Friday, december 16, 2011
البحث عن "جسيم الله" تجاوز حدود علم الطبيعة



مازال العلماء بمصادم هادرون الكبير في حيرة من أمرهم بشأن جسيم هيغز، أو "جسيم الرب"، حيث لم يتوصلوا بعد لتأكيدات بشأن وجوده، رغم تحدثهم مؤخراً عن "تلميحات محيرة" بشأن وجوده. غير أنهم رفضوا في السياق ذاته النظرية التي ربطت بين جهودهم البحثية وبين الرب، قائلين إنها صحيحة فقط من الناحية الفنية.
هذا ويمكن للفيزياء الحديثة أن تقوم بتقديم تفسيرات لأي شيء، باستثناء السبب وراء وجود كتلة لأي شيء.
ويستعين نموذج الفيزياء المتعارف عليه، الذي ظهر قبل 4 أعوام، بصيغة حسابية أنيقة لحساب معظم العناصر الأساسية في الكون.
وقد تنبأ هذا النموذج بشكل صحيح باكتشاف العديد من اللبتونات والكواركات في المختبر.لكن المعادلات لم تقدم تفسيراً للسر وراء الجاذبية.
ما جعل نموذج الفيزياء المتعارف عليه يقتضي وجود بعض القوى الأخرى التي تحظى بالجسيمات عديمة الكتلة التي نتجت عن الانفجار العظيم واستوعبت بداخل الطبيعة.
وقالت هنا صحيفة واشنطن بوست الأميركية إن اكتشاف بوزونات هيغز سيؤكد تلك النظرية – التي تفسر سر إقدام العلماء على تحطيم البروتونات ببعضها البعض في مسرع جسيمات دائري مساحته 17 ميل والاختيار بين الحطام دون الذري.

بحاجة لبضعة سنوات
ومن المتوقع، بحسب الصحيفة، أن يحتاج العلماء لبضعة سنوات إضافية قبل أن يتوصلوا لنتائج حاسمة. لكن معظم العلماء لا يبدو وأنهم يقدرون اللااحتمالية المجيدة – الآثار الفلسفية – للمشروع بأكمله.وفي العام 1928، قام عالم الفيزياء النظرية، بول ديراك، بدمج الصيغ الرياضية للنسبية وميكانيكا الكم في معادلة واحدة وتوقع كذلك وجود المادة المضادة. وتابعت الصحيفة الأميركية هنا بلفتها إلى أن الفيزياء الحديثة لا تتكون من ظواهر موزونة تُلَخَّص في معادلات أنيقة؛ بل تتكون من معادلات أنيقة يمكنها التنبؤ بالظواهر الموزونة.
وهو ما يطلق عليها "الفعالية غير المعقولة للرياضيات". ومع أنها غير معقولة، فإنها أدت إلى بناء مصادم هادرون الكبير بطول الحدود الفرنسية – السويسرية، وهذا المصادم هو أكبر آلة تمكن الإنسان من تشييدها على مر العصور. وفي حديثه مع الصحيفة، تذكر دكتور أرد لويس، عالم الفيزياء الشاب الذي يدرس في جامعة أكسفورد، وهو يطلع للمرة الأولى على معادلة ديراك، قال :" كيف يمكن للرياضيات أن تطلب ثمة شيء خيالي للغاية من الطبيعة ؟ كنت متأكد من أنها لا يمكن أن تكون صحيحة، وقضيت عدة ساعات محاولاً العثور على مخرج.
وعندما استسلمت في الأخير وأدركت أنه ليس هناك من نهج بشأن نتائج ديراك، شعرت بقشعريرة".وتابعت الصحيفة بقولها إن عدم الاحتمالية الجامحة لوجود كون والتي تسمح لنا بإدراكه يبدو وأنها تتطلب قدراً من التوضيح. وهو ما لا يتطلب توحيد (إيمان بالله).
فبعض خبراء الفيزياء يفضلون ويؤيدون النظرية الخاصة بالأكوان المتعددة، التي يتواجد بها كل كون محتمل في وقت واحد.وإن حدث كل شيء، فلن يكون من باب المفاجأة أن يحدث أي شيء. لكنها ليست النظرية التي يمكن اختبارها من الناحية العلمية. فالأكوان الأخرى، بحكم التعريف، لا يمكن الوصول إليها. أما البديل الوحيد المعقول، الذي أيده لوس، فهو التوحيد أو الإيمان بالله.
فهو يقدم تفسيراً لكَون ملائم للحياة ويمكن الوصول للعقل البشري ويكون مسؤول كذلك عن الصدف الكونية.
والمفتاح في الفيزياء كثيرا ما يكون طرح سؤال بديهي بحيث ما كان ليفكر أحد في اثارته. فالتفاحة تسقط على الأرض منذ غابر الزمان.
وتطلَّب الأمر عبقرية السر اسحاق نيوتن كي يتساءل عن السبب.
وما يساعد، بالطبع، أن تتوفر لديك القدرة الذهنية على التوصل الى إجابة.
ومن حسن الحظ ان نيوتن كان يمتلكها. وبهذه الروح، قبل نحو 50 عاماً، سأل لفيف من الفيزيائيين اللَّماحين أنفسهم من أين تأتي الكتلة. وعلى غرار ميل التفاحة الى السقوط على الأرض فان وجود الكتلة ظاهرة يومية حتى الفكرة القائلة بأنها تحتاج الى تفسير ما كانت لتخطر على اذهان غالبية الناس. ولكنها خطرت على ذهن بيتر هيغز الذي كان وقتذاك باحثا شابا في جامعة ادنبرة، وخمسة علماء آخرين لم تعاملهم غرائب الشهرة معاملة رحيمة. فهم ايضا كانوا يمتلكون القدرة الذهنية الثاقبة. وامتشقوا أقلامهم وأوراقهم وكتبوا معادلات كانت محصلتها النهائية تنبؤاً.

