الجمال نعمة والتجميل نقمةالسلام الداخلي لا تقعي فريسة الإضطرابات النفسية
ظلَ الشعور بالغربة والإغتراب من ملازمات الإنسان منذ أن وطأت قدماه الأرض. وما زال الشعور يتعمق في نفسه، فكلما تأخر به الزمان، زادت من حوله مظاهر الإنفصال والعزلة، مع افتراق المغترب عن المعتزل من حيث المعاناة الروحية، فالعزلة إنطواء، وليس الإغتراب كذلك.
لكننا لسنا اليوم بصدد الحديث عن اغتراب الإنسان عن ذاته وانطوائه فقط، بل للحديث عن الغربة التي يعيشها الإنسان قسرياً عندما يغادر الوطن الذي عرفه منذ الصغر، ليجعل من بلد آخر موطناً له، بقصد العيش الكريم والبحث عن الأمان والفرص.
الإغتراب ظاهرةٌ قديمة منذ الأزل، إعتمدها الإنسان للخروج من وطنه الأم الذي تتنازعه الحروب أو المجاعات، فشدَ رحاله وانطلق في بقاع الأرض يبحث عن مسكن وملجأ يتيح له حياةً أفضل من التي كان يعيشها في بلده. وبعض مظاهر الإغتراب، وإن كانت قليلةً، إلا أنها حصلت بسبب الرغبة في استكشاف العالم والتعرف الى شعوب وعادات أخرى وليس القصد المادي فقط.
وفي أيامنا الحاضرة، كثرت ظاهرة الإغتراب بشكل كبير، بسبب الأوضاع غير المستقرة وكثرة الحروب والمشاكل الإقتصادية والإجتماعية في العديد من الدول، فازدادت أعداد المغتربين بشكل مطّرد ما أوجد ظاهرةً جديدةً من أبناء يولدون في الغربة ولا يعرفون الوطن الأم، ومن انسلاخ وضياع في الهوية بسبب الإنصهار المتزايد مع الثقافات الأخرى. وهو ما نلاحظه في الإبتعاد عن استخدام اللغة الأم مثلاً أو اللباس المختلف أو العادات الإجتماعية والتفكير والمخططات وغيرها من الأمور الحيوية التي تصبغ شخصية الإنسان وتبلورها في المستقبل.
كما أن الإغتراب القسري يولَد كثيراً من المشاعر السلبية، بدءاً من التشاؤم ووصولاً إلى رفض المحيط الجديد، وكلها إضطراباتٌ نفسية واجتماعية تترك أثرها العميق في المغترب الذي يجد نفسه عالقاً بين أن يعود للوطن ليستعيد ذاته، وإن كان يعني ذلك العودة لحالة عدم الإستقرار المادي والإجتماعي والأمني، وبين أن يبقى يتخبط في محيطه الجديد رافضاً أو غير قادر على التأقلم معه. وفي أغلب الأحيان، تنتصر إرادة العودة إلى الجذور واستعادة الهوية مهما كانت التكلفة.
وللإغتراب حسناته أيضاً، ولا يمكننا أن نغفلها، فهي إلى جانب أنها تمنحنا فرصاً أفضل للعمل والعيش والتقدم، فإنها أيضاً تتيح لنا فرصة التعرف إلى أفكار وثقافات أخرى غنية وجديرة بأن ننهل منها ما يفيد وما يُثري. إذا عرفنا كيف نأخذ منها الأفضل ونترك الأسوأ، على أن نجعله ينصهر مع ذواتنا الأولى لا أن يمحيها.
والحكمة هنا أن نكون على تواصل مع أنفسنا دوماً بقدر تواصلنا مع الآخرين، وأن لا ننسى ثوابتنا التي كبرنا عليها، فلا أصعب من غربة يعيشها الإنسان مع نفسه حتى وإن كان في موطنه الأم.
كل اغتراب يبدو سهلاً ومحتملاً ويمكن علاجه، إلا الإغتراب عن الروح، متى ما وُجد إنتهى المرء.