ماهية الابستمولوجيا
كلمة "معرفي" في الخطاب الفلسفي العربي هي عادةً ترجمة لكلمة "إبستمولوجيا"، وهي كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين "إبستيم" بمعنى "معرفة" أو "علم" و"لوجوس" بمعنى "دراسة" أو "نظرية". والإبستمولوجيا هي علم دراسة ما نزعم أنه معرفة، إما عن العالم الخارجي (المادي) أو عن العالم الداخلي (الإنساني)، وهو علم يدرس (بشكل نقدي) المبـادئ والفرضـيات والنتائج العلمـية بهـدف بيان أصلها وحدودها ومدى شموليتها وقيمتها الموضوعية ومناهجها وصحتها. والإبستمولوجيا، في اللغة الإنجليزية، هي بشكل عام نظرية المعرفة (التي تتناول العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف). أما في اللغة الفرنسية، فهي تعني أساساً نظرية العلوم أو فلسفة العلوم وتاريخها. وقد سبب اختلاف المعنى بين المعجمين الإنجليزي والفرنسي اختلاطاً كبيراً في اللغة العربية، إذ يتخذ كل مؤلف على حدة من معجم غربي معيَّن دون غيره مرجعيته، فتظهر الكلمة في اللغة العربية بمدلولين مختلفين. وسوف نحاول أن نصل إلى تعريف يتجاوز إلى حدٍّ ما الاختلاط الدلالي.
وفي تصوُّرنا، فإن الكلمة تعني "كلي ونهائي". ومن هنا، فإننا عادةً ما نضع المستوى المعرفي في مقابل المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي بل الحضاري (وهذا المعنى، رغم جدته، مُتضمَّن في كثير من تعريفات كلمة "إبستمولوجيا"). والإبستمولوجيا، بالمعنى الضيق للكلمة، تتناول موضوعات مثل طبيعة المعرفة ومصادرها وإمكانية تحققها ومصداقيتها وكيفية التعبير عنها، ولكنها تعني أيضاً المسلمات الكامنة وراء المعرفة. وهذا المجال الأخير ينقلنا من المعنى الضيق إلى المعنى الواسع. فالإبستمولوجيا تعني أيضاً توضيح المقـولات القَبْلية في الفكر الإنسـاني، ولذا يذهب البعض إلى أن الميتافيزيقا تنقسم إلى: أنطولوجيا وإبستمولوجيا، وأن كل رؤية للعالم تحوي داخلها ميتافيزيقا (أي أنطولوجيا وإبستمولوجيا). كما يرى البعض أن الإبستمولوجيا تعني "رؤى العالم". ولتوضيح مفهوم الإبستمولوجيا بالمعنى العريض للكلمة، سنضرب بعض الأمثلة بإشكاليات وقضايا وُصفت بأنها "معرفية" و"إبستمولوجية":
1 ـ تورد بعض المعاجم المسألة التالية باعتبارها مسألة معرفية: ما الفرق بين هذه المفاهيم: العقيدة ـ الإيمان ـ الرأي ـ الخيال ـ التفكير ـ الفكرة ـ المعرفة ـ الحقيقة ـ الواقع ـ الخطأ ـ الإمكانية ـ اليقين؟
2 ـ تحاول الإبستمولوجيا (حسب أحد التعريفات) أن تُوضِّح الفرق بين الثنائيات المتعارضة التالية: المعرفة الذهنية مقابل المعرفة غير الذهنية ـ التبرير مقابل الوصف ـ القَبْلية مقابل البَعْدية ـ الضروري مقابل العرضي ـ التحليلي مقابل التركيبي ـ العارف مقابل المعروف ـ المدرك مقابل المدرَك ـ المعرفة المادية مقابل المعرفة الحدسية ـ الحقيقي مقابل الوهمي ـ الكلي مقابل الجزئي ـ اليقين مقابل الشك.
3 ـ من القضايا الأساسية التي وُصفت بأنها "معرفية" قضية التناقض الأساسي في الحضارة الغربية الحديثة بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية.
