اللهم صلِّ على محمد و آل محمد و عجل فرج قائم آل محمد
فلسفةُ الابتلاء الإلهي
الكاتب/ نائل الحسيني
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (ما كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..) (1).
امتحان الانسان سنة الهية شاملة لكل البشر وبدون استثناء، والمؤمن خاصة وبنص هذه الاية الكريمة لن يترك من دون امتحان واختبار ليتم تمييز المؤمن الخالص عن غيره.
والقران الكريم يؤكد في ايات كثيرة ان مجرد كون الانسان مؤمنا لا يستثنى من هذه السنة الالهية، بل ان الشخص لكي يدخل الجنة لا بد ان يمر بطريق مليء بالصعوبات والضغوط والبلاءات لكي يرى صبره وتحمله ومدى طاعته لله عز وجل،
يقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (2)، ويقول تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (3).
ويكشف الامام موسى بن جعفر(ع) عن رابطة وعلاقة وثيقة بين درجة ايمان الشخص وشدة بلاءه، فيقول: (مثل المؤمن مثل كفتي الميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلاءه) (4).
فيأتي السؤال: لماذا هذه السنة الالهية؟ ولماذا لا يكون المؤمن مستثنى من هذه السنة؟ فنحن نعلم ان المؤمن انما يكون في جميع شؤونه تحت رعاية المولى تعالى فهل هذه العناية تتلائم مع الابتلاءات؟
في مقام الجواب نقول ان الشدائد والابتلاءات التي تصيب المؤمن تعتبر مقدمة لكمال الشخص وسعادته، فصبر الانسان واستقامته مع تلك الابتلاءات موجب لكمال النفس ورفعتها وموجب للقرب الالهي، فيكون البلاء في الحقيقة لطفاً ونعمةً في لباس النقمة،
يقول الامام الباقر(ع): (ان الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل اهله بالهدية من الغَيبة) (5).
وبعبارة اخرى: ان الابتلاء الذي يجري على الانسان سيزيد من كمالاته ودرجاته المعنوية، فيكون ذلك الشخص مورد توجه وعناية من الله تبارك وتعالى، و سيشعر بحلاوة الشفقة والرحمة الالهية، ، وسيستلذ بحلاوة الدعاء والمناجاة والتضرع إلى الله تعالى بقلب منكسر، فتزداد بذلك درجته الايمانية، وسيكون من المقربين إلى الله تعالى في الدنيا والاخرة.
ويؤكد نبينا الاعظم(ص) على ان مصائب المؤمنين تكون بمنزلة غذاء التكامل المعنوي للانسان، فيقول: (ان الله ليغذي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذي الوالدة ولدها باللبن) ، لذلك تعتبر الابتلاءات للمؤمنين نعمة وعطاء من الباري تعالى يحمد ويشكر عليها، لان المؤمن يعلم جيدا انه (ما من بلية الا ولله فيها نعمة تحيط بها) (7) كما يقول امامنا الحسن العسكري(ع).
اذن فهناك رابطة بين شدة البلاء وبين درجة ايمان الشخص وكثرة ثوابه في حال الصبر والاستقامة، عن امير المؤمنين(ع) : (ان اعظم الجزاء مع اعظم البلاء، وان الله اذا احب قوماً ابتلاهم) (8).
واذا راجعنا الايات القرانية وكتب التاريخ والسير نجد ان اشد الناس ابتلاءً على مر العصور هم الانبياء والرسل والاولياء مع ما لهم من المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، لكنهم يعلمون ان هناك مقاما ارفع واسمى لن ينالوه الا بالصبر على البلاء، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (9)،
فنرى نبي الله ابراهيم (ع) خليل الله لشدة قربه من المولى تبارك وتعالى، تعرض إلى بلاء شديد وصعب جدا مع ما هو عليه من كونه نبيا مرسلا ومقربا ، حيث ابتلي بالاحراق بالنار في سبيل دعوته، وابتلي بترك زوجه وولده الرضيع وحدهما في صحراء جرداء، وبعد فراق طويل يلتقي بأهله ولكنه يبتلى بذبح ابنه في اليوم التالي لوصوله كما يروى، فنجد هذه الابتلاءات القاسية جدا لشخص لا يعتبر مؤمنا عاديا بل نبيا من انبياء الله المقربين، وما ذلك الا لاجل تحصيل الرتبة المعنوية السامية والمقام العالي عند الله عز وجل، عن طريق الصبر في طاعة الله، وكلما كانت درجة ايمان الشخص عالية كلما كان الابتلاء عظيما، يقول الامام الصادق(ع): (ان اشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الامثل فالامثل) (10).
اذن من خلال ذلك كله نعرف ان البلاء الذي يصيب الانسان هو خير نتصوره شرا، ليتم من خلاله تمييز المؤمن المخلص من المنافق، وزيادة درجة ايمان الشخص وزيادة ثوابه عند صبره واستقامته في المصيبة، نعوذ بالله تعالى ان نخسر عند بلاءة وامتحانه فيكون البلاء مصيبة لنا في الدنيا، وابتعادا عن رحمة الله تبارك وتعالى وقربا إلى نار جهنم في الاخرة.
ـــــــــــــــــــــــــ ـ
1- ال عمران/179
2- البقرة/214
3- العنكبوت/2
4-بحار الانوار ج64 ص243
5- وسائل الشيعة ج3 ص263
6- بحار الانوار ج78 ص195
7- بحار الانوار ج75 ص374
8- مشكاة الانوار ص517
9- السجدة/24
10- الكافي ج2 ص259