من الأسئلة التي يطرحها جميع البشر تبعاً لما في فطرتهم من حبّ الاطلاع، ولأنّ الإنسان متكوّن من بُعد مادّي وآخر مجرّد نجده يتساءل عن سرّ خلقته وفلسفة وجوده، فيسأل نفسه أوّلاً لماذا خُلقنا؟
وقبل الخوض في جواب هذا السؤال نريد أن نقول: إنّ الروحانية المجرّدة التي يحملها الإنسان تدعوه أن يهتمّ بما وراء الطبيعة، أي بما وراء المادّة والتي تسمى باصطلاح الفلاسفة (الميتافيزيقيا) فتميل به إلى معرفة سرّ الوجود وفلسفة الخلقة ويذهب متسائلاً: أإنّ علاقتي بالمادّة وقوانينها فحسب أم أنّ هناك ارتباطاً يتجاوز هذه الحدود البلهاء والمادّة الصمّاء؟ أي أإنّ لي ربّاً وإلهاً وراء المادّة أم لا؟
فيأتي الجواب من صميم الفطرة التي جُبل عليها، نعم إنّ لك إلهاً وخالقاً لا شريك له في إيجادك، ولا ندّ له في الوجود، فيشترك بهذا الجواب الفطري المؤمن والكافر على حدّ سواء وهذا لا خلاف فيه وإن تظاهر الكافر بإنكاره، فإنّه كما في قوله تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ))[1].
فهو جاحد لما استيقن ومنكر لما ثبت في الوجدان، فالسؤال الفطري الذي يطرحه الجميع هو: من أين؟ وإلى أين؟ وفي أين؟ وماذا يراد منّي؟ فبهذه الكلمات جُمع فيها علم الأولين والآخرين، وكلّ الكتب السماوية والأديان الإلهية جاءت لتثبيت هذا التساؤل، ومن ثمّ الإجابة عليه بجواب صريح وكلام مبين، بأنّك من الله وإلى الله تعالى.
وهذا التساؤل الذي ينقدح في ذهن السائل يدعوه إلى التفكّر، ومن خلال تفكيره تتفتح له آفاق جديدة في سيره وسلوكه وعقائده وأعماله فيخرج من حالة الغفلة والسكر التي يعيشها الناس إلى حالة اليقظة والانتباه.
ولو بحثنا في كتاب الله الكريم الذي نزل مهيمناً على غيره من الكتب التي سبقته، لوجدنا فيه آيات تبيّن فلسفة الخلقة وسرّ الوجود، ففي آيةٍ يبيّن سبب خلق الكون فيقول عزّ من قائل: ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ))[2].
فسخّر لنا ما في السماوات والأرض لكي نصل إلى كمالنا، وكأنّ هذا الوجود خلق لأجل مخلوق فيه ألا وهو الإنسان[3]، فكان العالم التكويني هو الإنسان الكبير كما كان الإنسان هو العالم الأكبر، وهذا المخلوق هو أكرم من في الوجود وأشرف المخلوقات، فلذا امتدح الخالق نفسه عندما خلق هذا الإنسان، فقال تعالى: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))[4].
فهذا يدلّ على عظمة الإنسان وكرامته عند الله تعالى، حتّى صرّح في كتابه الكريم بهذه الكرامة، فقال سبحانه: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ))[5].
فبترتيب هذه الآيات الكريمة التي هي كلام الحقّ سبحانه وتعالى يظهر لنا أنّ سرّ وجود الكون هو خدمة الإنسان، وإنّما استحقّ هذه الخدمة لأنّه أشرف المخلوقات وأكرمها، ولكن ما هي الحكمة من صيرورة الإنسان أشرف وأكرم من في الوجود؟ فيأتي الجواب قرآنياً في آية صريحة تبيّن سرّ وجود الإنسان وفلسفة خلقته فيقول أحسن الخالقين: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[6].
فاتّضح بهذه الآية الكريمة سرّ الوجود جميعه وفلسفة الخلقة لهذا الخلق العجيب. إذن وجد الإنسان ليعبد الله سبحانه، ولازم عبادة الله أن يكفر بالطاغوت، ولازم العبادة المعرفة، فقوله تعالى: ((لِيَعْبُدُونِ)) أي ليعرفون، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام، فالمقصود من خلق الإنسان هو أني عرف ويتكامل ويصل إلى قاب قوسين أو أدنى من ربّه[7]، لأنّه محبوب لربّه، وهذا ما أشار إليه الحديث القدسي: «خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي».
فطوبى لمن عرف قد نفسه، وطوبى لمن وقف على الحقيقة فترك الغفلة وعاش في ذكر ربّه ليلاً ونهاراً.
