الرحمة هي قمة العطاء فهي التي ترطب القلب وتشبّعه محبة وشفقة وقد امتلأ قلب الإمام عليه السلام بها وباتت من مظاهر شخصيته الفذّة التي استمدها من جدّه.

قال تعالى في نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[1].

وقال تعالى: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))[2].

وقد تجلّت هذه الصفة في أهل البيت عليهم السلام، وظهرت بأبهى صورها، وكما قيل وهو الحق أن الصفات السامية لا تُعرف معانيها الدقيقة إلا عند أهل البيت عليهم السلام.

وقد تجلت في الإمام الحسين عليه السلام، وفي أشد الحالات وأصعبها، وساعة العسرة هو المحك الحقيقي للإنسان، قد يعطف الإنسان في الحالات الطبيعية فهذا شيء مألوف، أما في ساعة العسرة، وبأفضل ما يكون، فهذا شيء نادر وقليل الحدوث، وقد تجلى هذا الاستثناء عند أهل البيت عليهم السلام، فتألقت الرحمة وتسابقت مع غيرها من الصفات السامية.

يقول العقّاد في كتابه القيم (الحسين سيد الشهداء):

فقد تسابقت الصفات السامية في كربلاء، فكان الإيثار يتسابق مع الجود، والجود مع الشجاعة، والشجاعة مع الشهامة، وكلها حازت قصب السبق، وهذا شيء نادر في تاريخ البشرية ((الشهامة والرجولة)).

فنحن نسمع عن الشهامة والرجولة والكرم والجود والإيثار، ولكن أن تأتي الشهامة وتعلو بها، فهذا شيء نادر، وكذلك الرجولة والإيثار، فهذه الصفات جاءت لترتفع في كربلاء، وتسموا حتى عرف السمو بها، وما كانت كربلاء لولا سمو الصفات السامية، وهذا هو النصر الحقيقي الذي ((حققته)) نهضة الإمام الحسين عليه السلام.

وتكفي نهضة الإمام الحسين عليه السلام فخراً أن جعلت ((السجايا العملاقة)) غرة في جبين الثوار الحقيقيين، لقد صنعت كربلاء نهضة حقيقية على صعيد الصفات السامية، فكان الإمام حقاً أبا الأحرار، الذي حرر الصفات الطيبة من قيود ((الاستهلاك والمجاملة والتصنع والتظاهر))، إذ لا مجال لهذه الطلاءات في ((ثورة كربلاء))، فكل السنن كانت على المحك، بما فيها سنن القيم الحقة.

جاء في كتاب (الرسالة في الثورة الحسينية):

((كان أبو الأحرار شديد الرأفة بالناس جميعاً، من أصدقاء وأعداء، يسعف كل ذي حاجة، ويغيث كل ملهوف من ألوان تلك الصور الإنسانية الرائعة التي تظهر عطف الإمام عليه السلام ورأفته في عباد الله ما حدث ((للحر وجيشه)) عندما أرسل لقتاله، رآه الإمام وقد أشرف على الهلاك من شدة العطش هو وجيشه، فلم تدعه أريحيته الحسينية العلوية النبوية أن يتأخر عن مساعدة القوم وإنقاذهم، فأمر عليه السلام غلمانه وأهل بيته أن يسقوا القوم ((عن آخرهم))، ويسقوا معهم خيولهم أيضاً، فسقوهم عن آخرهم، وكان من بين العطاشى ((علي بن الطعان المحازي)) الذي اشتدّ به العطش، فلم يدر كيف يشرب، فقام الإمام بنفسه وسقاه.

وكانت هذه البادرة الرائعة التي لم يسجّل التاريخ الإنساني مثيلاً لها، وكان مثلاً رائعاً في دنيا الشموخ أنّ أعداء الحسين عليه السلام جاؤوا لقتله إذ سمح لهم بالشرب، فشهامته وكرامته ونبله وعزة نفسه لا تسمح له إلا أن يشعر مع بني البشر))[3].

إنّ هذا اللون من الرحمة والعطف لهو خير دليل على سمو الإمام عليه السلام، ومحبته للإنسان حتى لو كان ((محارباً))، إنّ هذه القيم الفذّة هي التي أعطت الموقع الحقيقي لنهضة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وشكّلت انتصاراً حقيقياً لثورته عليه السلام.

