من المصطلحات التي أخذت تنتشر في كتابات مثقفينا المُحْدثين في الآونة الأخيرة، والتي تمتاز بحمولتها المعرفية والاجتماعية والسياسية والحضارية، نجد «التغريب» الذي شكل موضوعا ثريًا لغير واحدٍ من الكتاب المعاصرين.. تُرى ما المقصود به؟
يُراد بـ«التغريب»، في اللغة العربية، النفي والإبعاد عن البلد يقول ابن منظور: «… وغَرَّبَه، وأغْرَبَه: نَحّـاه... والتغْريبُ: النَّفْيُ عنِ البلد... ومنه الحديثُ: أنَّه أمَرَ بتَغْريب الزّاني؛ التَّغْـريبُ: النّفيُ عن البلدِ الذي وَقعَتْ الجِنايةُ فيه. يُقال: أغْرَبْتُه وغَرَّبْتُه إذا نَحَّيْتُـه وأبْعَدْته... وغَرَّبَه وغَرَّبَ عليْه: تَرَكَهُ بُعْدًا» .
انطلاقًا من التعريفات المُعجمية لكلمة «تغريب» يمكن أن نسجِّل المَلاحِظَ الآتية:
> يستعمل علماء اللغة «الإغْراب» و«التغريب» بمعنىً واحدٍ، وهو التنْحية والإقصاء من الوطن.
> ورد لفظ «التغريب» في كلام النبي ص بالمعنى الذي يَقصده علماءُ اللغة، والملاحَظُ أن هذا المعنى شهد تطورًا واضحًا مع مرور الأيام، ودخل ميادين حسّاسة وخطيرة في وقتنا الحاضر خاصة.
> إن «التغريب» مصدر قياسي للفعل غير الثلاثي «غَرَّب». وهذا الفعل مَزيدٌ بالتضْعيف، وأظن أن معنى هذه الزيادة هو «صَـيْرورة شيء شِبْه شيء»، ولا سبيل إلى فهْم هذا المعنى، إذا ما اقتصرنا على الدلالة المعجمية للتغريب، بل لابد من ربْط هذا المعنى بالدلالة السياسية والإيديولوجية والحضارية للكلمة.
> التغريبُ انتقال إجْباري وابتعاد اضطراريّ، لا يَملك الإنسانُ السلطة لرَدِّه أو دَفْعه، بل يُفرَض عليه فرْضًا، ويسمِّي بعض الدارسين هذا النمطَ من الارتحال بـ«غربة القهـر» .
> تقتصر التعاريف القاموسية على إبراز الجانب الحِسّي للتغريب، والذي يتجلى في النفي والإبعاد القسْري عن الوطن والأهل، والحق أن ثمة جانبًا معنويًّا للتغريب يفوق الجانب السابق في الخُطورة.
والواقعُ أن دلالة التغريب تتغير بانتقالنا من الإطار اللغوي إلى الأطر الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتتشعَّب معانيه مع توالي الأيام، فالتغريب، كما ندركُه في الوقت الحاضر، ليس هو التغريب الذي كان يَعرفه «الجوهري» أو «ابن منظور».
يُطلق «التغريب»، في الاصطلاح الثقافي والفكري المعاصر، غالبًا على «حالات التعلق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية والأخْذ بالقيم والنُّظم وأساليب الحياة الغربية؛ بحيث يصبح الفرد أو الجماعة أو المجتمع المسلم الذي له هذا الموقفُ أو الاتجاه غريبًا في مُيوله وعواطفه وعاداته وأساليب حياته وذوقه العام وتوجهاته في الحياة، يَنظر إلى الثقافة الغربية وما تشتمل عليه من قِيم ونُظم ونظريات وأساليب حياة نظرةَ إعجابٍ وإكبار، ويرى في الأخذ بها الطريقة المُثلى لتقدُّم جماعته أو أمته الإسلامية»
وهذا المعنى قريبٌ من دلالة الفعل «غَرَّب» (To Westernize) في الإنجليزية، إذ يعرِّف معجم «أوكسفـورد» هذا الفعل على النحو الآتي: «To Make an eastern country, person, etc more like one in the west, esp in ways of living and thinking, institutions, etc» (5) أي جعْل الشرق تابعًا للغرب في الثقافة وأساليب العيش وطرق التفكير… وفي الفرنسية، يعني التغريب الشيء نفسَه.
