خائفاً ذعراً مما قال، حتى سجدت في مسجدي لربي وعفّرت له وجهي وذلّلت له نفسي وبرئت إليه مما هُتف بي، ولو أنّ عيسى بن مريم عدا ماقال الله فيه إذاً لصمّ صمّاً لا يسمع بعده، وعميَ عمىً لا يبصر بعده أبداً، وخرس خرساً لا يتكلم بعده أبداً، ثم قال: لعن الله أبا الخطاب وقتله بالحديد(1). وروى أبو عمرو الكشّي عن سعد، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين ابن سعيد بن أبي عمير، عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: إنّ بناناً والسري وبزيعاً لعنهم الله تراءى لهم الشيطان في أحسن ما يكون صورة آدمي من قرنه الى سرّته.
قال: فقلت إنّ بناناً يتأول هذه الآية: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)(2). إنّ الذي في الأرض غير إله السماء، وإله السماء غير إله الأرض، وأنّ إله السماء أعظم من إله الأرض، وأنّ أهل الأرض يعرفون فضل إله السماء ويعظّمونه، فقال: والله ما هو إلاّ وحده لا شريك له، إله من في السماوات وإله من في الأرضين، كذب بنان عليه لعنة الله، لقد صغّر الله جلّ وعزّ، وصغّر عظمته(3).
وروى الكشي بإسناده عن أبي عبدالله(عليه السلام)، في قول الله عزّ جل:
____________
1- الكافي: 8/226.
2- الزخرف: 84.
3- رجال الكشيء: 4/592.
(هل اُنبّئكم على من تنزّل الشياطين* تنزّل على كلّ أفّاك أثيم)(1). قال(عليه السلام): "هم سبعة: المغيرة بن سعيد، وبنان، وصائد، وحمزة بن عمار الزبيدي، والحارث الشامي، وعبدالله بن عمرو بن الحارث، وأبو الخطاب"(2).
الصفحة 165
وأخرج الكشي عن حمدويه، قال: حدثنا يعقوب، عن ابن أبي عمير، عن عبدالصمد بن بشير عن مصادف، قال: لما أتى القوم الذين أتوا بالكوفة(3) ودخلت على أبي عبدالله(عليه السلام)فأخبرته بذلك، فخرّ ساجداً وألزق جؤجؤه بالأرض وبكى، وأقبل يلوذ باصبعه ويقول: بل عبدالله، قنٌّ داخِر، مراراً كثيرة، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته، فندمت على إخباري إيّاه، فقلت: جعلت فداك، وما عليك أنت ومن ذا؟ فقال: يا مصادف، إن عيسى لو سكت على ما قالت النصارى فيه لكان حقاً على أن يُصمّ سمعه ويعمي بصره، ولو سكتُّ عما قال فيَّ أبو الخطاب لكان حقاً على الله أنّ يصمّ سمعي ويعمي بصري(4).
وروى الكليني عن سدير، قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّ قوماً يزعمون أ نّكم آلهة يتلون بذلك عليناً قرآناً: (وهو الذي في السماء إله
____________
1- الشعراء: 221 و222.
2- رجال الكشي: 4/591.
3- يعني قولهم بربوبية الإمام.
4- رجال الكشي: 4/588.
وفي الأرض إله)(1). فقال: يا سدير! سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء، برئ الله منهم، ماهؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم. قال:
الصفحة 166
قلت: وعندنا قوم يزعمون أ نّكم رسل يقرأون علينا بذلك قرآناً: (يا أيّها الرُسل كلوا من الطّيبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم)(2).
فقال: يا سدير! سمعي وبصري وبشريولحمي ودمي من هؤلاء براء وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم. قال:
فقلت: فما أنتم؟ قال: نحن خُزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا، ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض(3).
وكان المغيرة بن سعيد أحد أقطاب الغلاة الذين يستميلون البسطاء بأساليب من الخداع والسحر، ثم يزيّنون لهم الغلوّ في الأئمة(عليهم السلام)، فتصدّى له الإمام الصادق(عليه السلام)وأخبر أصحابه بحقيقة
____________
1- الزخرف: 84.
