مقومات القصة الومضة التي اشترطها النقاد: أثير الغزَي
إن القصة الومضة المتميزة بإبداعٍ وتقانة تنهض على خمسة مقومات رئيسة هي:
1ـ عتبة النص (العنوان):
أي بوابة القصة الومضة، التي توجه القارئ لقراءة المتن القصصي المكثف، وتساعده على مزيد من التلقي و التأويل، وهو مجموعة من العلامات التي تسبق المتن القصصي، ولا يكتمل المنجز إلا بها.
2- التكثيف والتركيز :
أي الاقتصاد في الكلمات والاكتفاء بالقليل منها مما يفي بالغرض. فالقصة الومضة مكثفة جدًا , وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات والانثيالات الواعية وغير الواعية ، إضافةً إلى تركيزها على خط قصصي هام يتمثل فيالتكثيف في عدد الكلمات التي توصل إلى الموقف. ورصدها بمهارة شديدة حالات إنسانية شديدة الصدق. ويشبه خليل خلف سويحل التكثيف بـ" قطرة عطر فواحة".وإذا كان الأصل في القص الحكائي هو الاستطراد والتوسع فإن"القصة الومضة تبني رهانها الجمالي على أن الكتابة هي فن الحذف لا فن الإضافة".
كيف ينشئ الكاتب لغةً مكثفة ؟
ثمة إجراءات تمكِّن الكاتب من تكثيف لغته , وتخليصها من الترهل وهي:
أ- استعمال أفعال الحركة حيثما يكون ذلك ممكنا (لجأ , يتذكر, مشى) , والتقليل من استخدام أفعال الوصل والأفعال الناقصة مثل: يبدو , وصار وكان.
ب- تجنب استعمال الصفات والظروف إلا ما كان ضروريا للأيحاء والدلالة, "وعندما تُستخدَم أفعال الحركة فسوف تسقط الصفات والظروف وحدها". وعلى الكاتب تذكر أن القصة الومضة "تدريب على الاقتصاد بالكلمات".
ج- الاعتماد على جملتين أو ثلاثة, والتقليل من استخدام حروف الربط .
ويجدر بالكاتب ألا يتورط بدعوى التكثيف في خطأ تغييب البطل "فغياب البطل غيابًا تامًا يقرب القصة من جو الخاطرة, فالبطل هو "حامل للحدث والفعل والكثير من الأوصاف في القصة, وغيابه يعني تقليلاً من قيمة القصة كفن. ويخطئ من يحاول الابتكار من خلال إلغائه البطولة والتحرك في جو من تراكم الوصف دون التقدم إلى الأمام...ومشكلة النماذج الجديدة أنها تغزل كثيرًا على التكثيف حد الوقوع في إشكالية اللعب وتجاوز القص إلى الافتعال. يأتي هذا من باب ابتداع الإيجاز كغاية لا كوسيلة".
3- الإيحـاء :
يفضي التكثيف الناجح إلى لغة مشعة بالإيحاءات والدلالات فتكون رشيقة في إيصال المعنى والمضمون.والإيحاء هو "أن تجعل قارئك يعرف ما تتحدث عنه ـ أو أن تقوده إلى الاعتقاد بأنه يعرف عما تتحدث، من دون إعلامه ذلك بصورة مباشرة. وكلما جعلت قارئك يستنتج، زاد انشغاله بقصتك". إن الإيحاء هو عكس المباشرة والتقريرية , وعلى الكاتب ألا يسلك بلغته - في سبيل الإيحاء- التنميقَ الأسلوبي المفتعل . 4-المفارقة:
المفارقة التصويرية هي طريقة في الأداء الفني "تقوم على إبراز التناقض بين طرفين كان من الفروض أن يكونا متفقين" ، و"التناقض في المُفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل". وتعني "في أبسط صورها القصصية: جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية، أو هي تعرّف الشخصية تعرّف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمور متناقضة لوضعها الحقيقي، فالمفارقة هنا درامية. والمفارقة عمومًا صيغة بلاغية تعني: قول المرء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح". وهي تقنية قصصية تبعث على الإثارة والتشويق, وقد تفتق الضحك , "الذي يتحقق من ثنائية المفارقة, التي من الممكن أن تحمل أبعاد التقابل أو التضاد، الرفض أو القبول، الواقعي وغير الواقعي المؤمل أو المتخيل".