فمعروف عن الثورات أنها ترفع الشعارات قبل انتصارها، ولكن ما إن تنتصر وتستلم زمام الحكم حتى تتراجع وتتراخى عمّا ((زعمته))، وبعضها ينسلخ تماماً ((كالثورة البلشفية والثورة الفرنسية))، ولكن الثورة الحسينية ظلّت تتفاعل مع قيمها حتى في أقسى ((الظروف))، فجاء التطبيق الفذّ لقيم ظلت سامية، كلما ذكرت نهضة الإمام الحسين عليه السلام.

وإذا كنا نعلم ملابسات الظروف القاسية التي ((أحاطت)) بالقيم الإلهية إبان ((يزيد بن معاوية))، وكيف كان يسعى ((لخنقها))، والإجهاز عليها بكل وسيلة، عرفنا المهمة الصعبة التي تكفل المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام في الحفاظ على القيم والوقوف بحزم أمام المحاولات القاسية، فقد حاول يزيد بن معاوية القضاء على القيم الإسلامية مهما كلف الأمر.

فقد أظهر التهتك بشكل لم يسبق له مثيل حتى في زمن الجاهلية، إذ لم نسمع من الجاهلين أنهم كانوا ينكحون العمات والأخوات، كما فعل يزيد، ثم لم يجهروا بالفسق والفجور، ولم يرموا الكعبة، كما فعل يزيد بن معاوية[4].

وهكذا كان التحدي كبيراً وخطيراً للغاية لأنّ الضربات التي انهالت على القيم كانت ممضة وقاسية، وفتحت ((جرحاً عميقاً)) في جسدها حتى أصابها ((الإعياء)) والإجهاد، لاسيما أن معاوية بن أبي سفيان بدأها بقوة، فأتاح الفرصة ليزيد ليكمل المشوار، فجاءت قاسية الأمر الذي ((أجهد القيم الإلهية))، ووضعها في ((النفس الأخير))، فكان الأمر يتطلب جهداً مضاعفاً، وقوة استثنائية لانتشالها.

إن إحياء القيم والمحافظة عليها يعدّ أمراً صعباً لاسيما والأمة عاشت ردحاً من الزمن كان جافاً، إذا لم تسقط ((شجرة القيم)) قطراً لتسقي في زمن معاوية، فظلت تعاني من ((ألم حرارة العطش)) حتى أوصلها إلى حافة الانهيار.

فمعاوية حاول بكل ما أوتي من مكر ودهاء القضاء على ((القيم الإلهية)) حتى عدّ الداهية الأول على هذا الصعيد، فقد استعمل أساليب مغلفة غاية في المكر والدهاء.

جاء في (كشف الغمة) للأربلي:

((ولما وصفهم معاوية وصف بني هاشم بالسخاء، وآل الزبير بالشجاعة، وبني مخزوم بالتِيه، وبني أمية بالحلم، فبلغ ذلك الإمام الحسن عليه السلام، فقال: ((قاتله الله، أراد أن يجود بنو هاشم بما في أيديهم فيحتاجوا إليه، وأن يشجّع آل الزبير فيُقتلوا، وأن يتيه المخزوميون فيُمقَتوا، وأن تحلم بنو أمية فيحبّهم الناس))[5].

وهكذا كان يمكر معاوية حتى بلغ حداً لم يستطع أقرب المقرّبين إليه ((كشفه))، وهو عمرو بن العاص.

وقد حاول معاوية الذي أدخل الإسلام في نفق مظلم حيث ((يهرم فيها الصغير ويشيب فيها الكبير)) القضاء على ((بناه التحتية)) المتمثلة بالشخصيات الفذّة من آل البيت عليهم السلام، وبالقاعدة العريضة التي احتضنت الإسلامية، وبالرموز التي يُشار إليها بالبنان، فقد سعى معاوية جـاهـداً الـقضاء على الشخصيات، وقد تمكّن من قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسن عليه السلام، وقد أحدثت هذه الضربة منعطفاً خطيراً في مسيرة الإسلام، وسوف نفصّل ذلك في العوامل التي أدّت إلى تأجيل الثورة.

بقلم: الشيخ حسن الشمري