على قدر ما هي مهمة صعبة،فهي مهنة ممتعة جدا يتخللها الكثير من الأحداث والطرائف ،مارستها أكثر من ربع قرن،مرت علي كلمح البصر درَست خلالها الكثير من الأطفال.الإنسان البسيط قد يعتقد أنهم متشابهون ،لكنهم متميزون جدا كل بشخصيته وأخلاقه وروحه.في إحدى السَنوات كنت أدرَس الصف الثالث في قرية جل سكانها أميون والأقلية بالكاد يهجؤون حروف اللغة العربية ، في البرنامج الدراسي للقراءة كان نص بعنوان:"عرس في قريتنا"،وكان على التلاميذ التحضير للموضوع مسبقا قلت لتلاميذي يومها :غدا هو يوم عطلتكم الأسبوعية ، وبعده سنتعرف على نص جديد فلتبحثوا و تتعمقوا فيه ومن الأفضل أن تسألوا أهلكم عن تحضيرات العرس وعن الأشياء التي يقوم بها الكبار خلال حفلة لعرس حضرتموه في قريتكم .مرت العطلة الأسبوعية روتينية كعادتها ،وجاء اليوم الموعود فتوجهت إلى مكان عملي وكلي عزم وإصرار على تقديم أفضل ما عندي فترضى نفسي ويرضى ربي على اجتهادي.أثناء سيري كنت التقي من حين للآخر بعض الأولياء ،على السواء أمهات وآباء ،هذه تشتكي سوء معاملة زوجها وبسببه لم يفتح ابنها محفظته بتاتا وتلك تبرر غياب ابنتها بأكاذيب غير منطقية ، وأنا أهدئ البعض واحذر البعض الآخر وأوجههم إلى الطريقة السليمة لمتابعة أطفالهم وكيفية مسايرتهم في الدروس اليومية،وفي الوقت نفسه أحاول أن اشق طريقي إلى المدرس.وصلت إلى الباب الرئيسي... ولجته بشق الأنفس :كان مدير المدرسة واقفا بجانب الحارس ،ألقيت التحية وسرت صوب بعض الزميلات اللائي كن يتجاذبن أطراف الحديث كالعادة،سلمت عليهن بحرارة فإذا بصوت الجرس ينطلق معلنا وقت تحية العلم .رفع تلميذان الراية تحت إنشاد بقية التلاميذ ـ قسماـ فإذا برجل في العقد الخامس يرتدي قشابية ويضع على رأسه عمامة بصحبة بعض الفتية و المراهقين يقتحم الحرم المدرسي ،وهو يصرخ ويلوح بعصاه الخشبية .لقد تعرفت عليه ـ ابنته تدرس عندي- فبدأ قلبي يخفق بسرعة و قلت في نفسي : يا الهي، ما الذي جاء به، ربما عاقبت ابنته ورأى آثار الضرب عليها ،لكنني متأكدة أنني لست عنيفة مع الأطفال فبالكاد اهددهم أو أعاقب بضربة واحدة . رحت أفتش عن البنت بين الصفوف فوجدتها سليمة ، و لم افهم المشكلة .دق الجرس مرة ثانية معلنا وقت العمل، فأشرت للتلاميذ بالدخول إلى القسم ففعلوا، وتركت المدير يهدئ الرجل وهو يوجهه نحو مكتبه، لم اعره اهتماما وبدأت القي درس التربية الإسلامية كحصة أولى ،وان هي الا لحظات حتى طرق الحارس باب القسم وطلب حضوري إلى مكتب المدير في الحال، ووجهه يكاد ينفجر من الغيظ .أوقفت الدرس وطلبت من احد التلاميذ الوقوف على المصطبة ومراقبة زملائه وان يكتب اسم كل من يسبب الفوضى والضجيج .مشيت بخطى متثاقلة كأنني متوجهة للمقصلة ...أفكار كثيرة وسوداوية بدأت تعبث بمخيلتي ،أخذت نفسا عميقا وبرجلي اليمين دخلت مكتب مدير المدرسة ،بدا ضيقا جدا فلم أجرأ على الولوج داخله أكثر حتى لا تلامسني تلك الأجسام البشرية ،سندت ظهري إلى الباب بعد أن ألقيت التحية بأدب ،لكن والد البنت صك وجهه نحو الجدار المقابل ولم ينطق ببنت شفة وبدا العبوس عليه .بادرت بالكلام :ما المشكلة سيدي المدير؟ نظر إلي وهو جالس وينقر المكتب بقلم حبر وقال : أوقعت نفسك في الغرقة [ الوحل].لم افهم الوضع فطلبت تفسيرا ،و هنا انتفض الرجل غضبا وهمّ بضربي لولا ستر الله والحارس الذي أمسكه من بعض ملابسه، كان يصيح والزبد يخرج من طرفي فمه الضخم: أولادنا أمانة عندك فكيف تعلمينهم الفسق وتدخلين في عقولهم الأفكار المحرمة ؟هؤلاء الأطفال أبرياء، حرام عليك، أنت شيطان في جسد امرأة .كنت لحينها في حيرة ،فقلت له:ياسيد ي احترم نفسك ، وفكر في ما تقوله ،أنا لم افعل لك شيئا ولم أمسسك بسوء ،لكن ان لم تتوقف سأضطر لاستدعاء الأمن ،وستدفع الثمن غاليا .حتى تلك اللحظة كان كلامه غامضا و بقي الرجل يسب ويشتم ،وأنا أرد على شتائمه بكلام أقل بذاءة باعتباري مربية أجيال وقدوتهم ، و لا يليق بي أن انزل إلى مستوى العوام .سمع زملائي تعالي الضجيج ،وأقبلوا يستفسرون ،فردهم المدير وطلب منهم عدم مغادرة أقسامهم ،و حتى التلاميذ في الأقسام هلعوا وراحوا يطلون من النوافذ علهم يشاهدون منظر معلمة تضرب، فهو حدث لا يتكرر دائما.طلب مني المدير بأدب مرافقته إلى وسط الفناء بعيدا عن كل الآذان والعيون وتكلم معي بهدوء وأطلعني عن سبب مجيء هذا الولي إلى المدرسة .وأخيرا فهمت أصل المشكلة، واستنتجت أن العلة تكمن في عقل هذا الرجل الذي أساء فهم ابنته حين سألته : يا أبي ماذا يفعل الناس في حفلة العرس؟ فظن بي الظنون ،وراحت أفكاره الخبيثة تسيطر عليه، ولم يفكر إلا بليلة الزفاف . لعنت الجهل والأمية،و بدأت اشرح للمدير ما طلبته من التلاميذ ، فراح يهز رأسه يمنة ويسرة، و يقهقه و هو يضرب كفا بكف ،ويحوقل ثم طلب مني العودة إلى تلاميذي.دخلت قسمي ورحت امشي ذهابا وإيابا دون وجهة معينة ،وعاد هو لضيفه اللئيم .كنت منفعلة جدا لدرجة أنني لم استطع أن أتواصل مع التلاميذ طيلة الفترة الصباحية ،لقد أحسست بالظلم والانحطاط خاصة وأن ظالمي اتهمني في أخلاقي و لم أكن لأسامحه أبدا،حتى أنه لم يكلف نفسه طلب الغفران .بعد مدة رأيته يغادر مكتب المدير رفقة حاشيته ،وهو يتمتم بكلام غير مفهوم .