2- المؤمنون: 51.
3- اُصول الكافي: 1/269.
هذا المغالي وكشف ألاعيبه وفضحه، فقال لهم يوماً: لعن الله المغيرة ابن سعيد، ولعن يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق، إنّ المغيرة كذب على أبي(عليه السلام)، فسلبه الله الإيمان، وإنّ قوماً كذبوا عليَّ، مالهم أذاقهم الله حرّ الحديد، فوالله مانحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا، لا نقدر على ضر ولا نفع إن رحمنا فبرحمته، وان عذبنا فبذنوبنا، والله مالنا على الله من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميتون و مقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، مالهم لعنهم الله! فلقد آذوا الله، وآذوا رسول الله(صلى الله عليه وآله)في قبره، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي(عليهم السلام)، وها أنا ذا بين أظهركم، لحم رسول الله(صلى الله عليه وآله)وجلد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع، ينامون على فرشهم وأنا خائف ساهر وجل، أتقلقل بين الجبال والبراري. أبرأ الى الله ممّا قال فيّ الأجدع البرّاد عبد بني أسد، أبو الخطاب لعنه الله، والله لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب أن لا يقبلوه، فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً؟ استعدي الله عليهم، واتبرّأ الى الله منهم، اُشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله(صلى الله عليه وآله)إن أطعته رحمني، وان عصيته عذبني عذاباً شديداً، أو أشدّ عذابه. كما نفى الإمام الصادق(عليه السلام) ما ينسبه إليه الغلاة من علم الغيب والخلق والرزق وغير ذلك، فعن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنهم يقولون، قال: ما يقولون؟ قلت: يقولون: تعلم قطر
الصفحة 167
المطر، وعدد النجوم، وورق الشجر، ووزن ما في البحر، وعدد التراب. فقال: سبحان الله، سبحان الله! والله ما يعلم هذا إلاّ الله. وقيل له: إنّ فلاناً يقول: إنّكم تقدّرون أرزاق العباد؟ فقال: ما يقدّر أرزاقنا إلاّ الله. ولقد احتجت الى طعام لعيالي، فضاق صدري، وأبلغت بي الفكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم، فعندها طابت نفسي.
الصفحة 168
وعن زرارة، قال: قلت للصادق(عليه السلام): إنّ رجلاً من ولد عبدالله بن سبأ يقول بالتفويض، قال: وما التفويض؟ قلت: يقولون إن الله عزّ وجلّ خلق محمداً (صلى الله عليه وآله)وعلياً(عليه السلام)، ثم فوّض الأمر إليهما، فخلقا ورزقا وأحييا وأماتا. فقال(عليه السلام): كذب عدو الله، إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهّار)(1).
فانصرفت الى الرجل، فأخبرته بما قال الصادق(عليه السلام)، فكأنما ألقمته حجراً، أو قال: كأنما خرس.
وعن المفضّل قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام) وذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة، فقال لي: يا مفضّل! لا تقاعدهم ولا تواكلهم ولا تشاربهم، ولا تصافحهم ولا توارثهم.
____________
1- سورة الرعد: 16.
موقف الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) من الغلاة
الصفحة 169
لقد اُبتلي الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) ـ كما اُبتلي آباؤه ـ بالغلاة الذين قالوا فيه وفيهم أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان. ومن أخطر الغلاة الذين ظهروا في عهد إمامة الكاظم (عليه السلام) هو محمد بن بشير، وكان من أصحابه ثم غلا فيه، حتى قال بربوبيته بعد وفاته وادّعى النبوّة لنفسه.
وقد قتل محمد بن بشير وكان سبب قتله أنّه كان معه شعبذة ومخاريق، فكان يظهر الواقفة أنّه ممن وقف على عليّ بن موسى(عليه السلام)، وكان يقول في موسى بالربوبية ويدّعي لنفسه أنّه نبيّ(1).
وقد تبعه على عقيدته الفاسدة قوم من البسطاء الذين خدعهم وسمّوا بالبشرية لانتسابهم الى عقيدته. ومن عقائدهم الباطلة أنّ العبادات المفروضة عليهم، والواجب أداؤها هي الصلاة والصوم وإعطاء الخمس، أمّا الزكاة والحج وسائر العبادات الاُخرى فهي ساقطة عنهم.
وقالوا بتناسخ الأئمة، أي كلّهم إمام واحد ينتقلون من بدن الى بدن.
____________
1- رجال الكشيء: 6/777.
وقالوا: إنّ المواساة بينهم واحدة في المأكولات والمشروبات والأموال والفروج، وأباحوا اللواط، واستندوا في ذلك الى قوله تعالى: (أو يزوّجهم ذكراناً وإناثاً)(1). وعندما توفي الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، ادّعى هؤلاء أنّه لم يمت ولكنه غاب واستتر وهو المهدي المبشّر به، وأنه قد استخلف على الاُمة محمد بن بشير وأقامه مقام نفسه.
الصفحة 170
وقد روى الكشّي عن عليّ بن حديد المدائني، فقال: سمعت من سأل أبا الحسن الأول ـ يعني موسى الكاظم(عليه السلام) ـ فقال: إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنّك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجّتنا فيما بيننا وبين الله تعالى.
قال، فقال: لعنه الله (ثلاثاً)، أذاقه الله حرّ الحديد، قتله الله أخبث مايكون من قتلة، فقلت له: جعلت فداك، إذا أنا سمعت منه، أوليس حلال لي دمه مباح، كما اُبيح دم السابّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله)وللإمام؟ فقال: نعم حل والله دمه وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه.
قلت: أوليس هذا بسابّ لك؟ قال: هذا سابّ الله وسابّ لرسول الله وسابّ لآبائي وسابّي، وأيّ سبّ يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول؟!
فقلت: أرأيت إذا أتاني لم أخف أن أغمز بذلك بريئاً ثم لم أفعل
____________
1- الشورى: 50.
ولم أقتله، ما عليّ من الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافاً مضاعفة من غير أن ينتقص من وزره شيء، أما علمت أنّ أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله ورسوله بظهر الغيب وردّ عن الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)(1).
الصفحة 171
وقد ورد لعن محمد بن بشير على لسان الإمام الكاظم(عليه السلام)ودعا عليه. روى الكشّي عن عليّ بن أبي حمزة البطائني، قال: سمعت أبا الحسن موسى(عليه السلام)يقول: لعن الله محمد بن بشير وأذاقه حرّ الحديد، إنّه يكذب عليّ، برئ الله منه وبرئت الى الله منه، اللهمّ إني أبرأ إليك مما يدّعي فيَّ ابن بشير، اللهمّ أرحني منه، ثم قال: يا علي، ما أحد اجترأ أن يتعمّد الكذب علينا إلاّ أذاقه الله حرّ الحديد، وأنّ أبا المغيرة بن سعيد كذب على أبي جعفر(عليه السلام)فأذاقه الله حرّ الحديد، وأنّ أبا الخطاب كذب على أبي فأذاقه الله حرّ الحديد، وأنّ محمد بن بشير لعنه الله يكذب عليّ، برئت الى الله منه، اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا يدّعيه فيَّ محمّد بن بشير، اللهمّ أرحني منه، اللهمّ إنّي أسألك أن تخلصني من هذا الرجس النجس محمد بن بشير، فقد شارك الشيطان أباه في رحم اُمّه.
وقد استجاب الله دعاء الإمام الكاظم(عليه السلام). قال علي بن حمزة: فما رأيت أحداً قُتل بأسوأ قتلة من محمد بن بشير لعنه الله(2).
____________
1- رجال الكشي: 6/778.
2- رجال الكشي: 6/779.
