الخليفة بعده (ص) ؟!!

إذا كنّا نصف صاحب مصنع صغير بالسفه إذا لم يعين مديراً لمصنعه بالرغم من وجوده في الحياة وربما يستطيع تلافي الاختلاف والتنازع ، فكيف نجوّز ذلك على الرسول محمد (ص) أن يترك أمته بلا راعٍ وهو يريد أن يفارق الحياة ؟!!!
إنّ من يقول بأنّ الرسول لم يخلف أحداً يتهم الرسول محمد (ص) بالسفه ـ وحاشاه ـ من حيث يعلم أو لا يعلم!! كيف يمكن لأفضل وأطهر وأحكم خلق الله تعالى أن يخالف الحكمة ولا ينصب أو يعين وصياً له يخلفه في أمته ليرعى مصالحها ، وليمنع اختلاف وافتراق الأمة في تعيين خليفة رسول الله (ص)؟!

كيف يمكن للرسول محمد (ص) أن يترك أمته في هذا الوادي المقفر عرضة للضياع والاختلاف والتقاتل من أجل ارتقاء منصب الخلافة، وبذلك تكون الأمة فرق وطوائف يلعن بعضها الآخر ويقتل بعضها الآخر؟! كيف يفعل ذلك الرسول محمد (ص) وهو ذو القلب العطوف الرؤوف الرحيم على أمته المرحومة؟!!

وعليه فيثبت بما لا يقبل الشك أن الرسول محمد (ص) قد أوصى وعين خليفته ، ليمنع اختلاف الأمة وافتراقها إلى طوائف وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون ، وليحيى من حيي عن بينة وليهلك من هلك عن بينة.

ثانياً : الأعلمية.
أن صاحب المصنع يجب عليه أن يختار الأعلم والأكثر خبرة في مجال ذلك المصنع أم أنّه لا ضير في اختيار الأقل خبرة وكفاءة لإدارة المصنع ؟؟
وبعبارة أخرى : لا يوصف صاحب المصنع بالحكمة عندما يعيّن الأقل خبرة لإدارة المصنع ، بل لابد ـ لكي يوصف بالحكمة ـ أن يختار الأكثر خبرة لإدارة لمصنع؟

فإذا كان عند صاحب المصنع أربع عمال مرشحين لإدارة المصنع ، وكانوا متفاوتين الخبرة في مجال ذلك المصنع وكما يلي :
خبرة الأول 100% ، وخبرة الثاني 90% ، خبرة الثالث 80% ، خبرة الرابع 70% ...

فمن من هؤلاء الأربعة سيختاره صاحب المصنع لإدارة مصنعه ليضمن جودة وكثرة الإنتاج ؟ فلكي يوصف صاحب ذلك المصنع بالحكمة مَن مِن هؤلاء الأربعة عليه أن يختار؟

الجواب : لا يوصف بالحكمة إلاّ إذا اختار الخبير 100% ؟
وإلاّ فإن اختار الخبير بنسبة 90% ، كان احتمال نسبة فشل إنتاج ذلك المصنع هي 10% ، وإن اختار الخبير بنسبة 80% ، كان احتمال نسبة الفشل هي 20% ، وهكذا كلما قل علم وخبرة مدير المصنع ، ازداد احتمال نسبة الفشل في إنتاج ذلك المصنع .
وبقدر نسبة الفشل في الشخص المختار لإدارة المصنع ، يكون صاحب المصنع قد تباعد عن الحكمة ونُسب إلى السفه ، فإن اختار الخبير بنسبة 90% فقد اتصف بنسبة 10% ، وإن اختار نسبة 80% ، فقد اتصف بالسفه بنسبة 20% ، وهكذا هلم جراً ، فكلما اختار الأعلم والأكفأ كان حكيماً في اختياره ، وكلما اختار الأقل علماً وكفاءة كان سفيهاً في اختياره. وهذا أمر وجداني لا يمكن الاختلاف فيه أو إنكاره.
فلو قلنا بأن ذلك المصنع هو هذه الحياة الدنيا وصاحب المصنع هو الرسول محمد (ص) وعماله أمته (ص) ، وعندما حضرت الرسول (ص) الوفاة وكان لابد أن يعيّن خليفة له على هذه الأمة وأن لا يتركها رهينة الضياع والاختلاف والتمزق ، فهل سيختار الأعلم للخلافة على الأمة أم سيختار الأجهل للخلافة ؟