إن "المفارقة خلاصة موازنة ومقارنة بين حالتين يقدّمهما الكاتب من تضاد واختلاف يُلفتان النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلنًا، بل يمكن أن يُستشف من النص، وهذه الثنائيات في صورة ما معطى لغوي، حمل دلالات في الموقف والمضمون، ولذا فإنَّ مثل هذه الثنائيات قد تُضحكنا من جهة، لكنها تنغرز في جدران أرواحنا تحريضًا من جهة أخرى. والمفارقة تزيد إحساسنا بالأمر، إنها تُسهم في تعميق فهمنا للأمور وإيصالها بطريقة إيحائية أجدى من الطريقة المباشرة" . 5- الخاتمة المدهشة : "وتشكل في قصة الومضة الغاية والهدف، ولذلك فهي تختلف عن أساليب الخاتمة في القصة القصيرة جداً التي من الممكن أن تكون واضحة، أو مرمزة، أو مفتوحة على احتمالات كثيرة، أما في القصة الومضة فإن الخاتمة فيها ليست وليدة السرد كما في القصة القصيرة جداً، أو إحدى مفرزاته، كما أنها ليست معنية بالمضمون الذي من الممكن أن يفرض خاتمة ما، بل هي الحامل الأقوى لعناصر القصة الومضة، فهي قفزة من داخل النص المتحفز إلى خارجه الإدهاشي والاستفزازي , فهي مجلى النص في داله ومدلوله ويتوشج كلاهما دون أن يحاول أحدهما تعويم الآخر، أو الإساءة إليه أو تقزيمه" .
والقصة الومضة لا تخضع للبناء الأرسطي للدراما : بداية , قمة , سقوط , وإنما هي بدون بداية في الغالب وهي "تركز على النهاية , ولذلك شبهت بالرصاصة التي ينحصر هدفها الأساس في إصابة الهدف بكل طاقتها الانفجارية.
وعلى الرغم من الإيجاز في القصة الومضة فإنها ليست مجرد مقدمة لقصة أطول، ولابد أن يشعر القارئ بالرضا عن النهاية؛ فلا يتساءل وماذا بعد؟ مهم جدا في القصة الومضة ألا يترك القارئ منتظرًا المزيد. وقد أتى على هذه المقومات بصورة متكاملة الناقد د. محمد رمصيص في قوله:
"إن قصر هذا الجنس الأدبي ليس خاصية كمية بقدر ما هو خاصية جمالية.بمعنى أن اعتماده على التكثيف والحذف يجعله يترك وحدة الانطباع من جهة،ومن جهة ثانية يعوض قصره بامتدادات المعنى وتداعيات الدلالة من خلال جعل القارئ في قلب تشكيل دلالة النص وملأ بياضه وفراغه..لكن هذا يستدعي من القاص كذلك دقة انتقاء اللحظة القصصية واعتماد النهاية غير المتوقعة والمفاجئة..وبالتالي نهجه لكتابة مجازية تحيل ولا تصرح،ترمز ولا تقرر". إن القصة الومضة لا يهمها الانشغال كثيرًا بالحدث والأحداث بقدر ما يهمّها أن تؤدي غرضها الفني في أن تبرق وتشع داخل النص القصصي أولاً ، ثم في داخل وجدان المتلقي ثانيـًا . وإذا ما توافرت على هذه الشروط وهي : والتكثيف , والموحيات والدلالات, ومعها المفاجأة الصادمة التي تصل حدّ الإثارة وتحفيز مخيلة القارئ وهواجسه تجاه ما يقرأ ويتفاعل معه وينفعل به , فهي قصة ومضة بامتياز.
منقول