وإنّ ذكر الله تعالى يبدأ بذكر الموت الذي هو الطريق إلى لقاء الله سبحانه، فلا ننسى هادم اللذّات[8]، ولا نفرّ من ذكره لأنّ في ذكره حياة القلوب والخروج من الغفلة واليقظة من النوم فلذا نجد الآيات القرآنية الكريمة تؤكّد هذا المعنى في أكثر من موضع في الكتاب الكريم كقوله تعالى: ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))[9].
ففيها إشارة إلى نهاية المطاف، فالله تعالى هو الغاية بعد أن كانت منه البداية، فهذه الآيات الصريحة في ظاهرها والعميقة في باطنها لا تنفكّ عن ذكر المنتهى ولا تقصر في بيان السلوك إلى الله تعالى، فآية تتكلّم عن المنتهى فتقول: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى))[10]. وآية تبيّن حركة وسير الإنسان فتقول: ((إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ))[11].
فإذن لابدّ من لقاء الله تعالى، فإذا أيقنت النفس بذلك فما عليها إلاّ أن تعدّ العدّة ونتأهّب لهذا اللقاء، ولا يضيع العمر هباءً منثوراً، فإنّ في عدم التأهّب وإعداد العدّة خوفاً ورهبة[12]، وفي ذكر الموت والتهيّؤ للقاء خالق الموت والحياة اطمئناناً للقلوب واطمئناناً للنفوس، فتصل النفوس إلى درجة الاطمئنان العليا[13]، وهي اليقين بالفوز وأنّى لنا ذلك ونحن بعد لم نصل إلى درجة أصحاب اليقين.
ولكنّ لنا عزاء في حبّنا للنبيّ وأهل بيته الأطهار مع شيء من العمل اليسير، فنرجو الله تعالى بذلك وتفرح لحبّنا لهم عليهم السلامفنكون كما قال هذا الرجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، ليس لي عمل صالح إلاّ الشهادتين وحبّك، فقال له الرسول: «أبشر بالجنّة، فإنّ المرء مع من أحبّ».
فلما سمع المسلمون ذلك فرحوا فرحاً لا يدانيه إلاّ فرحهم بالإسلام[14]، فالحبّ لأهل البيت عليهم السلام فيه ينال المحبّ أعلى درجات الجنّة إذا اقترن بالعمل الصالح، لأنّ الأخبار الشريفة تؤكّد هذا: «كذب من زعم أنّه يحبّنا ولا يعمل بأعمالنا».
لأنّ المحبّ لمن أحبّ مطيع كما يروى هذا القول للإمام الصادق عليه السلام، ثم في قول أحدهم: «عجبت لمن يدّعي حبّ الله كيف يعصي الله؟»[15].
إلاّ أنّ الحبّ كلّي تشكيكي وله مراتب، فلذا نجد شخصا محبّاً إلاّ أنّه يعصي الله تعالى، فحبّه هذا في أوّل مرتبة من مراتبه، ولكن كلّما ازداد حبّاً ازداد عملاً لرضا المحبوب، لرضا الله تعالى ورسوله وأهل بيته وفاطمة الزهراء عليهم السلام.
فعندما نقف أمام آيات القرآن الكريم نجد آية تتكلّم عن التسخير أي عن الرحمة الإلهية، وآية أخرى تتكلّم عن تحصيل العلم: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا))[16].
وآية أخرى تتكلّم عن عبادة الله سبحانه، ففي هذه الآيات الثلاث تتبيّن فلسفة الخلقة الكونية، ولكنّ العبادة التي ذكرت في الآية: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [17].
المراد منها المعرفة لأنّ المعرفة تدلّ الإنسان على العمل، وتدعوه إلى أنواع العبادات والتي على رأسها الدعاء، فلذا يذكرون أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان رجلاً دعّاءً[18]، لأنّ الدعاء مخّ العبادة[19]، كما ورد في الحديث الشريف، فالعبادة هي الطريق إلى الله تعالى، ولا يفتح هذا الطريق إلاّ بالمعرفة والعلم لأنّ الجهل يقصم الظهر كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قصم ظهري اثنان: جاهل متنسّك فإنّه يفرّ الناس بجهله...»[20].
فالعبادة مع العلم هي التحليق في سماء الفضائل حتّى يصل بها المرء إلى ربّه، فيكون قاب قوسين أو أدنى دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى، فبالإيمان والعمل الصالح يكون السلوك إلى الله تعالى.
