الامة في زمن الامام الحسين
آية اللَّه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)
التحوّل من أخلاقية الهزيمة إلى أخلاقية الإرادة
الأمة حينما تنهزم وينتزع منها شخصيتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج كما قلنا أخلاقية معيّنة تنسجم مع الهزيمة النفسية التي تعيشها بوصفها أمّة بدون إرادة، أمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيتها بالرغم من وضوح الطريق وجلاء الأهداف وقدرتها على التميز المنطقي بين الحقّ والباطل.
بالرغم من أن أطروحة معاوية قد تكشّفت كأطروحة جاهلية في ثوب الإسلام، وأنّ أطروحة علي (ع) قد اتّضحت أنّها التعبير الأصيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهلية، بالرغم من وضوح كل ذلك بعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسن (ع)؛ بدأت الأمة نتيجة لفقدان إرادتها تنسج أخلاقية معيّنة، تنسجم مع هزيمتها النفسية والروحية والأخلاقية. وبهذا كان الإمام الحسين (ع) بين أخلاقيتين؛ بين أخلاقية الهزيمة التي تعيشها الأمّة الإسلامية قبل أن تهزم فعلياً يوم عاشوراء، والأخلاقية الأخرى التي كان يريد أن يبثها وأن ينشرها في الأمّة الإسلامية، وهي أخلاقية الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة.
كان الإمام الحسين (ع) يواجه تلك الأخلاقية التي ترسخت، من المفاهيم عن العمل، ما يشلّ طاقات التحرك، وكان يريد أن يغيّر تلك الأخلاقية دون أن يستفزها، كان يواجه الأخلاقية التي تمثلت في كلام للأحنف بن قيس، حينما وصف المتحركين في ركاب الإمام الحسين بأنهم أولئك الذين لا يوقنون، وأولئك الأشخاص الذين يتسرّعون قبل أن يتثبتوا من وضوح الطريق، هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقية الهزيمة من التضحية...
إنّ التضحية والاقدام على طريق قد يؤدي إلى الموت، نوع من التسرّع وقلة الأناة، والخروج عن العرف المنطقي للسلوك. هذا المفهوم هو معطى أخلاقية الهزيمة. هذا المفهوم الذي تبدد بعد حركة الحسين (ع) واحتل بديله مفهوم التضحية الذي على أساسه قامت حركة التوابين، حركة أربعة آلاف لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلاّ التضحية، لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسين (ع).
أخلاقية الهزيمة هي التي تبدّلت خلال خطّ حركة الحسين (ع)
وانعكست في مفهوم لعلي بن الحسين حينما قال لأبيه: «أولسنا على الحقّ؟ قال: بلى قال: إذن لا نبالي، أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا...» أخلاقية الهزيمة التي كان يواجهها الإمام الحسين (ع) هي الأخلاقية التي انعكست في كلام لمحمد بن الحنفية حينما كان ينصح الإمام الحسين ويقول له: إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصر وبلد من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعض يقفون معك وبعض يقفون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثم تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلاّ كنت في أمن من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك.
أصبح دم الحسين (ع) هذا الدم الذي كان يتصوّره محمد بن الحنفية أنّه سوف يكون أضيع دم مفتاح تحريك الأمّة حينما قال المختار في سجن عبيد اللَّه بن زياد: إني أعرف كلمة أستطيع بها أن أملك العرب، هذا الدم أصبح مفتاح السيطرة على المنطقة كلها.
حينما تبرز أخلاقية الهزيمة وتترسخ وتتعمّق تتحوّل كل محاولة جدّية لمقابلة الظلم والظالمين إلى نوع من السفك والقتل في نظر المثبّطين، هذه الأخلاقية يريد الإمام الحسين (ع) أن يحوّلها إلى أخلاقية التضحية والإرادة، إلى الأخلاقية الإسلامية الصحيحة التي تمكن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الايجابي والسلبي وفقاً لما تقرّره الشريعة الإسلامية إيجاباً وسلباً.
دقّة التحرك في عملية التحويل
وفي عملية التحويل هذه كان الإمام الحسين يواجه أدقّ مراحل عمله، وذلك لأنه في نفس الوقت الذي يريد أن يبثّ في جسم الأمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقية جديدة، كان يحافظ في نفس الوقت على أن لا يخرج خروجاً واضحاً عن الأخلاقية التقليدية التي عاشتها الأمّة نتيجة لهزيمتها الروحية، كان يريد أن يخلق وينشىء الأخلاقية الجديدة عن طريق هزّ ضمير الأمة الإسلامية، ولم يكن بإمكانه أن يهزّ ضمير الأمّة الإسلامية إلا إذا قام بعمل مشروع في نظر هذه الأمّة الإسلامية التي ماتت إرادتهاوتغيرت أخلاقيتها.
الإمام الحسين (ع) يخطط لعملية التحويل
الإمام الحسين (ع) في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً إيجابياً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الأولى على أن يخوض المعركة مهما كلفه الأمر وعلى جميع الأحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط وإلى أن يضحي بآخر قطرة من دمه، لم يكن يتحرّك نتيجة لردود فعل من الأمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك، ومن أدلة ذلك أنّ الإمام الحسين (ع) بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبية في البصرة.
التأريخ حدّث بأنّه كتب وابتدأ بالحديث وبالتحريك لقواعده الشعبية في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنه قد قرّر الخروج على سلطان بني أميّة. قال لهم بأنّ الخطّ الذي يمثّله هو ويمثّله أخوه وأبوه هو الحق، إلاّ أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حُرمتهما. أما حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما أميتت السنّة، حينما أحييت البدع، حينما انتشر الظلم لا بدّ لي أن أتحرك، ولا بدّ لي أن أغيّر، ولا بد لكم أن تحققوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. وطلب منهم بشكل ابتدائي الالتفاف حول حركته، وهذا يعني أنّ الإمام الحسين لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرد استجابة لردود فعل عاطفية، أو منطقية في الأمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الأولى في تحريك الأمة نحو خطّته وخط عمله.
موقفه من والي المدينة أيضاً واضح في ذلك، حينما استدعي من قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية، وحينما تكشف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين (ع) عن البيعة هو بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا، الإمام الحسين، بكل وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة، وكان هذا واضحاً في إعلانه العزم والتصميم على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذٍ. هذا التهديد وتلك الرسالة الابتدائية لزعماء قواعده الشعبية في البصرة إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل يعبّر عن أنّ الإمام الحسين (ع) كان يخطّط تخطيطاً ابتدائياً لتحريك الأمّة وكان قد صمّم على أن يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال. هذا واقع التخطيط.
شعارات الحسين (ع) في تبرير مخططه
ولكن الإمام الحسين حينما كان يُلقي شعارات هذا التخطيط على هذه الأمّة الإسلامية المهزومة أخلاقياً، المهزوزة روحياً، المتميّعة نفسياً، الفاقدة لإرادتها، كان يجامل تلك الأخلاقية التي عاشتها الأمّة الإسلامية، كي لا يفقد بذلك عمله طابع المشروعية في نظر أولئك المسلمين.
الشعار الأول: حتمية القتل
كان الإمام الحسين يُعترض عليه، ويقال: لِمَ تخرج؟ يعترض عليه عبد اللَّه بن الزبير وغيره، فيقول له: بأنّي أنا أقتل على كلّ حال سواء خرجت أو لم أخرج، إن بني أمية لا يتركونني، ولو كنت في هامة من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني، ومن الأفضل أن لا أقتل في مكة لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف.
وهذا الشعار بالرغم من واقعيّته منسجم مع أخلاقية الأمة المعاشة أيضاً، فأخلاقية الهزيمة التي تعيشها الأمّة الإسلامية لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرك من الإمام الحسين (ع)، أنا مقتول على كلّ حال، والظواهر كلّها تشهد بذلك، فطرح مثل هذا الشعار كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقية الهزيمة.
الشعار الثاني: غيبية قرار التحرك
يأتي أشخاص آخرون إليه يعترضون عليه، يقولون: لِمَ تتحرّك، يأتي محمد بن الحنفية ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة فيقول له: انظر، أفكر فيما تقول، فيذهب محمد بن الحنفية وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين قد تحرك، فيسرع إليه ويأتي ويأخذ براحلته ويقول له: يا أخي قد وعدتني أن تفكر، قال: «نعم، ولكني بِتُّ في هذه الليلة فرأيت رسول اللَّه (ص)، فقال: إنّك مقتول»، فتراه (ع) يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي (صادر) من أعلى، وهذا القرار الغيبي من أعلى لا يمكن لأخلاقية الهزيمة أن تنكره ما دام صاحب هذه الأخلاقية مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين، طبعاً هو لم يحدث بهذه الرؤيا عبد اللَّه بن الزبير الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين، بل حدّث بذلك محمد بن الحنفية وأمثال محمد بن الحنفية، هناك قرار من أعلى يفرض عليه أن يضحي، أن يُقدم على هذه السفرة، وهذا الشعار أيضاً كان بالرغم من واقعيته ينسجم مع أخلاقية الهزيمة.
الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة
وكان في مرّة ثالثة يطرح شعاراً ثالثاً، كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه إلى العراق، كان يقول لهم: إنّي قد تلقّيت من أهالي الكوفة دعوة للذهاب إليهم، وقد تهيأت الظروف الموضوعية في الكوفة لكي أذهب، ولكي أقيم حقاً وأزيل باطلاً، فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة، وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابة طلب أنّ الأمة تحركت وأرادت، وأنه قد تمّت الحجّة عليه، ولا بدّ له أن يتحرك.
الإمام الحسين (ع) لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهادية هذه على أن تطلب منه الأمّة فيتحرّك، وإلاّ لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبية بالبصرة وطلب منهم التحرّك، ولكنّه في الوقت نفسه كان يعكس هذا الجانب أكثر مما يعكس ذاك الجانب، لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقية الهزيمة، وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين إنسان يتحرك تحركاً ابتدائياً، وإنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته، فهذه الأخلاقية المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرك: إنّه عمل طائش، إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.
الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضد السلطان الجائر
وكان يطرح أيضاً إلى جانب كل هذه الشعارات أنّ رسول اللَّه (ص) قال: «من رأى سلطاناً جائراً يحكم بغير ما أنزل اللَّه فلم يغيّر من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقاً على اللَّه أن يدخله مدخله». فكان إلى جانب تلك الشعارات التي يسبغ بها طابع المشروعية على عمله في مستوى أخلاقية الأمّة، كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعي الحي الذي لا بد وأن يكون هو الأساس للأخلاقية الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الأمّة الإسلامية.
لاتنسونا من دعواتكم