موقف الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) من الغلاة
الصفحة 172
لقد جدّ الإمام الرضا(عليه السلام) في إكمال مسيرة آبائه(عليهم السلام) في مجال محاربة الغلوّ وفضح الغلاة والتشهير بهم وتحذير الناس منهم، فعن الحسين بن خالد الصيرفي، قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): من قال بالتناسخ فهو كافر، ثم قال: لعن الله الغلاة، ألا كانوا يهوداً، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا مجوساً، ألا كانوا قدرية، ألا كانوا مرجئة، ألا كانوا حرورية. ثم قال(عليه السلام): لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم، وابرؤوا منهم برئ الله منهم(1).
فالإمام الرضا(عليه السلام) يعتبر الغلاة أسوأ أصحاب الفرق والأديان الفاسدة والمحرّفة.
وكان يقول في دعائه: اللهمّ إني أبرأ إليك من الحول والقوة، فلا حول ولا قوة إلاّ بك. اللهم إنىّ أبرأ إليك من الذين ادّعوا ما ليس لنا بحق، اللهمّ إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللهم لك الخلق والأمر، وإياك نعبد وإياك نستعين، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين، اللهم لا تليق الربوبية إلاّ لك، ولا تصلح الاُلوهيّة إلاّ لك، فالعن النصارى الذين صغّروا عظمتك، والعن المضاهين لقولهم من بريّتك، اللهم إنّا عبيدك وأبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، اللهم من زعم أننا أرباب فنحن منه براء كبراءة عيسى بن مريم من
____________
1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 1/218 باب 46 ح 2.
النصارى، اللهم إنا لم ندعهم الى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يزعمون، (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً* إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً)(1). وعن أبي هاشم الجعفري، قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام)عن الغلاة والمفوّضة، فقال: الغلاة كفّار، والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوّجهم أو تزوّج منهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية الله عزّ وجل وولاية رسول الله(صلى الله عليه وآله) وولايتنا أهل البيت(2).
الصفحة 173
وقد ذكر الإمام الرضا(عليه السلام) سبباً مهماً في ظهور الغلوّ، فعن إبراهيم بن أبي محمود، عن الإمام الرضا(عليه السلام) في حديث قال:
يابن أبي محمود! إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم الى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عَدْواً بغير علم)(3).
____________
1- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 99، الآية في سورة نوح: 26 و 27.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 1/219 باب 46 ح 4.
3- الأنعام: 108.
يابن أبي محمود! إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً، فالزم طريقنا، فإنّه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه(1). لقد بيّن الإمام الرضا(عليه السلام) كيف أنّ الغلاة كانوا سبباً في نسبة الغلو الى الشيعة عامة، ولهذا نجد المؤلّفين في الفرق يعمّمون صفة الغلوّ الى الشيعة مطلقاً وخصوصاً الإمامية منهم، اعتماداً على الأخبار التي كان يروّجها الغلاة بين الناس، فيظن المخالفون أنّ هذه الأخبار قد جاءت عن طريق الشيعة عامة فينسبون الغلو إليهم.
الصفحة 174
كما وقع الكثير من المؤلفين في خطأ فاحش حينما نسبوا الى الشيعة القول بالتشبيه والتجسيم، مع أننا ذكرنا في بيان اُصول عقائد الشيعة، وفي مطلب التوحيد أنّ الشيعة أشد تنزيهاً لله تعالى وأشدّ نفياً للتشبيه والتجسيم من غيرهم.
وقد أوضح الإمام الرضا سبب ذلك في حديث حين قال: إنّما وضع الأخبار عنّا في التشبيه والجبر، الغلاة الذين صغّروا عظمة الله تعالى، فمن أحبّهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبّنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برّنا، ومن برّهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردّنا، ومن ردّهم فقد قبلنا، ومن أحسن إليهم، فقد أساء
____________
1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 2/272 باب ما كتبه الرضا(عليه السلام) ح 63.
إلينا ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدّقهم فقد كذّبنا، ومن كذّبهم فقد صدّقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا، يابن خالد، من كان من شيعتنا فلا يتخذنّ منهم وليّاً ولا نصيراً(1).
