يطل علينا مكريدس هذه المرة بمؤلف فى الفكر السياسى الحديث والأيديولوجيات السياسية المعاصرة التى يعنونها القرن التاسع عشر كبداية للتشكيل النظرى والأيديولوجى شبه النهائى الذى لا نزال نعيش عليه عالم القرن العشرين مع بعض الطروحات التطويرية والتفسيرية لكن ذلك العالم هو العالم الغربى بشقيه الشرقى الماركسى والغربى الرأسمالى، أما عن العالم الثالث فحاله لا يحسد عليه، فهو متلقى لكل الأفكار الغربية الماركسية والليبرالية بجانب ما يعمل فى بنيانه الفكرية والثقافية من أيديولوجيات أصيلة أى من نبت واقعه ومكريدس هو أستاذ لعلم العلاقات الدولية والسياسة الخارجية وله بعض الدراسات فى الحكومات المقارنة، والنظم السياسية الحديثة: أوروبا، وهو مؤلف الكتاب الموسوعى مناهج السياسة الخارجية و تحولات السياسات الفرنسية و وتقديم مكريدس هنا لا يقل عن خمس أيديولوجيات أو فلسفات كبرى وبداخل كل منها ما لا يقل عن خمس بناءات فكرية وأيديولوجية ونظرية، من هنا جاء المؤلف من النوع النصى textbook أو المدرسى ومن ناحية أخرى فإن مكريدس قد نسى أن هناك عالما ثالثا فيه من الحضارات والأفكار والأيديولوجيات ما تعجز عن رصده المجلدات بل من المؤكد أن مكريدس نسى العالم الثالث تماما، فمن المطالعة الأولية لعنوان الفصل الثانى من القسم الرابع : القوميات القديمة والجديدة: يمنى المرء نفسه بأنه قد يقول شيئا عن الفكر القومى أو الظاهرة القومية فى العالم الثالث، إلا أنه من القراءة الأولى نجده يعالج الظاهرة القومية مع الثورة الفرنسية فى القرن التاسع عشر، ويتناول أيضا ما يسميه بالقومية الأثنية العنصرية ethnonationalisms وهى التى توجد فقط عنده فى كويبك الفرنسية بكندا أو جيورجيا زبكستان أوكرانيا فى الاتحاد السوفيتى، الكورسيكيون فى فرنسا، الخ (ص278-279) إن عدم معالجة الفكر والأيديولوجيا والتيارات التى تموج بها مجتمعات العالم الثالث يقلل بدرجة كبيرة من أهمية المؤلف حتى إذا كان الكتاب مؤلفا لطالب أو قارئ غربى فعليه على الأقل معرفة ألف بائيات ما تصطرع فيه الأفكار والتيارات السياسية حوله فى بلدان العالم الثالث، هل نتذكر كتاب سافران عن مصر فى بحثها عن المجتمع السياسى وهو كتاب ليست صفحاته قليلة يدرس التيارات الفكرية فى مصر العشرينات إلى الأربعينات فقط، وهل نتذكر كتب روزفنال عن الإسلام، ومتشيل عن أيديولوجية الأخوان المسلمين، هذا فضلا عن الكتب الكثيرة التى تعالج الفكر فى آسيا وأفريقيا غير الإسلاميتين، وأخيرا وليس أخرا الأيديولوجيا والنظريات فى أمريكا اللاتينية أهمية الأيديولوجيا كنسق حياة: ومن النقاط الهامة التى أشار إليها مكريدس الدور الذى لا تزال تلعبه الأيديولوجيا فى حياتنا، وهو هنا يأخذ الأيديولوجيا بالمعنى الواسع فهى ليست محدودة فقط بأفكار ومدركات نظرية مختزنة فى أذهان معتنقيها، وهى لا تتوقف بآثارها عند هؤلاء المنادين بها، فلم تعد ملكا خاصا بهم، أنها بمعنى واسع المردود الفكرى والقناعة الثقافية وراء كل