مجال هيغز
واحتسب الباحثون أن سبب الكتلة التي تمتلكها الجسيمات الأساسية هو تفاعلها مع مجال يمتد في الفضاء كان مجهولا في السابق. وأصبح هذا المجال يُسمى مجال هيغز (دونما أي استهانة بالخاسرين في سباق الشهرة). وثمة من الناحية التقنية حاجة الى وجوده لتفسير ظاهرة اسمها كسر التناظر الكهرو ـ ضعيف.
وهي ظاهرة تفرق بين قوتين اساسيتين من قوى الطبيعة هما القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة. وعندما يحدث هذا التقسيم يتبدى شيء من الرياضيات المتبقية كجسيم.
واصبح هذا الجسيم المفترَض معروفا باسم بوزون هيغز الذي أُعلن اكتشافه المحتمل للعالم في 13 كانون الأول/ديسمبر. يطالب الفيزيائيون بمستوى من البرهان يُعتبر عاليا إلى حد غير معقول في أي نشاط بشري آخر (بما في ذلك نشاطات علمية أخرى)، وهو ان تكون احتمالات الخطأ في النتيجة 1 الى 3.5 مليون.
وأن النتائج الجديدة ـ من تجارب أُجريت في المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية، أكبر مختبر في العالم للفيزياء الجسيمية يستخدم صادم هادرون الكبير الذي كلف بناؤه مليارات الدولارات ـ نتائج لا تقترب منفردة من هذه الحافة.
ولكن ما أثار العلماء انهم توصلوا الى نتائج واحدة اساسا من تجربتين في صادم هادرون الكبير تعملان بطريقتين مختلفتين اختلافا تاما. ويزيد هذا التطابق الى حد كبير احتمالات ان يكون العلماء اكتشفوا ما يبحثون عنه.
وإذا ثبت اكتشافهم فان ذلك سيكون شيئا رائعا ، ليس للعلم وحده. ورغم ان الدول لم تعد ترتجف تحت اقدام الفيزيائيين المختصين بدراسة الجسيمات ـ الرجال وبعض النساء الذين حرروا ذات يوم الطاقة التدميرية للقنبلة الذرية ـ فان الفيزياء ما زالت قادرة على بث الخوف بطريقة أخرى ، باماطة اللثام عن الحقائق الأساسية التي تكمن في أساس الواقع.

