هذا الذي بين يديك ملخص كلمة سماحة الأستاذ بناهيان في حشد مواكب العزاء في يوم استشهاد الإمام الصادق(ع) في طهران، عام 1435ق.
الإمام الصادق(ع) معلّم «العقلانية الدينية» الأوّل/ جميع أحكام الدين ووصاياه عقلانية
إن يوم استشهاد الإمام الصادق(ع) هو يوم تعزيز «العقلانية الدينية» وترويجها وهو يوم إحياء العقل. وذلك لأن الإمام الصادق(ع) قد أحيا العقلانية في عالم الإسلام و وقف أمام الأحكام والمعارف غير المعقولة. فلولا جهود الإمام الصادق(ع) لكنّا نعيش تحت ركام من الأحكام غير المعقولة والتحريفات الفضيعة من قبيل ما يبدعه التكفيريون اليوم.
أحد أهمّ آثار جهود الإمام الصادق(ع) والتي ما زالت باقية إلى الآن هي أنه أحيا وثبّت عقلانية الدين ووقف أمام الاعوجاج الفكري والنزعات المهمّشة للعقل. إنه معلّم «العقلانية الدينية» الأول وقد استفادت منه جميع المذاهب الإسلاميّة.
إن جميع أحكامنا ووصايانا الدينية عقلانيّة، فمن يحاول أن يروّج هذا المعنى في المجتمع فإنه في الواقع يمشي في نهج الإمام الصادق(ع). نحن نشاهد أحاديث الإمام الصادق(ع) الحياتيّة في مختلف العلوم الإسلاميّة من الفقه والكلام والأخلاق وغيرها حيث قد فتح أبواب المعارف والعلوم الإسلاميّة وبيّن عقلانيّة الدين.
إن مقاومة العدوّ من لوازم العقلانيّة/ لم تدعنا القيم والأحكام الإسلامية فقط إلى المقاومة
عندما نتخذ المواقف السياسيّة على أساس أحكام الدين، فإننا في الواقع قد عملنا بمقتضى العقل، إذ تتحقق قيمنا الدينيّة في هذه العقلانيّة. إن الجهاد ومقاومة العدوّ من لوازم العقلانية. فحتى لو كنّا غير مؤمنين بالقيامة والشهادة والأجر والثواب الإلهي، لحكمت التجربة والرؤية العقلية بوجوب مقاومة العدوّ. لا ينبغي أن تفرّ من الكلب المسعور إن هجم عليك، بل لابدّ أن ترفع حجارة من الأرض وتقف في وجهه ليفرّ منك. إنها لحقائق ترشدنا إليها العقلانية التجريبية، فلم تنفرد القيم والأحكام الإسلامية بتحريضنا على المقاومة.
لقد قال أمير المؤمنين(ع): «إنَّ الشَّقِیَّ مَن حُرِمَ نَفعَ ما اُوتِیَ مِنَ العَقلِ و التَّجرِبَةِ» [نهجالبلاغه/الکتاب 78]. إن بعض رجال السياسة غير مبالين بالتجارب التاريخيّة الواضحة. حتى هؤلاء الذين قد فسّروا العقل بالعقل التجريبى المحض، لا يستطيعون إنكار المعنويات بالاستناد إلى التجارب، إذ ما زالت التجربة البشرية تؤيّد عقلانية الدين.
عدم اعتبار واقعية الأحكام الإلهية متجذرة من فصل الدين عن السياسة
لقد اشتهرت كلمة «القيم» في الأدبيات المعاصرة. فعلى سبيل المثال يقال: «هذه من القضايا القيميّة...». ولكن يبدو أن هذه الكلمة لم تؤخذ من الدين والنصوص الدينية. طبعا نحن ندافع عن القيم، ولكن ما المقصود من القيم؟ فلا ينبغي أن نسمح للتجريبيّين أن يستغلوا هذا المفهوم لمآربهم الباطلة.
