بغداد - مروان الجبوري:منذ دخوله ساحة الثقافة العراقية حتى رحيله، اعتُبر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913–1995) من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في الأوساط الفكرية في بلاد الرافدين.
إضافة إلى ما جلبته إليه من مشاكل واتهامات آراؤه الحادة والعابرة للأيديلوجيات المتناحرة، فإن إثارته للجدل وعزلته تكرّستا مع ابتعاده عن التيارات السياسية، الحاكمة والمعارضة على حد سواء، وبقائه وحيداً مع مشروعه، ما كلّفه ثمناً دفعه من حياته الشخصية والعملية.
يستعاد الوردي وتجربته في مقالات وكتب، متأنية وذامّة ومادحة، بين حين وآخر. إلا أن أكثر ما يستعيده، هو ومشروعه، وبشكل مستمر، هو حال العراق، الذي استشرفه الراحل بقراءة واقعية، تستند إلى البحث العلمي والتاريخي، في زمن كان فيه للخطابية والمنبرية الصوت الأعلى.
لم يتحمّس له القوميون كثيراً، لرفضه فكرة الوحدة السياسية بين الأقطار العربية من دون دراسة معمّقة لخصائص وتكوينات كل بلد على حدة، بغية تجنّب انتكاسة وحدوية كتلك التي حصلت بين مصر وسوريا. وما باعده عن هؤلاء أكثر، تحليله الشخصية العراقية والعربية بعيداً عن هالات القداسة والعظمة والانتماء.
أما اليساريون، فقد اعتبروا طرحه متعالياً على معاناة الفئات المسحوقة في المجتمع، وتجاهلاً لجوهر الصراع في المجتمع العراقي بين الإقطاع ومؤيديه من جهة، والطبقات الفقيرة من جهة أخرى. تضاف إلى موقف اليساريين منه، التهم التي كانت تلاحق الوردي بقربه من السفارة الأميركية في بغداد. لكنها تهم سرعان ما انطفأت نارها مع تصالح "الحزب الشيوعي العراقي"، نفسه، مع الولايات المتحدة عام 2003، أثناء احتلال العراق.
اعتبره الإسلاميون السنّة معتدلاً، رغم ملاحظاتهم على تأثيرات البيئة الشيعية التي نشأ فيها، في بعض كتاباته، خصوصاً تلك المتعلقة بتحليل التاريخ الإسلامي والبحث فيه. في المقابل، رأى الشيعة دعواته لدراسة التديّن بـ"طريقة علمية" موقفاً معادياً للدين والمذهب، معتبرين تحليلاته للظواهر الميتافيزيقية والشعائر الدينية التي يؤمن بها الشيعة محاولة للتقليل من شأنها. اليوم، يعود بعض الاعتبار إلى أعمال الوردي وأطروحاته، بعد احتلال العراق وتفتت الهوية الوطنية إلى مكوناتها الأولى.
والواقع أن الوردي لم يكن مجرد عالم اجتماع نزق حانق على مجتمعه، بل كان يحمل مشروعاً فكرياً وثقافياً غير بعيد عن السياسة. ربما يختلف معه كثيرون في عمومياته وتفصيلاته، لكنه فعل ما لم يستطع فعله المتأدلجون عندما طرح أسئلة جوهرية وخطيرة تتعلق بطبيعة الشعب العراقي وتكوينه وخصائصه العامة وانقسامه الطائفي المتجذّر، وسلّط الضوء على قضايا كانت تعدّ من التابوهات المقدسة لدى بعضهم.
يمكن تتبع ملامح مشروع الوردي من خلال بعض عناوين كتبه التي تربو على الثمانية عشر، علاوة على أبحاثه الأكاديمية المنشورة. ففي كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، تحدث عالم الاجتماع عما اعتبرها ازدواجية تعاني منها الشخصية العراقية، ما بين قيم الحضارة الموروثة، وتقاليد البداوة السائدة. ووفقاً للوردي، فإن الفرد العراقي يحمل في داخله شخصية البدوي المحارب المتأهب للغزو، وإن ارتدى "بدلة" إفرنجية ودرس في جامعات الغرب.
وفي كتابيه "وعّاظ السلاطين" و"مهزلة العقل البشري"، شن هجوماً عنيفاً على من اعتبرهم علماء السلاطين الذين يسترزقون ويقتاتون على موائد الحكام، ما عرّضه لنقمة واسعة من قبل بعض المؤسسات الدينية في البلاد.
وفي كتابه "أسطورة الأدب الرفيع"، فقد دعا إلى ضرورة إعادة كتابة قواعد اللغة العربية وتبسيطها، بما يجعلها قريبة إلى الاستعمال اليومي للعرب المعاصرين. كما أنه خصّ ابن خلدون بكتاب تناول فيه نظرياته مع بعض النقد والتفسير لها.
أما في "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، الذي يقع في ستة أجزاء، تناول الوردي القرون الأربعة الأخيرة من تاريخ العراق، محاولاً ربط وقائعها بالحاضر.
بعيداً عن مواقف الإدانة والتأييد لطروحات علي الوردي الفكرية والاجتماعية، فقد وضعت أسئلته العقل العراقي في مواجهة نفسه، وأعطته درساً مهماً في أنه لا يمكن بناء أي مشروع سياسي أو معرفي في العالم العربي من دون وعي بالذات، وهو ما تجاهلته ديماغوجيات حكمتْ العرب نحو قرن من الزمن.. وكانت النتيجة ما نراه اليوم.
كاردينيا