TODAY - 06 May, 2010
رحيل رائد الكتابة "الساخرة الساحرة"، محمود السعدني
غلاف كتاب "الولد الشقي"
غيب الموت مساء الثلاثاء الكاتب المصري محمود السعدني، الذي يعتبره الكثيرون رائد الكتابة الساخرة في العالم العربي، بعد صراع مع المرض دام سنوات.
ولد محمود السعدني عام 1928، وعاش حياة حافلة بالكتابة الصحفية والابداعية.
بدأ الكتابة في صحف ومجلات قليلة الانتشار حينا كمجلة "الكشكول" وصحيفة "المصري"، ثم انتقل الى تحرير مجلات وصحف واسعة الانتشار كمجلة "صباح الخير" و "روزا اليوسف" وصحيفة "الجمهورية، وأسس مجلة "23 يوليو" التي أصدرها من لندن ورأس تحريرها بعد مغادرته مصر إثر خلافه مع الرئيس أنور السادات.
ترك محمود السعدني عدة مؤلفات منها "حكايات الولد الشقي" الذي تحول الى مسلسل إذاعي كانت له شعبية كبيرة، و"مسافر على الرصيف"، تحدث فيه عن الكثير من الشخصيات الثقافية المصرية المرموقة من كتاب وموسيقيين، كالملحن الشيخ زكريا الحجاوي والكاتب عبد الرحمن الخميسي والكاتب المسرحي نعمان عاشور والشاعر محمود حسن إسماعيل، من خلال سرده لحكايات "مقهى عبدالله" الشعبي الذي كان يرتاده مع تلك الشخصيات.
ومن مؤلفاته الأخرى"الولد اتلشقى في المنفى" الذي هو عبارة عن مذكرات السنوات التي قضاها خارج مصر بعد مغادرته لها أثناء فترة حكم الرئيس أنور السادات، و"رحلات ابن عطوطة" و "أمريكا يا ويكا".
الكتابة عنده "فعل سحر"
لم يسلم أحد من سهام محمود السعدني الساخرة ، حتى نفسه، بل يمكن القول إن إبداعه الساخر كان يتجلى حين كان يصور طفولته الشقية فيجعلك تعشق الشقاء، ويعرض أكثر المواقف بؤسا فتجدك "تفطس من الضحك" بدلا من أن "تموًت روحك من العياط "، وأنا هنا ، أحاول بلا جدوى تقليد لغته المبتكرة والفريدة، التي تجمع بين بلاغة الفصحى وحميمية العامية المصرية في انسجام يجعل سدنة المجمع اللغوي يحجمون عن الاعتراض .
كانت كتابته فعل سحر بامتياز: فهو يلتقط نقاط الضعف المشتركة عند البشر في مواقف معينة، فيتعمد تصوير تلك المواقف بشيء من المبالغة لبعض جوانبها حتى تغدو الشخصيات شبيهة بالكاريكاتير اللاذع.
تراه يكتب عن الفقر فكأنه يتغزل به، وعن الغنى فكأنه يهجوه، والقارئ يضحك في الحالتين.
حين يدعو بواب المدرسة "الولد الشقي" لمقابلة الناظر، وهذا لا يمكن أن يعني إلا واحدا من اثنين: إما "علقة ساخنة" أو إحضار ولي الأمر، وبينما هو يتجه الى غرفة "الناظر" يسمع "بائع الكشري" أمام المدرسة ينادي على بضاعته، فيحسد صبي البائع من كل قلبه لأنه ليس مضطرا لتحمل بؤس المدارس و"علقات" النظار ويد عم محمد البواب القوية الخشنة تقبض على" زمارة رقبته"، فيتمنى لو كان "صبي بائع كشري".
هذه حدود أمنية الولد الشقي: ومع أن الأحلام والأمنيات يمكن أن تكون بلا حدود، وهو شيء يدركه حتى فتى في مثل سنه، إلا أن أمنيته لم تبلغ حد أن تجعله "بائع كشري قد الدنيا" بل مجرد "صبي".
كانت المواقف المفضلة لديه للسخرية هي تلك التي ترتبط بالغرور والنفاق والمظاهر الخادعة، فنراه يعمل قلمه بمن يتحلون بهذه الصفات، أي بأي شخص تسعفه ذاكرته الحادة بموقف تعرض له، فيعمل "قلمه" فيه بلا هوادة، حتى يجعله "مسخرة".
وتبلغ لذاعة كلماته أوجها حين يسخر من نفسه، ففي إحدى كتاباته تطرق الى "موهبته" في التمثيل في بداية حياته، وعبر عن أسفه لأنه لم يسر في ذلك الطريق فيقول "لو فعلت لأصبحت نجما يشار إليه بالحذاء".
أما حين يتحدث عن بداياته ككاتب، فيصف فرحته الغامرة بعد أن نشر أول مقال له في إحدى الصحف، وحين اشترى الصحيفة ورأى اسمه على إحدى صفحاتها الى جانب عنوان مقاله اراد أن يزف الخبر الى كل من يصادفه من قريب أو غريب، وقد فعل، فكان مثلا حين يصعد الى الترام يقول للكمساري "الى صحيفة "كذا"، ثم يفتح الصحيفة على الصفحة المنشور فيها مقاله ويقول : اصلي أنا اللي كاتب المقال ده.
ثم يصعد الموقف بحسه العبقري، فيقول انه اكتشف لاحقا ان عدد النسخ التي توزعها تلك الصحيفة لا يتجاوز عدد أصدقائه، وأن شهرته قبل كتابة المقال ربما فاقت شهرته بعد نشره.
شخصياته الشعبية البائسة تتحلى بأصالة تجعلها قريبة الى قلب القارئ وعالمها ينتزع تعاطفه، كما تنتزع المواقف الطريفة التي تمر بها ضحكاته.
لا أثر للمرارة في كتاباته، برغم المواقف الصعبة التي كتب عنها، خاصة في مذكراته.
حتى حين يتعرض لمن ناصبوه العداء، يحس القارئ وكأنه يرشقهم "برشاشات ماء" كالتي يلعب بها الأطفال، فأقصى ما يصيبهم من ضرر هو "أن تبتل مؤخراتهم" مما يجعلهم مثيرين للضحك، ولكنه لا يطلق عليهم حقدا أسود .
"الشقي" والنظام
بقدر ما أمتع محمود السعدني في كتاباته القارئ العادي بقدر ما استعدى الأنظمة.
على الرغم من حماسه لنظام جمال عبد الناصر لدرجة انخراطه في التنظيم الطليعي، إلا أنه لم يسلم من الاعتقال، وقضى سنتين من حياته في السجون دون أن توجه له تهم محددة.
أما غضب أنور السادات عليه فقد بدأ في مرحلة مبكرة، حيث فصل من عمله في جريدة الجمهورية "بسبب نكتة أطلقها على السادات" كما قال في احد كتبه.
ثم فرضت قيود على كتاباته في عهد السادات، فغادر مصر وتنقل بين بيروت وبغداد والكويت والإمارات العربية، ثم لندن التي أصدر منها مجلة "23 يوليو" التي كان يدافع فيها عن نظام حكم عبد الناصر.
وبعد اغتيال السادات عاد السعدني الى مصر، وتابع الكتابة الى أن اضطر الى الاعتزال بسبب المرض عام 2006.