عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء، ألا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»[1].

سؤال يطرح: إنه إذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) متيقّناً من الاستشهاد، مع ملاحظة أن حركته (عليه السلام) لم تكن عفو الخاطر، بل سبقتها مقدمات طويلة في هذا السياق.

وإنه معصوم من الله سبحانه، فهو ملتفت التفاتاً كاملاً إلى الموضوعات والأحكام فلا يزل في تشخيص موضوع ولا في تطبيق حكمه عليه بل هو العلم للأمّة والمنار لها وسبب الرشاد وهو السبيل إلى الله بعدما كان عِدل الكتاب وسفينة نجاة الأمة.

فما الشيء الذي كان يهدف الإمام إليه من وراء حركته، والظروف القاهرة التي تعيشها الأمة بمنظر منه ومسمع، بل إن بعض الحقائق قد شخّصها جمع أوفياء له فكيف تخفى عليه؟.

أحدهم يشير عليه بأن لا يقدم الكوفة إلاّ إذا أخرج أهلها أميرهم وأحكموا السيطرة على بلدتهم. والآخر يذكّره غدرهم بأبيه وأخيه،... وهكذا.

ويمكن بعد التأمل في ثنايا النصوص والتواريخ وكتب المقاتل ــ مع عدم غض النظر عن مجريات الأحداث ونتائجها ــ أن نقول: إن هناك أحكاماً دينية ظاهرية ــ أي بحسب ظاهر الحال دون واقعه ــ على كل مسلم الالتزام بها لا فرق في ذلك بين النبي والإمام وعامة الأمة وعلى هذا تشريعات الكتاب والسنّة.

فحين يشرّع الله سبحانه للناس لزوم ترتيب أثر شهادة العدلين في مسائل المنازعات والمخاصمات والجنايات، ثم يأتي التشريع فيبيّن أن العدالة المطلوبة في الشاهد ــ هنا ــ هي بمقدار ما يكشف عنها حسن ظاهره والتزامه بأحكام الشريعة فإن النبي أول من يبادر إلى العمل بهذا الحكم الإلهي فلا يحتمل أن يؤسس للأمة لزوم الأخذ بظاهر الحال ثم لا يعمل هو بما أسّسه، بل يبحث عن واقع حال الشاهد، بل هو المنقول عنه صلى الله عليه وآله: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار»[2].

والحسين (عليه السلام) استغاث به أهل الكوفة أكثر من عشر سنين وكانوا يعاهدونه على النصرة والطاعة، وكان عليه السلام يعلم أن همتهم تقصر عن مستوى وعودهم بل يعلم بعدم مصداقية الكثير منها. إلاّ أن ردّهم على أساس عدم مصداقية وعودهم مما لا شاهد له فعلاً خصوصاً بعد اكتوائهم بنار بني أمية وجحيم خلافتهم وإصرار أهل الكوفة السنين الطوال على المكاتبة والمعاهدة، ثم إنّ القرآن العزيز يأمر بالقتال من أجل المستضعفين والحسين إمام الدين وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الأمة، فكان ردّه عليه السلام: إن الوقت لم يحن لوجود معاوية في حدّ نفسه، ولوجود عقد صلح معه يمنعه عليه السلام من الخروج والثورة.

نعم بعدما استجاب لهم الإمام ــ خصوصاً وإنه لم يخرج من مكة حتى أتته آلاف الرسائل والمعاهدات منهم، ثم إنه أرسل إليهم مسلم بن عقيل فما رأى منهم إلاّ الثبات والإصرار، بل أخذ بيعة ثمانية عشر ألفاً منهم خلال أيّام ــ وتجاوز كل الموانع بينه وبينهم وإذا بهم ينقلبون على الأعقاب، ويتحوّل الكثير منهم إلى جند للطاغية ابن زياد ــ غير جمع ملأ ابن زياد بهم السجون ورفع البعض منهم على الأعواد صلباً وتعذيباً ــ ثم ما فتئوا حتى قتلوا الإمام وسبوا عياله وانتهبوا متاعه، فأصبح باطنهم ظاهراً وبدأ للجميع بشكل واضح السر في عقد الإمام الحسن (عليه السلام) للصلح مع معاوية، والوجه في إعراض الإمام الحسين (عليه السلام) عن إجابة دعوة أهل الكوفة لأكثر من عشر سنين، بل بدا بوضوح حقيقة حال الأمة مع الإمام الوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما بايعوه سراعاً راغبين ثم انقلبوا على أعقابهم بالوزر مثقلين.

بل إن نتائج حركة الإمام الحسين (عليه السلام) حدّدت منهجاً ثابتاً لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) من السجاد (عليه السلام) إلى المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ــ إلى حين ظهوره ــ.

فالعمل بأحكام الشريعة بحسب ظاهر الحال مما لا محيص عنه للنبي والوصيّ وبقية الأئمة عليهم السلام، بل لكل الأمة في قيام الشريعة إلى ظهور المهدي (عليه السلام) بهذا، بل إنّ معظم الشريعة ستبقى إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، نعم، يتغير منها الأحكام التي اقتضتها الضرورة وظروف الغيبة والتقية، والتعبير الأصح هو أن بعض الأحكام ستتغيّر موضوعاتها عن ظرفها الفعلي، وسيصبح الحكم الملغى من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، فلا وجه لبقائه والعمل به، والحال هذه.

نعم كان النبي والأئمة (عليهم السلام) يظهرون في بعض الأحيان ويصرّحون بالحال الواقعي للشخص أو الحدث لمصالح يقتضيها تأييد الشريعة، أو هداية بعض الأمة، أو إرشاد الناس إلى قدرة المعصومين على التعامل مع واقع الحال ــ إذ هو منكشف لهم ــ وإنما لم تنبن الشريعة عليه ولم يؤمر الناس بالتعامل به لعدم قدرة الناس على التعامل وِفقَهُ، لعدم انكشافه لهم ولعلّ في البين حكماً وأسراراً أخرى.

فنتيجة هذا: أن ظاهر الحال لأهل الكوفة والأوضاع الراهنة اقتضى منه عليه السلام القيام بالتكليف المناسب لذلك الظرف العصيب، وإنْ علم من مصادر الغيب عدم بلوغه النتائج المرجوة سريعاً، باستشهاده هو وخيرة الأمة معه.

وبحلول كارثة سبي عائلة النبي صلى الله عليه وآله ــ نسائه وصبيته ــ على يد السلطة الأمويّة الكافرة، التي ساندها الكثير من المنتسبين ــ زوراً وادعاءً ــ إلى ساحة الأمة الإسلامية.

هذا وقد توسعنا في هذا المجال في كتابين آخرين لنا حول الثورة الحسينية المظفرة هما: (الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة قوى الردّة)، و(مسلم بن عقيل) فلا حاجة للبسط فيها هنا، والله الموفق.

بقلم: الشيخ محمد البغدادي.