ولا أظن أحداً يجرؤ على القول بأنّ الرسول (ص) سيختار غير الأعلم للخلافة ، لأنه بذلك سينسب السفه إلى أكرم وأحكم الخلق على الإطلاق ـ وحاشاه ـ، فإنه بالإضافة إلى عدم وجود أي مبرر لترك تنصيب الأعلم في معرفة الله وطاعته ، فإن كلما ازداد جهل الخليفة ازداد احتمال فشله في قيادة الأمة وضياعها ، ولا أظن أحداً يشك في حرص الرسول محمد (ص) على هداية الأمة وسلامتها من الاختلاف والضياع والفشل ، إذن لابد أن يكون الرسول (ص) قد اختار ونصب أعلم الأمة ليكون خليفته من بعده.

ثالثاً: وجوب الطاعة.
الخليفة المنصوص على وجوب طاعته على الأمة لابد أن يكون واجب الطاعة ، وإلاّ لم تكن فائدة من اختياره والنص عليه بالخلافة ، فلا رأي لمن لا يطاع.
ونرجع إلى مثال ( صاحب المصنع ) فيجب عليه أن ينص على ضرورة طاعة العمال لمن نصبه ، إذ لا يفيد التنصيب والتعيين مع عدم طاعته ، فلا يهمل صاحب المصنع مسألة الطاعة لذلك المدير الذي نصبه ، وإلاّ فلا يكون حكيماً ؛ إذ لا فائدة في تنصيبه مع عدم وجوب طاعة الذي نصبه.
وهذه المسألة من الأمور البديهية التي لا يمكن إنكارها بحال ، إلاّ أن ينكر عقله ووجوده، لأن الله تعالى عندما جعل للإنسان حواسّاً يباشر بها الأمور الخارجية ،لم يترك هذه الحواس بدون مدير ومنظم لها ، بحيث يكون له القرار النهائي والحاسم في الحكم على كل ما تواجهه الحواس ، وذلك المدير هو العقل.

فالعين عبارة عن نافذة توصل صفات الأجسام بواسطة الجهاز العصبي إلى العقل ، والعقل هو الذي يحكم على هذا اللون أبيض أو أسود أو أحمر أو أصفر، وهذا الجسم طويل أو قصير أو صغير أو كبير وليس العين هي التي تحكم ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حاسة السمع والذوق والشم واللمس ، بل كل أعضاء الإنسان لا يمكن لها أن تتحرك بدون إشارة وإذن من العقل ، إلاّ أن يكون الإنسان مجنوناً فاقداً للعقل ، فيكون منقاداً إلى ما يمليه عليه جنونه.

إذن إذا كان صاحب المصنع الصغير يوصف بالسفه إذا لم ينص ويؤكد على ضرورة طاعة من نصبه لإدارة المصنع ، وإذا كانت حواس الإنسان لابد لها من طاعة العقل ولا يستقيم عملها بدون ذلك ، فكيف يتوقع من الرسول محمد (ص) أن يترك أمته بعد وفاته من دون أن ينص ويؤكد على ضرورة طاعة من نصبه لقيادة الأمة بعد رحيله (ص) ؟!!

فيتحصل لدينا أن الرسول محمد (ص) لابد أن ينص ويختار أعلم أمته للخلافة ، ولابد أن ينص ويؤكد على ضرورة طاعة ذلك الخليفة ، ليسد الطريق أمام الذين في أنفسهم مرض ، والذين همهم الوحيد هو شهوة الجاه والنفوذ ، ولو بالخروج على أمر الله تعالى وأمر رسوله (ص) ، ليحيى من حيي عن بينة وليهلك من هلك عن بينة.

ومما تقدم يتبين أن الخليفة بعد رسول الله (ص) لابد أن يتمتع بثلاث فضائل لا تكون في غير من الأمة ، وهي :

• أن يكون منصوصاً عليه بوصية من الرسول محمد (ص) واضحة بينة المعنى للناس بخلافته للرسول محمد (ص).

• أن يكون منصوصاً عليه من الرسول محمد (ص) بأنه أعلم الأمة بعد رسول الله (ص).

• أن يكون منصوصاً عليه من الرسول محمد (ص) بوجوب طاعة الأمة له وأن طاعته كطاعة الرسول محمد (ص).


فمن هو هذا الذي نص عليه الرسول(ص) وجعله خليفة من بعده ؟؟ ومن هو المتوفرة فيه الأعلمية التي أهلته لأن يكون خليفة رسول الله (ص) ؟؟ ومن هو الذي أوجب طاعته على المسلمين ؟؟.