يودّ بعض الناس ومن خلال كلمة «القيم» أن يزيحوا الأحكام الدينية والقضايا المعنوية عن الواقع وحقائق العالم. في حين أن جميع القضايا المعنوية في ديننا تحكي عن الواقع وتترك آثارا واقعية في الدنيا والآخرة. فهؤلاء الذين لا يقدرون على مشاهدة الحقائق المعنوية ولم يقدروا على محاسبتها، فإنهم يعانون من قلة العقل. إن عدم اعتبار واقعيّة الأحكام الإلهية، متجذرة من فصل الدين عن السياسة. فقد يحترم هؤلاء القيم بحسب الظاهر، ولكنّهم يهمّشون الدين لكونهم لا يعتبرون القضايا القيمية واقعيّة.
فعندما يعتبرون بعض المعارف والأصول قيميّة، ففي الواقع هم بصدد إلقاء هذه الرؤية إلى المجتمع وهي أن «القضایا والتعالیم على قسمين؛ الأول هو التعاليم والقضايا الواقعية، والآخر هو التعاليم والقضايا القيميّة». فمن خلال هذا التقسيم يسعون للفصل بين الواقع وحقائق العالم وبين القِيَم، ليقولوا: إن القضايا القيمية غير واقعية ولا تنظر إلى الواقع. ولهذا تجدهم يقولون: «إننا نحترم القيم ولكن نعيش ونبرمج حياتنا على أساس الأمر الواقع».
فعلى سبيل المثال يقولون: كون «الأرض فيها جاذبية» ليست بقضية قيمية بل هي قضية واقعية. أما كون «الوضوء فيه نور» هي قضية قيميّة، وليست بقضية واقعية! في حين أن جميع الأنبياء كانوا يخبرون الناس عن حقائق العالم. فكما أن الأرض تشتمل على الجاذبية ويمكن محاسبة ذلك، كذلك الوضوء يشتمل على نور ويمكن محاسبة هذه الحقيقة بأساليب مختلفة. طبعا ولا شك في أن محاسبة نور الوضوء أصعب من محاسبة جاذبية الأرض.
الدين هو عين العقلانية فمن خالف الدين فإنه قد خالف العقل
الدين هو عين العقلانية وإن القضايا الدينية هي قضايا واقعية وحقيقية وليست بقضايا قيمية بالمعنى الذي يروّج له البعض ويقصد منه غير الواقعية. إن القضايا الدينية هي مطابقة للواقع، ولو لم ندركها عبر ما توصّّلنا إليه من التجارب في العلوم التجريبيّة. ولكن يمكن القول أن في آخر الزمان، سوف يلتزم الناس بالدين بدافع العقل والتجارب العقلية. يعني أنهم سوف يدركون عقلانية الدين في ما يرتبط بالعلوم التجريبية والطبيعية وكذلك في علومه الخاصّة كالفقه والكلام.
لقد سعى الإمام الصادق(ع) ليفهمنا بأن الدين هو عين العقلانية. ومآل هذه الرؤية هي أن لو خالف أحد أحكام الدين، فإنه في الواقع قد خالف العقل، وإن التزم أحد بالدين فإنه في الواقع إنسان عاقل وفهيم. هذا هو الدين الذي عرفّه لنا الإمام الصادق(ع)، فقد قال(ع): «دِعَامَةُ الْإِنْسَانِ الْعَقْلُ وَ الْعَقْلُ مِنْهُ الْفِطْنَةُ وَ الْفَهْمُ وَ الْحِفْظُ وَ الْعِلْمُ وَ بِالْعَقْلِ یَکْمُلُ وَ هُوَ دَلِیلُهُ وَ مُبْصِرُهُ وَ مِفْتَاحُ أَمْرِهِ فَإِذَا کَانَ تَأْیِیدُ عَقْلِهِ مِنَ النُّورِ کَانَ عَالِماً حَافِظاً ذَاکِراً فَطِناً فَهِماً فَعَلِمَ بِذَلِکَ کَیْفَ وَ لِمَ وَ حَیْثُ وَ عَرَفَ مَنْ نَصَحَهُ وَ مَنْ غَشَّه» [الكافي/1/25].
أحد الفوارق المهمّة بين الإسلام وباقي الأديان هو أنك إذا أردت أن تناقش الأديان الأخرى عقليا، سيقول لك أتباع ذاك الدين: «لا يمكن فهم هذه العقائد بالعقل، فلماذا تريد أن تناقش القضايا المعنوية بالعقل؟» أما في الإسلام فكل أحكامه ومعارفه المعنوية قد صبّت على أساس العقلانية.
يتبع إن شاء الله...