سلوك نموذجي
سيؤشر العثور على بوزون هيغز نهاية فصل في هذه القصة. فان البوزون المراوغ يستكمل ما أصبح معروفا بمصطلح "النموذج المعياري للفيزياء" ـ تفسير يعتمد على 17 جسيما اساسيا وثلاث قوى فيزيائية (رغم ان النموذج يرفض بعناد استيعاب قوة رابعة هي الجاذبية ، التي تفسرها نظرية البرت انشتاين في النسبية العامة تفسيرا منفصلا). والأكثر إثارة للفضول ان بوزون هيغز يفتح فصلا آخر في الفيزياء ايضا. يتمثل مخطط الفيزيائيين في استخدام النموذج المعياري اساساً لبناء صرح أكبر وأجمل يُسمى التناظر الفائق أو "السوبر تناظر".
ويتنبأ هذا البناء بمجموعة أخرى من الجسيمات ، هي الشريكات الأثقل للجسيمات المكتشَفة. ولكن درجة تفوقها في الثقل تعتمد على درجة ثقل بوزون هيغز نفسه. وتشير النتائج التي أُعلنت مؤخرا الى انه خفيف بما فيه الكفاية لتكوين بعض الجسيمات فائقة التناظر المتوقعة في صادم هادرون الكبير ايضا. ويشكل هذا مبعث ارتياج بالغ للعاملين في المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية.
فلو أثبت بوزون هيغر كونه أثقل بكثير مما يعنيه الاعلان الأخير لوجدوا أنفسهم إزاء الكثير من الأدوات الفائضة لديهم. وهم يستطيعون الآن ان يبدأوا بالبحث عن لُبنات التناظر الفائق ليروا إن كان هو ايضا متطابقا مع تنبؤات الفيزيائيين. وفي تداخل بين فيزاء الجسيمات وعلم الكون بصفة خاصة سيحاولون ان يكتشفوا ما إذا كانت أخف الجسيمات الشريكة ذات التناظر الفائق ثقلا تشكل ماهية "المادة الداكنة" الغامضة حتى الآن، التي تُبقي جاذبيتها المجرات مترابطةً.

نقد العقل الخالص
من أغرب الأشياء في الكون هو هذه القدرة على التنبؤ ـ أن يكون من الممكن كتابة معادلات تصف المرئي، وتستقرئ منه ما هو ليس مرئيا. واستطاع نيوتن ان ينتقل من سلوك الأجسام الساقطة على الأرض إلى الآلية التي تُبقي الكواكب في مداراتها. وتنبأت معادلات جيمس كلارك ماكسويل التي اشتقها في منتصف القرن التاسع عشر ، بوجود موجات إشعاعية.
وبدأت القنبلة النووية مع معادلة انشتاين الشهيرة E=mc {+2} (الطاقة = الكتلة X سرعة الضوء تربيع)، التي كانت نتيجة مشتقة من خلال السؤال عن كيف ستتصرف الأجسام حين تنطلق بسرعة تقرب من سرعة الضوء. وكان البحث عن المادة الضد، تلك السمة الحاضرة ابدا في روايات الخيال العلمي ، نتيجة معادلة عن الالكترونات لها مجموعتين من الحلول ، مجموعة ايجابية وأخرى سلبية. يوجين ويغنر، احد الفيزيائيين الذين أظهروا في عشرينات القرن الماضي أهمية التناظر للكون (فكان بذلك أب التناظر الفائق) وصف هذا بأنه "الفاعلية اللامعقولة للرياضيات".
وبالطبع فان مثل هذه التنبؤات لم تتحق كلها. ولكن القدرة التنبؤية للفيزياء الرياضية ـ على الضد من القوة التفسيرية للرياضيات بعد وقوع الحدث في فروع أخرى ـ ما زالت قدرة استثنائية. وقد يرى البعض يد الله في مثل هذه القدرة على التنبؤ، بل ان بوزون هيغز معروف لدى كتاب العناوين الصحفية البارزة باسم جسيم الله (رغم ان أول من اطلق هذا الأسم في الواقع كان محررا مختصا بالحذف اختصر اشارة كاتب الى "ذلك الجسيم اللعين").
ويفضل آخرون الوقوف مبهورين أمام كون يظنون ان بدايته كانت تذبذبا كميا في لا شيء موجود سلفا.
ونعم، هناك حسابات تشرح كيف كان من الجائز ان يحدث ذلك. ولكن على كلا الجانبين أن يكونا مذهولين لا إزاء الكون فحسب، بل إزاء الرجال والنساء الذين جردوا الكون وما زالوا يجردونه من لغزه ـ وهم يفعلون ذلك دون أن ينتقصوا من عجائبيته بالمرة.
وبذا فانه في وقت يبدو مستقبل اوضاع البشر غامضا على نحو خاص ، نرفع نخبا الى قدرة الفزياء على التنبؤ.

اقرأ ايضا.. مواضيع ذات صلة:
"جُسيم هيغز بوسون" والسؤال الشكسبيري يكون أو لا يكون!
جسيم هيغز بوسون الغامض