سلوكيات الأفراد والجماعات فى أى مجتمع، فإن الفرد فى تحركه السلوكى إزاء أية ظاهرة أو حدث أو فرد أخر إنما يفعل ذلك انطلاقا من فكرية ما تدفعه إلى التعامل مع الأشياء بشكل يتسق وتلك القناعة هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يستنتج من تحليل مكريدس لدور وظيفة الأيديولوجيا أنها لم تختلف فى حياتنا وإن كان المنطوق اللفظى المعبر عن المنطق الأيديولوجى قد أضحى سهل التعبير مبسطا وحتى مبتذلا، حتى ما يقال عنه بغلبة الاتجاه الواقعى فى حياتنا، فإن هذا الواقعى له مردوده النظرى أيضا، فإن غلبت الواقعية على السلوك السوفيتى مثلا فى السبعينات أو فى السلوك الصينى بعد رحيل ماو، فإن ذلك منطق كما يقول مكريدس من أن الشيوعية أضحت فى البلدين أيديولوجية الأمر الواقع كما أن التعديل الواقعى يعود فى بداية العمل به إلى المستند الأيديولوجى، حتى لو جاء مجرفا للمضمون الأصيل للأيديولوجيا الشيوعية والعالم الثالث: ونأتى هنا إلى أهم القضايا التى تناولها مكريدس والجديرة بالعرض، ومن هذه الموضوعات ما يتصل بواقع الشيوعية والأحزاب الشيوعية فى بلدان العالم الثالث أو البلدان النامية، عن هذه المسألة يتحدث مكريدس عن أن إمكانية تطبيق النموذج الشيوعى قد دخلت دائرة الضوء وراقت لعديد من قادة الاستقلال فى دول العالم الثالث المستقلة حديثا، إلا أن ضعف معظم الأحزاب الشيوعية فى هذه البلدان وعدم تنظيمها الجيد قد ساهم فى محدودية الدور الذى لعبته بعد الاستقلال، كما أن عددا من قادة الدول المستقلة حديثا كان يطلق على نفسه أنه ماركسى، وهو الذى أدى أيضا من وجهة نظره إلى الاكتفاء بكون هؤلاء القادة يعلنون الماركسية خصوصا فى الدول الأفريقية، وبالتالى عدم إفساح دور سياسى للأحزاب والجماعات الشيوعية فى بلادهما، كما يذكر أن معظم دول العالم الثالث تحظر قانونا قيام أحزاب شيوعية، ويستثنى مكريدس من ذلك إسرائيل ويعتبرها دولة من دول العالم الثالث لكن إسرائيل لا تعتبر من دول العالم الثالث نتيجة الاختلاف الكامل فى السمات والظروف التاريخية والمعاصرة والموضوعية بين أية دولة من دول العالم الثالث وبين إسرائيل على أن الحقيقة التى عاشتها الدول النامية مع المعسكرين تبين أن الغرب لم يكن كريما أو معطاء فى معوناته ومساعداته الاقتصادية والمالية لهذه الدول، بنفس القدر الذى كان فيه السوفييت مقترين، وإذا فاضلنا بين الإمكانيات الاقتصادية والتكنولوجية للمعسكرين بمنطق مكريدس لوجدنا أن الغرب هو الذى يجب عليه أن يقدم معونات، ومساعدات أكثر، هذا فضلا عن أنه حتى فى تقديم الغرب المساعدات فهو يضع قيودا أو شروطا على استخدام وتوظيف هذه المعونات وهذه القيود تصل إلى استخدام وتوظيف هذه المعونات وهذه القيود تصل إلى حد المساس بالاستقلال السياسى والاقتصادى للدولة المتلقية للمعونة، فتصبح دولة تابعة للغرب، بالإضافة إلى أن المساعدات والمعونات والقروض التى يقدمها السوفيت عادة ما توجه إلى مشاريع التنمية الضخمة التى تساهم فى