بمقدمة الدراسة, يقول الكاتب: إن "استخدام مفهوم الثقافة يدخلنا مباشرة في النظام الرمزي وفي ما يتعلق بالمعنى، أي في أصعب ما يمكننا الاتفاق عليه".
ويتابع القول: إنه "خلافا لمفهوم المجتمع الذي ينتمي إلى الحقل الدلالي...، فإن مفهوم الثقافة لا ينطبق إلا على ما هو إنساني. وهذا المفهوم يتيح إمكانية فهم وحدة الإنسان في تنوع أنماط حياته ومعتقداته".
من هنا, فإن كل ما ينشأ عن الأصالة, ويساهم في الإغناء الفكري والروحي يعتبر ناجما عن الثقافة. "أما المظاهر البراقة والخفة والتهذيب السطحي, فينتمي إلى الحضارة... فالثقافة تتعارض مع الحضارة, كما يتعارض العمق مع السطحية. وتعتبر الطبقة المثقفة البورجوازية الألمانية طبقة نبلاء البلاط متحضرة, لكنها تفتقر إلى الثقافة. وكما أن الرعاع يفتقرون إلى الثقافة أيضا, فإن الطبقة المثقفة تعتبر نفسها مكلفة، نوعا ما، بمهمة تطوير الثقافة الألمانية وتلميعها... لأن كل ثقافة تعبر، بطريقتها الخاصة, عن وجه من أوجه الإنسانية". إذ "قبل الثقافة الفرنسية والثقافة الألمانية والثقافة الإيطالية, كانت هناك الثقافة الإنسانية", يقول الكاتب على لسان أرنست رينان.
من جهة أخرى, يرى إدوارد تايلور أن "الثقافة أو الحضارة بمعناها الإناسي الأوسع، هي ذلك الكل المركب, الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى, التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع".
أما ليفي شتراوس, فيقول التالي: "يمكن اعتبار الثقافة كمجموعة من المنظومات الرمزية التي تحتل المرتبة الأولى فيها اللغة وقواعد الزواج والعلاقات الاقتصادية والفن والعلم والدين. وهذهالمنظومات كلها تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه الواقع المادي والواقع الاجتماعي, وكذلك العلاقات التي يقيمها هذان النمطان مع بعضهما بعض, وتلك التي تقوم بين المنظومات الرمزية نفسها مع بعضها".
ويرى أنه لا يمكن فهم الثقافات الخاصة دون الرجوع إلى الثقافة, "التي هي رأس المال المشترك" للبشرية, والتي تمتح الثقافة منها لوضع نماذجها النوعية.
ويلاحظ أيضا بأنه في فضاء اجتماعي معين، هناك دائما تراتبا ثقافيا, بين المهيمن والخاضع, تماما كما ذهب إلى ذلك ماركس, عندما اعتبر أن ثقافة الطبقة المهيمنة تتمتع بنوع من التفوق الداخلي أو الجوهري, أو حتى بقوة انتشار تكتسبها من "جوهرها" الخاص, والذي يجعلها تسيطر "بشكل طبيعي" على الثقافات الأخرى. ويعتبر كل من ماركس وويبر أن القوة النسبية التي تتمتع بها الثقافات المختلفة في التنافس القائم بينها, يرتبط مباشرة بالقوة الاجتماعية النسبية للجماعات البشرية التي تشكل حاملا لها.
إلا أن الكاتب يعتقد أن البحث عن ثقافة مهيمنة أو عن ثقافة خاضعة ليس إلا ضربا من ضروب المجاز. "إذ ما نراه موجودا في الواقع، هو عبارة عن جماعات اجتماعية بينها علاقات هيمنة وتبعية إزاء بعضها بعضا".
من هذا المنظور، ليست الثقافة الخاضعة بالضرورة ثقافة مغتربة وتابعة تماما. إنها ثقافة لم تستطع عبر تطورها، أخذ الثقافة المهيمنة (والعكس صحيح أيضا وإن كان بدرجة أقل) بعين الاعتبار, لكنها تستطيع إلى حد ما، مقاومة الفرض الثقافي المهيمن.
أما كلود غرينيون وجان كلود باسرون, فيريا أن علاقات الهيمنة الثقافية لا يمكن فهمها عن طريق تحليل علاقات الهيمنة الاجتماعية نفسه, "لأن العلاقات القائمة بين الرموز, لا تعمل وفقا للمنطق نفسه القائم بين المجموعات أو الأفراد. فغالبا ما نلاحظ تغييرات بين آثار(أو الآثار المضادة) الهيمنة الثقافية وبين آثار الهيمنة الاجتماعية. فالثقافة المهيمنة لا تستطيع فرض نفسها أبدا على ثقافة خاضعة, كما تفرض مجموعة نفسها على مجموعة أخرى أضعف منها. فالهيمنة الثقافية لا تكون أبدا شاملة ولا تتحقق بشكل نهائي، ولذلك فهي تترافق دائما بعمل تلقيني, لا تكون آثاره دائما وحيدة الجانب. وتكون هذه الآثار أحيانا آثارا حضارية مخالفة لتوقعات المهيمنين، لأن التعرض للهيمنة لا يعني دائما القبول بها".
ويرى الباحث أن الصرامة المنهجية تفرض دراسة ما تدين به الثقافات الخاضعة, باعتبارها ثقافات مجموعات خاضعة، وباعتبارها تبني أو تعيد بناء نفسها في وضع الهيمنة. لكن هذا "لا يمنع دراستها أيضا في حد ذاتها، أي باعتبارها منظومات تعمل وفق نوع من التجانس الخاص, وإلا فلا داع للحديث عن ثقافة".
وفي ربطه للثقافة بالهوية, يلاحظ المؤلف أن هناك نظريات كثيرة حول الهوية الثقافية, توصف بالنظريات "الأولية", وهي التي ترى أن الهوية العرقية/الثقافية هي هوية أولية "أساسية", لأن الانتماء للمجموعة العرقية هو أول الانتماءات الاجتماعية وأكثرها جوهرية. ففيها "تنعقد أكثر الروابط تحديدا, لأن الأمر يتعلق بروابط قائمة على السلالة المشتركة. بمعنى أنه في كنف الجماعة يتم تقاسم أعمق المشاعر والتضامنات, وأكثرها قدرة على تحديد هيكل الجماعة. وبهذا التعريف تبدو الهوية الثقافية بمثابة ملكية أساسية لازمة للجماعة, لأن هذه الجماعة تقوم بنقلها عبر أفرادها وإليهم, دون الرجوع إلى الجماعات الأخرى. ويكون اكتساب الهوية بمثابة تحصيل حاصل لأن الأمر يبدأ به".
ويخلص المؤلف إلى أن المجتمعات الحية هي "المجتمعات ذات الهوية المرنة", أي تلك التي تفرد مكانة واسعة للتجديد وللابتكار الاجتماعي, "لأن ظاهرتي الانصهار والانقسام العرقيتين تشيع فيها,ولا تقتضي بالضرورة حدوث نزاعات حادة".