4 ـ من القضايا الأخرى الأساسية في الحضارة الغربية التي وُصفت بأنها "معرفية" فكرة الجوهر وفكرة الكل. وهما في رأي البعض فكرتان مرتبطتان تمام الارتباط. فالجوهر هو الدعامة الأساسية والثابتة لكل الظواهر، وهو الناحية الأولية والكلية في الشيء. وتعتمد الظواهر على الجوهر لوجودها ولا يعتمد هو على أي شيء آخر لوجوده. ومن ثم، فإن الجوهر هو الحقيقي، وما عداه فهو وهم. والجوهر هو الباطن والوهم هو الظاهر. ولا يمكن لشيء أن يُوجَد دون جوهر، وبدونه لا يمكن أن يكون على ما هو عليه. والإيمان بفكرة الجوهر يعني الإيمان بأن ثمة ثباتاً في الواقع. وأن هناك كليات ثابتة وراء الجزئيات المتغيرة.
5 ـ قضية الحقيقة هي الأخرى من القضايا التي تُوصَف بأنها "معرفية": ما معيار الحقيقة؟ وقد كان الفكر الغربي حتى عصر النهضة يؤمن بنظرية التقابل بأن الحقيقي هو الشيء الذي له ما يناظره في الواقع. ثم بدأت هذه النظرية في الانحسار تدريجياً لتحل محلها نظرية التماسك، فالحقيقي هو الشيء المتماسك (بشكل عضوي) المتسق مع ذاته. وأخيراً هناك النظرية البرجماتية، وهي ترفض كلاًّ من نظريتي التقابل التماسك وترى أن الحقيقي هو ما ينجح، أي أن المنظور الوحيد هو دائماً منظور إجرائي. وهذه القضية، مثل السابقة، هي قضية ليست مقصورة على الحقل المعرفي وإنما تُناقَش أيضاً على مستوى علم الأخلاق وعلم الجمال وعلى المستوى الأنطولوجي، بل على مستوى تاريخ الأفكار وتاريخ الحضارة وفلسفة التاريخ.
وتبيِّن الأمثلة السابقة أن كلمة "معرفي" قد يكون لها معنى ضيق مع أنها ذات معنى واسع وعريض، وليس هناك ما يُلزمنا بأن نأخذ بالتعريف الضيق دون التعريف العريض. وهنا، تنشأ مشكلة وهي أن التعريف العريض يتداخل مع الميتافيزيقا، فالأسئلة الكلية والنهائية هي ذاتها الأسئلة التي تطرحها الميتافيزيقا، ولذا كان من الأجدى أن نتحدث عن الميتافيزيقا (وهذا ما يفعله أنصار ما بعد الحداثة). ولكن هذه الكلمة فقدت مكانتها تماماً في اللغة العربية وفي اللغات الأوربية، سواء بين المتخصصين أو بين العامة، وأصبحت مرتبطة في العقول بالخزعبلات والخرافات، ولذا سنحتفظ بكلمة "معرفية" ونُسقط مرجعيتها المعجمية الإنجليزية (نظرية المعرفة) أو الفرنسية (فلسفة العلوم) ونرجع بالكلمة إلى المعجم العربي حيث تُعرَّف المعرفة بأنها "إدراك الشيء على حقيقته" (عَرف الشيء: أدركه بعلمه). وحيث إننا نرى أن إدراك الشيء على حقيقته يعني ضرورة التجريد للوصول إلى المعنى الكلي أو إلى النموذج الكامن، فإن عبارة مثل "المستوى المعرفي" تعني "المستوى الذي يتم فيه إدراك الحقيقة الكلية والنهائية الكامنة وراء ظاهرة أو نص ما، ويتم ذلك من خلال عملية تجريدية تزيح جانباً التفاصيل التي يراها الباحث غير مهمة وتُبقي السمات الأصلية الجوهرية للشيء التي تشكل في واقع الأمر إجابة النص أو الظاهرة على الأسئلة الكلية والنهائية".
والأسئلة الكبرى أو الكلية أو النهائية هي أسئلة عما يُسمَّى في النقد الأدبي الغربي الموضوعات الكبرى (بالإنجليزية: ميجور ثيمس major themes) في حياة الإنسان، وهي أسئلة تدور حول الإنسان والإله والطبيعة. ولكن هذه المحاور الثلاثة مترابطة إلى درجة أنه يمكن من خلال التعمق في دراسة عنصر واحد الوصول إلى رؤية النموذج للعنصرين الآخرين.