تأسيس البنى الأساسية للمجتمع كالتصنيع والكهرباء الخ بينما يشترط الغرب توجيه معوناته إلى مشروعات استهلاكية ترفيه مظهرية تنتج سلعا استفزازية تنفيذ القلة الطفيلية فى المجتمع المتلقى للمعونة وينقلنا مكريدس إلى رأى غريب إلى حد كبير، فهو يرى فى البداية أن الأيديولوجيات والمؤسسات ليس من السهولة أن تستورد وهذا صحيح إلى حد بعيد، لكنه لا يساوى فى ذلك بين الليبرالية وبين الشيوعية فعنده أن الدول النامية رفضت تماما النموذج اللينينى أو القالينى للحزب الواحد، لكنها تحاول تطبيق حاجاتها وثقافاتها السياسية مع الأيديولوجيا الليبرالية والواقع أن الفشل قد لحق النموذجين الشيوعى والليبرالى معا، وخرج تطبيق أى منهما مسخا مشوها وهزيلا ولم يؤد هدفه الذى طبق من أجله، فضلا عن أن الغرب لا يشترط فى تحالفاته مع الدول النامية إتاحة نوع من الديمقراطية فى المجتمع، وقد تحالف مع نظم ضاربة فى الفاشية والاستبداد، أمثال الفليبين والبرازيل والأرجنتين وشيلى ما بعد الليندى الاغتراب فى المجتمع الرأسمالى: وينتقل مكريدس إلى الحديث عن ظاهرة الاغتراب فى المجتمع الرأسمالى الغربى، وهى التى جاءت إفرازا موضوعيا لظهور حركات وانتقاضات وتمرد الشباب فى المجتمع الرأسمالى المتقدم، ونلاحظ أن تعريفه لمفهوم الاغتراب يقصر ظهوره على المجتمع الذى حقق خطوات بعيدة فى طريق نمو الصناعى والتكنولوجى، فالاغتراب يعبر عن حالة عقل الإنسان الذى يعيش فى مجتمع صناعى (ص245) وهنا يستبعد مظاهر وظواهر الاغتراب فى بلدان العالم الثالث وعن أنماط الاغتراب يقول أن هناك ثلاثة أشكال أساسية له، بالطبع فى المجتمع الصناعى التكنولوجى المتقدم
1- ظاهرة اقتلاع الاجتثاث: uprootedeness أى الانفصال الذى يحدث للفرد عن الجماعة الأولية: كالأسرة، القرية والقيم البسيطة للحياة الريفية التقليدية، وهذه الظاهرة تحدث فى المراحل المبكرة للتصنيع، حيث ينتقل الفرد من الريف بحثا عن العمل فى بيئة جديدة
2- النمط الثانى من الاغتراب يظهر عندما يتقدم الفكر العلمى والعقلانى فى التكنولوجيا، حيث البحث عن الموضوعية والميل نحو محاولة فهم العالم فى قوالب القوانين والنظم، أن التفكير العقلانى الذى يختبر كل شئ عن طريق القياس والتحقق التجريبى وذلك يؤدى إلى فقدان الإنسان جوهر وجوده، العواطف المشاعر والوجدان 2- النوع الثالث هو النمط الكلاسيكى من الاغتراب الذى قدم له أدم سميث وطوره كارل ماركس، وهو انفصال العمال عما ينتجونه ففى المجتمع الصناعى لا يكون سيطرة أو ملكية مادية لما ينتجون، وليست لديهم حرية فى أن يقرروا ماذا ينتجون وينظمون ما ينتجون غير أن الواقع فى بلدان العالم الثالث لا يألف هذه الأنماط من الاغتراب، فأسبابها ليست موجودة، وظاهرة الاغتراب فى هذا العالم ليست نتاجا طبيعيا أو إفرازا أمينا لتركيبة المجتمع أو الآلية التى تتحكم فيه، أى هى ليست من مكونات آليات النظام كالمجتمع الصناعى الرأسمالى، حيث التضخم والبطالة وضعف الأداء وبالتالى الاغتراب من آلياته .