التقفية المرسلة "الداخلية":
تتمثل هذه التقفية في تحرر القصيدة من أي التزام يقضي باعتماد قافية خارجية من أي نوع كان، ولا يقوم الإطار الموسيقي للقصيدة على أساس تقفوي مكرس، إنما يقدم نموذجاً من التقفية الداخلية التي تأتي عرضاً وتحقق في مجيئها العرضي قيماً إيقاعية جديدة غير مألوفة تتفاوت أهميتها الإبداعية والفنية بتفاوت إمكانيات الشعراء وعمق تجاربهم لأن "إرسال القوافي يحتاج إلى إمكانيات شاعرية تحقق تعويضاً عن فقدان هذا العنصر الموسيقي الهام في القصيدة. ولعل إحساس بعض الشعراء- بأن الجرس الموسيقي الذي تحققه القافية بتكرارها يقف حجر عثرة أمام انسياب الإيقاع الداخلي الذي يتحقق باسترسال المعنى- هذا الإحساس هو الذي حدا بهم لإرسال قوافيهم، وذلك لأنه لا يمكن فصل الجرس الموسيقي عن المعنى"([1]). أي أن التقفية المرسلة تهدف إلى إقران الوظيفة الدلالية بالوظيفة الإيقاعية في سبيل خلق نموذج شعري تعمل أدواته الفاعلة في اتجاه واحد، فالبحث عن تقفية داخلية يعد "استمراراً لبناء وحدة سميكة للنص الشعري، أو تجذير لإيقاع داخلي يساهم في تأسيس عروض القصيدة بدل عروض الشعر"([2])، بوصف أن القصيدة عالم حيوي قائم بذاته له قوانينه وخصائصه الذاتية التي قد تنطبق عليه دون أن تنطبق على غيره، ومن أهم هذه القوانين الخاصة هو المناخ الموسيقي الذي يهيمن على فضاء القصيدة ويقرر جزءاً مهماً من مصيرها الإبداعي.
فالتقفية الداخلية التي أصبحت في الشعر الحديث "ظاهرة شائعة ومؤثرة"([3])، تختلف في تقنياتها ووظائفها عن أنماط التقفية الخارجية التي عالجناها فيما سبق، وتعد من أكثر مراحل التقفية تطوراً عن طريق توفير كامل الحرية للشاعر في إبداع قصيدة حديثة من دون قيود وشروط مسبقة وإرسال القافية بهذه الطريقة تجعل منها أكثر غنى وفعالية وفائدة لعالم القصيدة.
إن هذه المرحلة المتطورة من التقفية تكتسب أهميتها الخاصة من كونها لا تظهر في القصيدة بصورة منتظمة مهندسة قصدية، إنما تظهر بوصفها منتجاً داخلياً يتمخض عن واقع القصيدة الدلالي والتشكيلي.
ولعل من أفضل التقنيات التي تسمح بولادة هذا النوع من التقفية هي تقنية التدوير التي تكاد تغيب فيها التقفية الخارجية غياباً كاملاً لا سيما إذا كان التدوير كلياً.