وهناك أكثر من سبعين آية يقرن ربّ العالمين بين الإيمان والعمل الصالح، وبهذا يقول سبحانه إنّه لا يكفي المرء أحدهما، فلابدّ من الإيمان والعمل معاً، حتّى نجد هذا المعنى أيضاً جليّاً في الحديث الشريف: «العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلاّ ارتحل»[21].
أي أنّ العمل وحشي إن تركته يمشي، فبالرحمة الإلهية يتمّ هذا، فلذا نجد الأسماء الحسنى جميعها معاني للرحمة، إلاّ بعض الأسماء التي تعبّر عن الغضب الإلهي كاسم المنتقم والقهّار وغيرهما، ولكن التي تعبّر عن الرحمة كثيرة كاسم الودود، الحنّان، الشفيق، اللطيف... وغيرها من الأسماء التي بها أراد الله تعالى الخير لعباده، وأراد لهم سعادة الدنيا والآخرة، وأراد لهم الكمال[22]، ومن كماله أن يظهر كماله.
ولنا شاهد بالوجدان على ذلك، فإنّه عندما نرى شخصاً يتّصف بصوت جميل تجده فطرياً يظهر هذا الصوت الجميل، إمّا بصوت الرحمن فيتلو به القرآن، وإمّا بصوت الشيطان فيطلقه في الغناء، وكلّ مراده هو إظهار كمال صوته، فكذلك تعالى له الكمال المطلق الذي لا تحيط به العقول، فلا يليق بكماله المطلق إلاّ أن يظهر كماله، وإلاّ لزم النقص وهو تعالى منزّه عنه، فمن كمال الكمال ظهور الكمال وإظهاره، ولهذا جاء في الحديث مع غضّ النظر عن المناقشة في سنده ودلالته: «كنت كنزا مخفيّاً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف».
فحبّه للمعرفة لكماله المطلق، وهذا يسمّى بسرّ الخالق إن صحّ التعبير، وأمّا سرّ المخلوق فهو عبارة عن الرحمة الإلهية والعلم والعبادة، فخلقه تعالى للخلق كافّة هو من باب الكمال لا للاحتياج، فيندفع الإشكال في ذلك، فخلق الخلق لأنّه فيّاض لا لحاجته للمظهر والمعرّف، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة وهو من توحيد الصدّيقين: «ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يستدلّ به عليك، أنت الذي دللتني عليك»[23].
فبالله أعرف الله تعالى، أي بالعلّة أعرف المعلول لا بالمعلول أعرف العلّة[24]، فظهور الخلق من الله تعالى لوصول المخلوقات إلى كمالها، فهذه المخلوقات تسبّح بحمده فهي في مقام الجلال، وتحمده فتكون في مقام الجمال، فقولنا في سورة الحمد (فاتحة الكتاب الكريم) الحمد لله: أي له الثناء كلّه وله الحمد كلّه، فهو المستحقّ لذلك، لأنّه الجمال المطلق ومطلق الجمال وأنّه يحب الجمال، وهذا معنى قول العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) حينما قالت في جواب ابن زياد اللعين عندما أراد أن يجرح شعورها ويقرح قلبها: (كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ الحسين) فقالت: (ما رأيت إلاّ جميلاً).
فإنّ قتل الحسين وإخوته وأولاده وأصحابه حينما ينسب إلى الله تعالى فهو جميل، و حينما ينسب إلى يزيد فهو قبيح، فالخلق عاشق لربّ العالمين على حدّ تعبير صدر المتألّهين في الأسفار[25]، فالكون في حركة كمالية والله تعالى يفيض فيضه على الخلق كلّه سواء كان كافراً أم مؤمناً، فإنّه تعالى يعطي الجميع ومثله تعالى عن ذلك: (مثل الفلاح الذي يسقي الشجر ومراده الثمر، ولكن يشرب كلّ ما في الأرض حتّى الحشائش غير المقصودة بالذات)، فالكون بمنزلة بستان الله تعالى ومراده من هذا البستان أشجار معدودة، ولكنّ الرحمة الإلهيّة تنال الجميع.
فالشجرة المحمّدية[26] والدوحة العلوية هي التي تستحقّ الفيض الإلهي ومن يسير على نهجهم، وباقي الناس كالحشيش يطؤه المارّة بأقدامهم (عليٌ الدر والذهب المصفّى وباقي الناس كلّهم تراب)، فالذي يستظلّ بهذه الشجرة هو الذي فكّر وعرف الحقّ، وصار تفكيره في ساعة خيراً من عبادة سبعين عاماً، فبالتفكّر تفتح الآفاق الجديدة، وبالتأمّل تذهب الغفلة، وبالتعقّل يذكر الإنسان ربّه.
بقلم: السيد عادل العلوي: