كرامة امرأة
في يوم كان شتويا شديد البرودة حالكا ،خرجت مريم من منزلها البائس تلبس معطفها الرث وتنتعل الحزمة المترهلة ،تحمل قفة بيد وحقيبة يدها باليد الأخرى وجهتها المستشفى ،أين يرقد زوجها احمد منذ شهور ،اثر أصابته بالتهاب رئوي جراء استنشاقه لمادة الاسمنت في المصنع الذي يشتغل فيه .تركت وراءها طفليها أمين وأسامة يغطان في نوم عميق وقد حضرتلهما الطعام ليتناولاه حالما يستيقظان ،هي مطمئنة عليهما طالما أختها نرجس برفقتهما،أخذت نصيبا من الأكل لأحمد ، فلا شيء أفضل من حساء الدجاج الساخن في يوم بارد ،كانت وهي تسير في زقاق الحي تتذكر الأيام الخوالي : تذكرت شقيق روحها فترة خطوبتهما وكيف كان يعتني بهاو ويدللها أحست بحلاوة الفراولة وأريجها ، هذه الفاكهة التي تحبها ،وكيف أهداها لها في علبة مزينة بشريط احمر حريري في أول لقاء بينهما عند محطة الحافلة . كان يوما يشبه يومها هذا ،بدأت قطرات الغيث بطيئة ثم تسارعت . حثت مريم الخطى مسرعة حتى لا تتبلل ،لحسن حظها توقفت أمامها سيارة أجرة أوقفها بعض الشباب القاصدين مدارسهم. ركبت بسرعة واسترسلت :كم الساعة من فضلك سيدي قائلة للسائق . ما أن امتطى الركاب حتى أجابها وهو ينطلق مبتعدا عن جمع كبير من الناس : قاربت التاسعة .تنفست الصعداء :الحمد لله ما زال لم يفتح . فنظر إليها السائق باستغراب لكنه طمأنها :ستصلين إن شاء الله .لم ترد عليه و أشاحت وجهها نحو النافذة المبتلة مسحتها بيدها وراحت تنظر من خلالها كأنها تبحث في الطرقات عن شبح لا تراه إلا هي ،بعد مدة توقفت سيارة الأجرة بمحاذاة المستشفى ،مدت يدها وأخرجت من جيب معطفها حافظة نقودها و دفعت للسائق أجرته .فتمنى لها يوما مباركا هزت رأسها وهي خارجة ولم تعلق. وحالما أغلقت الباب بدأت قطرات الغيث تتسارع فهرولت نحو باب المستشفى أين مسحت جزمتها ، ومشت في استقامة نحو مكتب الاستقبال. شد انتباهها شابة في مقتبل العمر تلبس تنوره قصيرة ، وقميصا يظهر تقريبا كل مفاتنها ،و قد وضعت احمر شفاه بلون الدم .كانت تجلس على كرسي في الرواق أمام غرفة زوجها مرت أمامها ،فلاحظت إنها تمضغ اللبان وتصدر طقطقة مزعجة وتمعن النظر إلى كل من يمر أمامها ،أهملتها ودقت الباب وفتحته بهدوء حتى لا تزعج احمد ،فهو مريض وربما مازال نائما .تسمرت لحظة في مكانها ثم تراجعت خطوة إلى الوراء :لقد أخطأت الغرفة قالت في نفسها .نظرت إلى الرقم مرة ثانية انه الرقم ثلاثة، دفعت الباب بعنف ودون أن تشعر وجدت نفسها أمام سرير احمد كلبؤة تريد أن تحمي عرينها.كانت سيدة ممتلئة تنظر ليها بتعجب ثم وجهت نظرها إلى أحمد.كانت تجلس قريبة منه ،على كرسي خشبي، تضع ساقا على ساق بطريقة غير محتشمة، شعرها منسدل على كتفيها ،نظرت إلى مريم بازدراء ثم وقفت ،وابتعدت قليلا إلى الخلف دون إن تغادر الغرفة تدافعت الأفكار والتساؤلات في رأس مريم ثم قالت في نفسها :لا شيء مهم في هذه الحياة المهم أن يشفى حبيبي ويرجع إلى ولديه ،فكل يوم يسألني الصغيران عن أبيهما ،فاضطر للكذب عليهما ، وأقول انه مسافر وقريبا سيعود ومعه الكثير من الهدايا اللعب.قالت مريم وهي تخرج من القفة الطعام الذي أحضرته :الحمد لله هيا كله ما دام ساخنا .رفع رأسه وحدق في وجهها، كأنه يبحث عن شيء ضيعه ولم يره منذ زمن ، كان يحاول اخذ وضعية الجلوس فأمسكت مريم الوسادة ووضعتها خلف ظهره حتى يتوازن ،أخرجت الملعقة وبدأت تطعمه كطفل صغير ،أشار إليها انه شبع فتوقفت ومسحت شفتيه . فتحت السيدة الغريبة أخيرا فمها الكبير فظهرت بعض أسنانها كبنيان تداعت أركانه وقالت : احمد الم تخبرها ؟ نظرت مريم إلى زوجها ،ثم إلى المرأة في حيرة وهي تجمع ملابس احمد المتسخة لتغسلها في بيتها، وترتب في سرعة أغطية السرير. :ها تخبرني ماذا ؟ تأففت السيدة و طاطا احمد رأسه قائلا :اسكتي أرجوك موجها سبابته نحوها. هنا انتبهت مريم ولم تحرك ساكنا.ألقت نظرة ثاقبة إلى احمد وقالت :هل هناك شيء ؟ خير إن شاء الله رد قائلا:هناك أمر أردت أن أخبرك عنه منذ مدة. قالت :تفضل احك كلي آذان صاغية . أنت امرأة طيبة ... ومازلت احبك واحترمك ولم الق منك سوى التقدير، لكنني خنت ثقتك فسامحيني أرجوك، أنا غبي وجبان ولا استحق كل هذا الحب منك. قاطعته مريم:ادخل صوب الموضوع أرجوك لم اعد احتمل المزيد .هنا تدخلت السيدة مرة ثانية قائلة :الأمر هو أنني زوجته ولي الحق كل الحق في المكوث في الغرفة مثلك و أكثر.واصل احمد الكلام: هي زوجتي على سنة الله و رسوله. :هل ما اسمعه صحيح ؟ رد. احمد نزل هذا الخبر كالصاعقة على مريم. :ماذا تقول؟ متى ؟كيف؟ هل أنت محموم ؟وضعت يديها على إذنيها لحظة ثم التفتت نحو المرأة صارخة في وجهها :اخرجي من الغرفة أرجوك .ألقت السيدة عليها نظرة من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها وخرجت وهي تهز خاصرتها وتحدث ضجة بحذائها المدبب .اغلقت مريم الباب وراءها ورجعت الى احمد ، :من تلك السيدة؟ وماذا تقصد ؟ وماذا كانت تفعل في غرفتك ؟ امسكها من يديها قائلا سامحيني ارجوك لقد كانت غلطة وأكيد سأصححها . سحبت يديها من بين أصابعه وتابع مسترسلا :تزوجنا بالفاتحة منذ سنتين تشاجرنا وغادرت أنت إلى بيت اهلك آخر مرة ، هل تذكرين ؟هي أخت صديقي ،ذهبت أشكو إليه حالي ، فكانت هي من فتح الباب ، وجلست معنا طول الليل ،كنا نشرب الكحول ونتجاذب أطراف الحديث . حدث هذا مرات عدة وبعد خمس عشرة يوم كانت زوجتي لا ادر كيف حدث هذا ، ربما السحر أو بفعل الخمر احمر وجهه وراح يبكي بحرارة والدموع تتهاطل فتختلط بالمخاط النازل من منخاريه. ردت عليه بعنف وهي تضرب السرير: هل من أولاد؟ لا، لا ،لا، ردد نافيا .فأجابته في هستيريا :ماذا حدث لك؟ ماذا حدث لعقلك ؟هل جننت ؟الم تفكر في ؟على الأقل فكر بولديك ،بكت بحرقة وقالت: وطاوعك قلبك .ثم جمعت ما بقي لها من كرامة وانسحبت من الغرفة ، ومن حياة احمد، تركت كل شيء وراءها، وغادرت .عندما وصلت إلى باب المستشفى نظرت إلى السماءوأحست بدفء الشمس يدغدغ خديها إنه يوم جديد مسحت دموعها وسارت راجعة إلى بيتها حيث ينتظرها أمين وأسامة :كم اشتاق إليكما يا حبيباي قالت في نفسها ،فارسم ت على شفتيها ابتسامة صغيرة . غطت رأسها بوشاح صوفي ولم تنظر خلفها . لقد قطعت عهدا على نفسها أن تكرس حياتها لولديها وولديها فقط انتهى. . .