الصفحة 175
موقف الإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام) من الغلاة
لقد اُبتلي الإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام) أيضاً بجماعة من الغلاة ادّعت الاُلوهية في الأئمة(عليهم السلام)، وكان زعيمهم رجل يُدعى محمد بن نصير النميري، وإليه نُسبت فرقة النصيرية، وتابعه عليها شرذمة،على رأسها فارس بن حاتم القزويني وابن بابا القمي.
قال الكشي: وقالت فرقة بنبوّة محمد بن نصير النميري، وذلك أنّه ادّعى أنه نبيّ رسول، وأنّ علي بن محمد العسكري (عليه السلام)أرسله، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن(عليه السلام)، ويقول فيه بالربوبية ويقول بإباحة المحارم، ويحلل نكاح الرجال بعضهم بعضاً، ويقول إنّه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيّبات، وأنّ الله لم يحرم شيئاً من ذلك..وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات يقوّي أسبابه ويعضده. وذكر أنّه رأى بعض الناس محمد بن نصير عياناً، وغلام له على ظهره، وأنّه عاتبه على ذلك فقال: إنّ هذا من
____________
1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 2/130 ـ 131، ح 45.
اللذات، وهو من التواضع لله وترك التجبر. قال نصر بن الصباح: الحسن بن محمد المعروف بابن بابا، ومحمد بن نصير النميري، وفارس بن حاتم القزويني، لعن هؤلاء الثلاثة علي بن محمد العسكري(عليه السلام)، وذكر أبو محمد الفضل بن شاذان في بعض كتبه أنّ من الكذّابين المشهورين ابن بابا القمي.
الصفحة 176
وقال سعد: حدّثني العبيدي، قال: كتب إليّ العسكري ابتداءً منه: أبرأ الى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي فابرأ منهما، فإنّي محذّرك وجميع مواليّ، وإنّي ألعنهما عليهما لعنة الله، مستأكلين يأكلان بنا الناس، فتّانين مؤذيين، آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً، يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً وأنه باب، عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله مَن قَبِلَ منه ذلك، يا محمد! إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل فإنه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة(1).
وأخرج الكشيّ عن إبراهيم بن شيبة أنّه كتب للإمام الهادي(عليه السلام)فقال: جعلت فداك، إنّ عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئزّ منها القلوب، وتضيق لها الصدور، ويروون في ذلك الأحاديث، لا يجوز لنا الإقرار بها لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردّها ولا الجحود بها إذا نسبت الى آبائك،
____________
1- رجال الكشي: 6/805 الرقم 999.
فنحن وقوف عليها. من ذلك أنّهم يقولون ويتأوّلون في معنى قول الله عزّ وجل: (إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)(1) وقوله تعالى:(وأقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة)(2). معناها رجل، لا ركوع ولا سجود، كذلك الزكاة معناها ذلك الرجل، لا عدد دراهم ولا إخراج مال. وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي، قالوها وصيّروها على هذا الحدّ الذي ذكرت لك، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم الى العطب والهلاك. والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنّهم أولياء، ودعوا الى طاعتهم، منهم علي بن حسكة، والقاسم اليقطيني، فما تقول في القبول منهم جميعاً؟
الصفحة 177
فكتب(عليه السلام): ليس هذا ديننا فاعتزله(3).
كما أخرج عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا الى أبي الحسن العسكري(عليه السلام): جعلت فداك يا سيّدي، إنّ عليّ بن حسكة يدّعي أنه من أوليائك، وأنت الأوّل القديم، وأنّه بابك
____________
1- العنكبوت: 45.
2- البقرة: 43.
3- رجال الكشي: 6/803.
ونبيّك، أمرته أن يدعو الى ذلك، ويزعم أنّ الصلاة والحج والزكاة والصوم، كلّ ذلك معرفتك ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدّعي من البابية والنبوة فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصوم والصلاة والحج، وذكر جميع شرائع الدين أنّ معنى ذلك كلّه ما ثبت لك ومال الناس إليه كثيراً، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة. فكتب(عليه السلام): كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك إني لا أعرفه في مواليّ، ماله؟! لعنه الله! فوالله ما بعث الله محمداً والأنبياء قبله إلاّ بالحنيفية والصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما دعا محمد(صلى الله عليه وآله) إلاّ الى الله وحده لا شريك له.
الصفحة 178
وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيدالله لا نشرك به شيئاً، إن أطعناه رَحِمَنا، وإن عصيناه عَذَّبَنا، مالنا على الله من حجة، بل الحجة لله عزّ وجل علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ الى الله ممن يقول ذلك وانتفي الى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله، والجئوهم الى ضيق الطريق، فإن وجدت من أحدمنهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخر(1).
ويتبيّن لنا أنّ التهرب من أداء الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها كان من أسباب هذا الغلوّ.
وقد كشف الإمام الصادق(عليه السلام) هذه النيّة من الغلاة، عندما سأله
____________
1- رجال الكشي: 6/804.
أحد أصحابه في مقالة قوم يدّعون أن الحسين(عليه السلام) لم يقتل، وأنّه شبّه على الناس أمره.. في حديث طويل، الى أن قال له: يابن رسول الله! فما تقول في قوم من شيعتك يقولون به؟ فقال(عليه السلام): ما هؤلاء من شيعتي، وإني بريء منهم... الى أن قال: لعن الله الغلاة والمفوّضة، فإنّهم صغّروا عظمة الله وكفروا به وأشركوا وأضلّوا فراراً من إقامة الفرائض وأداء الحقوق. وهكذا يتبيّن لنا بجلاء أنّ الأئمة(عليهم السلام) قد جاهدوا جهاداً مريراً ضد الغلو والغلاة، وكشفوا عن نيّاتهم السيئة وأهدافهم الشرّيرة وحذّروا شيعتهم منهم، كما نصح الإمام الصادق(عليه السلام) شيعته بقوله: احذروا على شبابكم من الغلاة لا يفسدوهم، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله، يصغّرون عظمة الله، يدّعون الربوبية لعباد الله، والله إنّ الغلاة لشرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا.. ثم قال(عليه السلام): إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأن الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، فلا يقدر على ترك عادته والرجوع الى طاعة الله عزّوجل ابداً، وإن المقصّر إذا عرف، عمل وأطاع.
الصفحة 179
ويتبيّن من الرسائل التي كان يرسلها البعض الى الأئمة يستفتونهم فيها حول الغلاة، ويشرحون لهم مقالاتهم مبدين قلقهم من انتشارها بين الشيعة، ما يدل على حرص الشيعة المخلصين على صيانة الدين من الغلاة، وقد وقفوا بوجه الغلاة بكل حزم، وناظروهم وأفحموهم في كثير من الأحيان، وعملوا بأوامر أئمّتهم
في مقاطعة اُولئك الغلاة وفضحهم. في تلك الظروف العصيبة. رغم ملاحقة سلطات الجور لهم والتنكيل بهم والتضييق عليهم.
الصفحة 180
لقد كان من واجبهم الدفاع عن دينهم وعقيدتهم وحماية الإسلام من الانحراف المتمثّل في اُولئك الغلاة وتحذير الناس منهم، ومناظرتهم، وكشف دجلهم وشعوذتهم وألاعيبهم، في الوقت الذي كانوا لا يملكون سلطة تعينهم على الحدّ من نشاط اُولئك الغلاة، ولم تكن لهم الحرية الكافية في بثّ عقائدهم التي تمثل الإسلام الصحيح وتقف في وجه الانحراف الاُموي والعباسي، والفرق التي تبثّ الغلوّ والانحراف في أوساط المسلمين.
ورغم كلّ ذلك، فقد أثمرت جهود الشيعة المضنية بفضل الله ورحمته وعنايته، وجهاد أئمّتهم الكرام في الدفاع عن الإسلام الصحيح، وصيانته من سيطرة الانحراف عليه.