فالنتين جريجوريفيتش راسبوتين
ولد فالنتين جريجوريفيتش راسبوتين فى 15 مارس عام 1937 فى قرية "أوستا أودا" على نهر أنجارا بمقاطعة إرقوتسك بسيبيريا. بدأ حياته محررا صحفيا، وفى مطلع الستينات صنفه البعض، بعد نشر قصصه الأولى، بأنه فتحا جديدا فى الأدب الروسى. ذلك الأدب الكونى الصعب الذى ما يزال يحافظ على ملامحه الخاصة وخطوطه العريضة وقاعدة انطلاقه-بالرغم من تعدد المدارس والاتجاهات وتشابكها أحيانا، وانفصالها فى أحيان أخرى-فى علاقته بمجمل الأدب الروسى منذ القرن التاسع عشر، الأمر الذى يجعل عملية الفرز والتصنيف غاية فى الصعوبة، بل ويجعل عملية نسب العمل الأدبى إلى مدرسة-نزعة-بعينها ضرب من العبث ، وربما الاحتيال . فقط يمكن أن ننسبه إلى اتجاه ما يستند، مهما كان اسمه، إلى التربة الروسية الأدبية مميزة الملامح.
أنهى فالنتين راسبوتين دراسته بجامعة إرقوتسك عام 1959 فى كلية الآداب والتاريخ. وفى الفترة من عام 1958 حتى 1966 عمل بالصحافة فى كل من إرقوتسك وكراسنويارسك: فى عام 1958 عمل مراسلا لجريدة "الشباب السوفيتى"، وفى عام 1959 بدأ العمل بالتلفزيون، ثم مراسلا لصحف أخرى. وفى عام 1961 صدرت له أولى مجموعاته القصصية بعنوان "نسيت أن أسأل ليوشكا". وصدرت مجموعته الثانية "إنسان من العالم الآخر" عام 1965. وفى عام 1966 صدرت له ثلاثة كتب دفعة واحدة تضم مقالاته عن سيبيريا وحياة الجيولوجيين وعمال البناء. فى نهاية الستينات بدأت الملامح العامة لكتابات راسبوتين تظهر بوضوح، وأصبح أحد أهم الكتاب الذين يكتبون عن القرية الروسية. فى ذلك الوقت-فى نهاية الستينات-ذاعت شهرة فالنتين راسبوتين فى أنحاء الاتحاد السوفيتى بعد روايته الأولى "نقود لماريا" (1967)، وبعد ذلك خرجت إلى النور روايته الثانية "المهلة الأخيرة" (1970)، ثم رواية "عش وتذكر" (1974). وفى عام 1976 كتب روايته "وداعا ماتيورا"، ذلك العمل الذى وضعه على درجة واحدة مع العديد من الأدباء الروس الذين كرسوا حياتهم وأعمالهم وعالمهم الإبداعى للقرية الروسية مهضومة الحقوق فى كل العصور والأزمان. بهذه الرواية تحديدا وضع راسبوتين اللمسات الأخيرة على طريق شهرته ليصبح أحد أهم الذين يواصلون التقاليد الأدبية للواقعية النقدية فى روسيا، وبذلك نال جائزة الدولة عام 1977.
إن شهرة راسبوتين لم تتأت فقط من إبداعاته الأدبية، ولكن إلى جانب كل ذلك أكدتها مؤلفاته الأخرى، ومقالاته وكتبه التى وضعته على طريق أجداده المشاكسين الذين كانوا يحشرون أنوفهم فى كل شئ مما كان يغضب قياصرتهم ورؤساءهم على الدوام. ففى عام 1969 ظهر كتابه "مصيرى سيبيريا"، ثم "ذكريات عن نهر" (1971)، وفى عام 1972 ظهر كتاب "إلى أسفل وإلى أعلى مع التيار". وربما يكون عنوان كتابه "مصيرى سيبيريا" هو الذى يمكنه أن يوضح واحدة من أهم الركائز التى يستند إليها الأدباء الروس فى إبداعاتهم وفى حياتهم الشخصية. إن راسبوتين فى هذا الكتاب يتناول سيبيريا من ناحية أيكولوجية، وليس من سمعتها المنتشرة كمنفى. ومع ذلك فتسمية الكتاب بهذا الشكل تدفع إلى التداعى بصورة أو بأخرى. إن سيبيريا تشكل إحدى أهم المعضلات وأخطرها فى حياة روسيا منذ ما قبل بطرس الأول ويكاترينا الثانية، وذلك من حيث موقعها وأهميتها وثرواتها التى لم يتم الكشف عنها حتى النهاية. وهى من ناحية أخرى تشكل فى وعى الإنسان الروسى مظهرا من مظاهر النفى الذى يمتلك فى مخيلة الإنسان العادى والكاتب-على حد سواء-أبعادا مأساوية يمكنها ببساطة أن تحيلنا إلى العديد من التداعيات الخاصة بمصائر الكتاب الروس. إننا نعرف مصائر مأساوية لكتاب كثيرين فى العالم، ولكن عندما يدور الحديث عن مصير الكاتب الروسى نجد المأساوية صفة عامة، أو ركيزة أساسية تجعل هذا الكاتب موصوما بها حتى النهاية. وإذا كانت علاقة الكاتب بالسلطة تشكل معادلة صعبة ومعقدة منذ بداية الكون، فهى فى روسيا، وبالنسبة للكتاب الروس تشكل حجر الزاوية. فهناك من ارتبط أو تماس مع السلطة وتقاطع معها فى الطريق ، ثم انقلب عليها بصورة كانت، وما زالت تحير القائمين على هـذه السلطة. وهناك من لم يكن له علاقة مباشرة معها، ولكنه مع ذلك كان يتحرش بها ليس من أجل الشهرة أو الحصول على مكاسب أو تفويضات، ولكنه المصير المأساوى، العبثى، الذى تذكرنا به التراجيديات اليونانية القديمة. لم يفلت أحد من الكتاب الروس من هذا المصير بداية من بوشكين وحتى راسبوتين وغيره فى عصرنا هذا. ولكن فالنتين جريجوريفيتش يتميز فى وقتنا الراهن بمجمل هـذه الصفات، أو على نحو أدق بهذا المصير. فهو كاتب غزير الإنتاج، وإنسان ذو طبيعة نشطة يمتلك طاقة داخلية جبارة متدفقة تدفعه دوما إلى الحركة والخوض فى كل ما يهم الإنسان بوجه عام، وعلى الأخص ما يهم روسيا والإنسان الروسى، وما يرتبط بتاريخهما وهمومهما وقضاياهما ، الأمر الذى دفعه منذ عدة سنوات إلى تأجيل العمل الأدبى والخوض فى السياسة، بل واتخاذ مواقف حادة ضد السلطة الحالية فى روسيا. وهنا لا يمكننا أن ننسى أو نتجاهل أنه كان أيضا ضد السلطة بدرجة ما فى المرحلة السوفيتية، وهو على المستوى الفكرى-النظرى، وربما الواقعى أيضا، ضد المرحلة القيصرية. أما الجانب الآخر فى طبيعة فالنتين راسبوتين فيظهر فى الهدوء والدماثة اللذين كان يتميز بهما أنطون تشيخوف رغم السخرية المرة والحزينة التى لا تتعارض أبدا مع هاتين الصفتين بما تمتلكان من عمق واتساع، حتى أنهم يشبهونه فى روسيا بمسيح يعيش منفيا فى صحراء. وإذا كان الترحال والسفر والتحرك الدائب والمستمر من صفات الكاتب عموما سواء كان شاعرا أو روائيا أو فيلسوفا أو مفكرا، فتلك الصفات على وجه الخصوص تمثل للكاتب الروسى الطريق الأول والأوسع فى الحياة من أجل عملية الاكتشاف والتتبـع والرصد . فبداية من بوشكين وجريبويدوف وتورجينيف وجونتشاروف وديستويفسكى وشيدرين وجوجول وليرمنتوف حتى يسنن ومايكوفسكى وآخرين كان السفر والترحال وأحيانا الهجرة أو المنفى أو الإقامة خارج روسيا طريقا للاكتشاف، وقد استطاع أنطون تشيخوف-على سبيل المثال-أن يضيف بعدا أكثر أهمية فى هذا الطريق عندما ركب "الكارتة" وذهب مجازفا بحياته إلى جزر سخالين، ثم كتب كتابه الرائع الذى أغضب القيصر كثيرا. هنا يأتى دور فالنتين راسبوتين على هذا الطريق بالذات، فنجده موجودا فى كل أنحاء روسيا فى وقت واحد تقريبا، وخصوصا فى تلك المناطق التى تعانى من المشاكل بكل أنواعها ، بداية من المصاعب الاقتصادية حتى كوارث الانهيارات والحرائق. وهو يفعل ذلك ليس فقط من قبيل الواجب والمبدأ أو التحيز للفقراء والمهمشين، ولكنه يقوم بذلك وقبل كل شئ لأنه الطريق-المصير-الحقيقى للكاتب الروسى الذى يمثل له قدرا لا مفر منه، والذى سار عليه أعظم الكتاب الروس فى القرون الماضية، ولا يزال بعضهم يحافظ-ربما بدون قصد، أو حتى بقصد-على هذا النمط، وذلك تحديدا ما يجعل راسبوتين أحد أهم الأصوات العالية إذا ما دار الحديث عن روسيا، والطبيعة الروسية، والإنسان الروسى، ووحدة روسيا. إضافة إلى كل ذلك، ففى جميع أعماله الإبداعية، وحتى فى كتبه، يوجد عالم روحى خاص حيث تتشكل نماذج أبطاله أساسا بكينونة محددة، الأمر الذى يجعل فيها الحكم الأول والأخير لضمير الإنسان. وعموما فهذه الخصوصية بالذات موجودة بوضوح فى أعماله "المهلة الأخيرة" و"عش وتذكر" والتى تممها بروايته الانتقادية الحادة "الحريق" عام 1985 ونال بها جائزة الدولة للمرة الثانية.
منقول