ويتخذ التغريب أشكالا مختلفة، لعل أخْطرها «التغـريب الثقافي»، لأنه إبْدال ثقافي يتغيّى إحْلال ثقافة أجنبية محلَّ الثقافة المحلية الأصلية، مع ما يرافق ذلك من مظاهر التبدُّل والتغيـير.
وعندما يتحدث الباحثون والمفكرون المسلمون عن التغريب، فإنهم يشيرون إلى واقع يومي مَعيش مشاهَد في الحياة المادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية، واقعٍ صنَعَته ظروفٌ تاريخية عصيبة، وتضافرت على نسْج خُيوطه عواملُ كثيرة، وبالنظر إلى عُمق ظاهرة التغريب في حياتنا الثقافية المعاصرة، فإننا نرى هؤلاء الباحثين يستعملون عددًا من المصطلحات للدلالة عليه، نحو «الاغتراب الثقافي»، و«الإلحاق الثقافي»، و«الاسْـتِلاب الثقافي»، و«المَسْـخ»، … ومن المؤكَّد أن مصطلح «التغريب»، بدلالته المعاصرة المعروفة، من نَتاج الفكر الغربي، ويرتبط بالحركة الإمبريالية الأوروبية التي انطلقت في القرن التاسع عشر. يقول محمد مصطفى هدارة إن «اصطلاح «التغـريب» ليس من ابتكارنا في الشرق، ولكنه ظهر في المعجم السياسي الغربي باسم «Westernyation»، وكانوا يعنُون به نشْر الحضارة الغربية في البلاد الآسيوية والإفريقية الواقعة تحت سيطرتهم عن طريق إزالة القُوى المضادَّة التي تحفظ لهذه البلاد كِِيانَها وشخصيتها وعاداتها وتقاليدها، وأهمّها الدين واللغة، وفي زوال هذه القوى ضمانٌ لاستمرار السيطرة الغربية السياسية والاقتصادية حتى بعد إعلان استقلال هذه البلاد وتحرُّرها من نَيْر الاستعمار الغربي ظاهـريًا»
إذن، فالموجة التغريبـية تستهدف ضَرْب ثوابت الأمة الإسلامية التي تتجلى في القرآن الكريم واللغة العربية الفصحى، وتروم تقويض دعائم المجتمع الإسلامي، وذلك حتى تتمكن من تنفيذ مخططاتها التخريبية، وتمْرير مشاريعها النَّتِنَة المسطَّرة بدقة متناهية، والغربُ يعرف أن صراعه المباشر مع القرآن سيكون مآله الفشل والإخفاق؛ لأنه واعٍ تمامَ الوعْي بمدلول الآية الكريمة: {إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنَّا لهُ لحَافِظون} (الحجر) أي إن القرآن تكْلـؤه العناية الربانية الأزلية؛ لذا، عزم على ضرْبه انطلاقًا من جوانبَ أخرى كاللغة والأسرة.. وعليه، فقد عمَد إلى تشجيع اللغات العامِّية في مجال الأدب والإعلام، وتمكن من خلْق بَلبَـلة واضطراب في صُفوف الأسرة المسلمة بوصفها عمادَ المجتمع الإسلامي، وقد استطاع التيار التغريبي أن يحقق جملة من الأهداف والنتائج؛ فوُجد له أنصارٌ من أبناء المسلمين يروِّجون لأطاريحه وأفكاره ابتغاءَ الحصول على الثروة والجاه، وتولَّدت طائفة من المتغرِّبين الذين بَهَرَتهم الحضارة الغربية ببَهْرجها وشكلها الخَدّاع.